الكاتب: أحمد عمورة، عضو في كل من الهيئة العامة لمنظمة متحدون ضد التعصب الطائفي وهيئة علماء المسلمين في لبنان
تكمن أهمية “التعايش” باعتباره مقصدا من المقاصد العامة للشريعة، ومبدءا مركزا نشطا من مبادئ فلسفة “الاجتماع الديني والسياسي” وحلّا لعدد من “القضايا العالمية”.
قال المُفكّر المقاصدي علّال الفاسي في (مقاصد الشريعة ومكارمها): “إن المقصد العام للشريعة الإسلامية هو عمارة الأرض، وحفظ نظام التعايش فيها، واستمرار إصلاحها بصلاح المستخلفين فيها، وقيامهم بما كلفوا به من عدل واستقامة، ومن صلاح في العقل والعمل، وإصلاح في الأرض، واستنباط لخيراتها وتدبير لمنافع الجميع” ص ٤٤.
ويسعى الفيلسوف وعالم الاجتماع يورغن هابرماس (١٩٢٩- )، إلى بلورة سند فلسفي للتعايش من خلال نظريته عن “العقلانية التواصلية” التي تحكمها أخلاقيات وآليات الإقناع بلا قمع ولا أقنعة، وتمارسها ذات أخلاقية قادرة على الفهم والتفاهم والفعل والتفاعل والوصل والتواصل المُثمر والمؤثر. فنظرية التواصل، واحدة من أهم إسهامات الفلسفة العملية المعاصرة التي ارتبطت بهابرماس، وهي تتعلق بمباحث: الحوار والمحادثة والمناظرة، وطيف العلاقات بين الأنا بالآخر.
وكذلك يشكل “التعايش” شريكا أساسيا في معالجة مجموعة من القضايا العالمية مثل: “السلام والأمن، والعدالة وحقوق الإنسان والعنصرية، والنزاع المسلح ونزع الأسلحة وخاصة أسلحة الدمار الشامل”.
إن ضراوة الاعتداءات العنصرية والصراعات الطائفية والحروب العالمية لا تجعل من “التعايش” مقصدا شرعيا أو مبدءا فلسفيا أو حلا عالميا فحسب بل ضرورة وجودية أيضا.
التعريف: التعايش مستوى متقدم من مستويات “التفاعل” ومؤشر من مؤشرات “التعافي” في بيئة تعددية.
التوصيف: تفاعل يتم بين طرفين أو أكثر يعيشون في بيئة مشتركة ويأتون من خلفيات مختلفة ومضطرون لتدبير شؤون عيشهم طَوعا أو كَرها.
الإطار: رباعية “المعرفة والتعارف والمعروف والاعتراف” المعرفة العميقة والمُنصِفَة، والتعارف المباشر والنشِط، والمعروف القيمي والتكافلي، والاعتراف بالخصوصية والاختلاف.
– الأهداف: حفظ الخصوصيات وفضّ الخصومات وتحصين المكتسبات وتحصيل المصالح ودرء المفاسد والمخاطر.
– الأسس: المشترك الإنساني والديني والوطني والمناطقي، والمصالح المشتركة، والتنوّع النوعي التعاوني، والتضامن والتعاون في تحمّل المسؤوليات، وتداول السلطة، وتحصيل الحقوق وتفهّم الهواجس، ومكافحة العمالة والاستبداد والفساد والجهل والفقر والمرض والتخلف والعنف.
ـ المعاول: وكما أن للتعايش عوامل بناء فله معاول هدم، ومن هذه المعاول التنكّر للفطرة والجهل والفقر والتطرف والعنف والعمالة، التنكّر الذي يضرب الأسس البنيوية والأخلاقية للتعايش، والجهل الذي يتغذّى على الخرافة والوهم والصور النمطية التي “تشيطن الآخر”، والفقر فكما جاء في المثل الشعبي “القِلّة بِتجُرّ النقَار” أي أن قلة المال والموارد تؤدي إلى النزاع عليها، والتطرف العنيف الذي يؤدي إلى البغي والعدوان، والعمالة التي تشكّل “حصان طروادة” للقوى الأجنبية.
ـ الدرجات: يتدرج التعايش من “كفّ الأذى” إلى “إعلان النوايا” ثم “الاقتراب الحذر” ثم “تبادل الزيارات الموسمية” ثم “حسن الجوار” ثم “التعاون بالمعروف” ثم “التضامن في النوازل” وصولا إلى “التعايش البنّاء”.
– الضوابط: الدينية والأخلاقية والقانونية للتعايش، فمن الناحية الدينية ينضبط التعايش بالثوابت الدينية المتعلقة بوحدة الخالق ووحدة الأصل البشري ووحدة الكوكب، والكلمة السواء والناس سواسية، والاعتراف بالأعراف والاختلاف، والتفاضل بالتقوى، والأمر بالبر والقسط بين المسلم والمسالم بخلاف المحارب والباغي والمحتلّ، قال تعالى: ﴿ لا يَنهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذينَ لَم يُقاتِلوكُم فِي الدّينِ وَلَم يُخرِجوكُم مِن دِيارِكُم أَن تَبَرّوهُم وَتُقسِطوا إِلَيهِم إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقسِطينَ إِنَّما يَنهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذينَ قاتَلوكُم فِي الدّينِ وَأَخرَجوكُم مِن دِيارِكُم وَظاهَروا عَلى إِخراجِكُم أَن تَوَلَّوهُم وَمَن يَتَوَلَّهُم فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمونَ﴾ ومن الناحية الأخلاقية ينضبط التعايش بأخلاق المروءة والشهامة والرحمة والحكمة وحق الجوار وفضل الحوار، ومن الناحية القانونية ينضبط بمنع التحريض الطائفي وتجريم إثارة النعرات الطائفية وتهديد السلم الأهلي.
– المستويات:
- “المستوى الريادي”: ثمرة اللقاء والنقاء والانتقاء والارتقاء بين “الشخصيات المؤثرة” من أهل “الإرادات الخيِّرة” و”العقول النيِّرة” و”الخِبرة المُثمرة” في “اللحظة الخَطِرة”.
- “المستوى الجمعي”: مجموع (التعارف “معرفيا” + التسامح “وجدانيا” + التوافق “تفاوضيا” + التعاون “سلوكيا”) = التعايش (وجوديا).
- “المستوى الوظيفي”: “توظيف “المتفق عليه” في إدارة “المختلف فيه””.
- “المستوى الظرفي”: غالبا ما يأتي كمؤشر على “التعافي الاجتماعي والسياسي” بعد سلسة من الصراعات والاشتباكات والإخفاقات الناجمة عن إكراهات الواقع وإفرازات الشعوبية والشعبوية وإغراءات السلطة والمال وإملاءات القوى الخارجية.
- “المستوى الواقعي”: هو ثمرة الإصرار والابتكار في “هندسة الأسوار” في المجتمع، بفتح الألباب والأبواب والنوافذ والطرقات وتوزيع الأنوار والأزهار والأدوار بما يحقق السلامة والكرامة والاستقامة، إنها “هندسة بلا هدم وفهم بلا وهم وعزم بلا وهن”.