كتب مروان ياسين الدليمي
السينما والمسرح والمكارثية الرقمية: تساؤلات حول الكراهية والعنصرية والإسلاموفوبيا
اندفع العالم الغربي بعد أحداث 11 ايلول/سبتمبر 2001 إلى خطاب إعلامي متطرف في جميع وسائط التعبير الفني وخاصة السينما، تجاه شعوب العالم العربي والإسلامي، وكانت الولايات المتحدة الأمريكية ومعها دول أوروبية رأس حربة ذلك الخطاب العنصري، ونجحت أمريكا في تعبئة الجمهور لدعم سياستها، رغم ما نتج عنها من وحشية وتدمير. فقدمت في عدد من الأشرطة السينمائية الإنسان العربي الشرق أوسطي والمسلم، باعتباره نموذجا للإرهابي، وحملته مسؤوليته العنف الذي أخذ يجتاح العالم، ومن جهة أخرى نأت بالبطل الأمريكي عن هذه المسؤولية معتبرة إياه ضحية للإرهاب. وبعد مضي أكثر من عقدين على سياسة شيطنة العرب والمسلمين، برزت على سطح المشهد السياسي في أمريكا وأوروبا تيارات شعبوية عنصرية، تنذر خطاباتها بعواقب خطيرة على السلم المجتمعي الدولي، وهذا ما تؤكده نتائج الانتخابات عندما تمكنت أحزاب يمينية متطرفة من الفوز في أكثر من بلد غربي، حتى غدت الأجواء متاحة لاظهار هذه الأفكار والتعبير عنها بممارسات عنصرية تحت راية مكافحة الإرهاب، ما أعاد إلى الأذهان ظروفا مشابهة كانت قد مهدت لصعود النازية في ثلاثينات القرن الماضي ومن ثم الحملة المكارثية في أمريكا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية.
وما أن ظهر الفن السينمائي عام 1895 على يد الأخوين الفرنسيين أوجست ولويس لوميير حتى بدا ذلك إيذانا بنشوء نقطة تحول مهمة في الحرب الدعائية، ستضاف إلى أساليب تشكيل الوعي وغسل الأدمغة وتوجيه الرأي العام لصالح خطاب الأنظمة الحاكمة، واتضح ذلك في ما أولته السلطة الشيوعية من اهتمام ورعاية للفن السينمائي بعد أن نجحت في تحقيق ثورة أكتوبر عام 1917 في روسيا، فعملت على توظيف النتاج السينمائي لخدمة بروبغاندا الحزب، عندها أمست السينما من أهم الوسائل الدعائية في الحرب الثقافية ضد خصومها الايديولوجيين. وفي نفس السياق ذهبت النازية إلى رعاية الفن السينمائي، خاصة الأفلام الوثائقية، باعتبار الفيلم سلاحا فعالا لتمرير رسائل دعائية تظهر مدى قوة الحزب النازي وايديولوجيته العنصرية. إلاَّ أن انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945 كان بمثابة النقطة الأكثر وضوحا في موضوعة استثمار الفن السينمائي في الحرب الباردة ما بين السلطة السوفييتية والولايات المتحدة الأمريكية، وتحول إلى ميدان ساخن لممارسة أساليب الحرب الايديولوجية ما بين المعسكرين المتصارعين الشيوعي والرأسمالي فكان ظهور الحملة المكارثية جزءا من ذلك الصراع .
فنانون في القائمة السوداء
تجسدت المكارثية في سؤال أساسي كان يطرح على من يشتبه بانتمائه للحزب: «هل أنت شيوعي، أو كنت شيوعيا في يوم ما؟» مستهدفة الفنانين والكتاب والمثقفين والعلماء والموظفين الذين يشتبه بانتمائهم للشيوعية. وقد أطلقت عليها الدعاية الأمريكية «الخطر الأحمر» والمقصود بهذا المصطلح الشيوعية. ومن أبرز المخرجين والممثلين السينمائيين الذين طالتهم الحملة، جون هيوستون، همفري بوغارت، تشارلي تشابلن، إيليا كازان، إدوارد ديمتريك وجوزف لوزي وجول داسين وجون غارفيلد.
وإلى جانب عشرات المثقفين والفنانين، ضمت القائمة السوداء 205 موظفا كانوا يعملون في وزارة الخارجية الأمريكية، والتهمة التي وجهت إليهم محاولة الإطاحة بالحكم باستخدام العنف. وفي حينه صرح القاضي وعضو مجلس الشيوخ جوزيف مكارثي، الذي سميت الحملة باسمه إن «وزارة الخارجية مليئة بالشيوعيين وبعديمي الكفاءة وعلينا اقتلاعهم منها». وبموجب القائمة منع الجميع من العمل نهائيا، وفرضت على تحركاتهم رقابة شديدة، فكانت تداعيات هذه الإجراءات سيئة جدا على حياتهم ومستقبلهم المهني، بعد أن أوصت اللجنة التي كان يديرها مكتب التحقيقات الفيدرالي برئاسة ادغار هوفر «بعدم تعيين أي واحد منهم في منصب وعدم تجديد عقده أو الوظيفة التي يتولاها، وعلى أن يتم إنهاء عمله بهدوء، ودون أن يكون هناك أي دليل على أن مكتب التحقيقات الفدرالي يقف وراء ذلك». هذا ما أشارت إليه المؤرخة والبروفيسورة إيلين شريكر وهي تؤرخ لتلك المرحلة.
مسرحية «البوتقة»
في ظل ذلك المناخ المسموم بالتخوين والقهر، لم يحتمل الكاتب المسرحي الأمريكي آرثر ميللّر (1915- 2005) الحملة المكارثية، فعمد إلى كتابة نص مسرحي بعنوان «البوتقة»عام 1953 انتقد فيه بشكل غير مباشر ما كان يجري من عمليات إرهاب في ظل تلك المحاكمات، من خلال إسقاط أحداث تاريخية جرت ما بين (1692- 1693) على الواقع المعاصر، مستعيدا في نصه تلك الحملة الشرسة التي شنّتها الكنيسة ضد أي رأي يخالفها. وقد أثارت المسرحية جملة قضايا كان الواقع الأمريكي يعيش تحت ضغطها مثل الخوف، وإرهاب الخُصُوم، وتشويه سُمعَتِهم. فحظيت المسرحية بتقدير كبير من قبل الجمهور والنقاد، ونال عنها ميللّر جائزة «بوليتزر». ومع ذلك لم يسلم في ما بعد من لجنة المكارثية، فمثل أمامها في حزيران/يونيو 1956.
فيلم الواجهة
وبما أن مهمة الفنان في مجمل حقول الإبداع عدم الخنوع أمام ما يراه من قهر، كان هناك عدد من الفنانين السينمائيين الذين توقفوا أمام تلك المرحلة للتذكير بخطورتها على الحرية وخطورة التزام الصمت في حالة عودتها مرة أخرى. وهذا ما عبر عنه فيلم «الواجهة» إنتاج 1976 للمخرج والممثل الأمريكي وودي آلن، حيث يعيد الفيلم سرد حكاية استوحاها من حقبة المكارثية السوداء، وما ساد من مناخ عام اتسم بالشك والإرهاب، لم يسلم منه أي فرد أمريكي.
كتب سيناريو الفيلم ولتر بيرنستاين الذي سبق أن كان اسمه ضمن قائمة المراقبين أثناء فترة المكارثية.
في هذا الفيلم يظهر الممثل وودي آلن بشخصية مقامر لاعلاقة له بأي نشاط فكري، لكنه يتورط بالمشاكل مع مكتب التحقيقات الفيدرالي عندما يستجيب لطلب صديقه الذي يعمل كاتبا مسرحيا، بأن يوقع على نصوصه بأسمه، لأنه كان ضمن الأشخاص المدرجين على القائمة السوداء .
فيلم «ترومبو»
يعد فيلم «ترومبو» إنتاج 2015 إخراج جان تروش، من أحدث أفلام هوليوود حول المكارثية، إذ يتناول محنة «دالتون ترومبو» كاتب السيناريو الشهير وعضو الحزب الشيوعي الأمريكي، الذي كان مرشحا قويا لنيل جائزة الأوسكار عام 1947 باعتباره أفضل كاتب سيناريو، إلاّ أن ذلك تزامن مع الحملة المكارثية، فخضع للاستجواب، لكنه سخر من اللجنة ورئيسها جوزيف مكارثي، وأعلن رفضه الوشاية بزملائه. فتم سجنه مع فنانين آخرين أطلقت عليهم هوليوود «قائمة العَشرَة» ضمت إلى جانب ترومبو، المخرج إدوارد ديمتريك، المنتج ادريان سكوت، الممثل سترلينغ هايدن. في مقابل ذلك أعرب عدد من السينمائيين عن تأييدهم للمحاكمات وما صدر عنها من عقوبات بحق المتهمين من زملائهم، في مقدمة هؤلاء أصحاب شركات الإنتاج أمثال جاك وورنر، لويس ب. ماير، إرفينغ تولبيرغ ووولت ديزني، إضافة إلى ممثلين ساندوا اللجنة أيضا، مثل جون واين ورونالد ريغان الذي كان نقيبا للممثلين وعضوا في الحزب الديمقراطي.
يسرد فيلم «ترومبو» جانبا من تفاصيل المحنة التي مر ترومبو بعد أن منع من العمل. فما كان منه إلاّ أن يستخدم ذكائه للتحايل على عقوبات لجنة مكارثي بقصد تأمين لقمة عيشه والتغلب على صعوبات الحياة، فلجأ إلى التستر وراء مجموعة أسماء مستعارة وفاز بجائزتي أوسكار. ثم جاءت لحظة مهمة من سيرته الذاتية عام 1960 عندما طلب منه الممثل كيرك دوكلاس أن يعيد كتابة سيناريو فيلم «سبارتوكوس» لأنه لم يكن مقتنعا بالمعالجة التي قدمها كاتب النص الأصلي. ولمَّا نال الفيلم جائزة الأوسكار وحظي بتقدير الرئيس جون كندي، وجد دالتون أن الوقت بات مناسبا للمواجهة، فكشف عبر حوار أجري معه عن مجموعة الأسماء المستعارة التي كان يختفي خلفها في الأفلام التي كتبها. وفي الحفل الذي أقيم يوم استلامه لجائزة أفضل كاتب سيناريو في هوليوود، وقف خلف المنصة وأعلن إدانته لعبثية القائمة السوداء، وما تسببت به من أذى نفسي ومادي للفنانين والكتاب الذين تم أدراج أسمائهم فيها، كما وجه نقدا لاذعا ضد من تورط في كتابتها مثل الصحافية هيدا هوبر والممثل جون واين ورونالد ريغن وآخرين.
نال فيلم «ترومبو» أوسكار أفضل سيناريو لعام 2015 وقدم شخصية دالتون ترومبو الممثل براين كرانستون .
المكارثية والتقنية الرقمية
ما تزال الحرية في أمريكا تعيش في دائرة المكارثية، طالما هناك لوبي صهيوني يتحكم بحرية الرأي، ويعاقب من يرتفع صوته محتجا على أفكار وقناعات اللوبي، بمضايقته وسحب الأضواء عنه، ومنع شركات الإنتاج من التعامل معه، وصولا إلى تدمير مسيرته المهنية. وهذا ما حدث مع عدد من نجوم أمريكا خلال الأعوام القليلة الماضية، أبرزهم الممثل والمخرج الأمريكي ميل غيبسون بعد أن أخرج فيلم «آلام المسيح» عام 2004 لتطاله حملة إدانة ممنهجة من جماعات صهيونية، مدعية أن الفيلم يسهم في إذكاء المشاعر المعادية للسامية. تزامن ذلك مع تصريح نسب إلى غيبسون مفاده إن «اليهود مسؤولون عن كل حروب العالم». فكان ذلك بمثابة القشة التي قصمت ظهر مستقبله المهني، فانقطع بسببه عن العمل عدة أعوام، وأدمن على تعاطي المخدرات ثم انهارت حياته الزوجية، ولم يعد يتلق عروضا من الشركات بينما كان في ذروة عطائه ومجده من بعد نيله جائزة الأوسكار عام 1995عن فيلمه «القلب الشجاع» كما ترشح أكثر من مرة لجائزة الأوسكار في أفلامه الأخرى، حدث كل ذلك قبل أن يقع في المحذور.
هناك أسماء أخرى لمفكرين وساسة أصابهم ما لحق بالممثل غيبسون من أذى، مثل المفكر الفرنسي روجيه غاردوي، والنائبة عن حزب العمال البريطاني نازشاه التي عوقبت بتجميد عضويتها في الحزب بعد أن صرحت إن «حل النزاع الإسرائيلي الفلسطيني يكمن في أن تنقلوا إسرائيل إلى الولايات المتحدة،رعندها ستحل المشكلة».
اليوم في ظل التقنيات الرقمية في وسائط الاتصال، تتخذ المكارثية شكلا آخر من عمليات المراقبة، فمكتب التحقيقات الفيدرالي لم يعد مضطرا في ظل عمليات تنصت رقمية عالية الدقة إلى إيداع أي شخص في السجن إذا ما تعرض في مكالماته الهاتفية إلى انتقاد قضايا تمس الأمن القومي، وبدلا عن ذلك اكتفى بحالة الذعر التي نجح في إشاعتها بين أوساط جميع المواطنين، نتيجة إدراكهم أن جميع مكالماتهم خاضعة للمراقبة الشديدة، حتى أصبح لديهم قناعة بأن هناك ملفات جاهزة عنهم تضعهم في دائرة الإدانة، لكنهم لا يعلمون متى سيتم استدعائهم، بمعنى أن الخوف تغلغل فيهم وباتوا بغاية الحذر في مكالماتهم الهاتفية. وبناء على ذلك يبدو العالم على هذه الصورة، لم يتخلص من شبح المكارثية، طالما تمكنت العنصرية من أن ترتدي قناع الشعبوية اليمينية المتطرفة.