كتب عمر عابدين :
عند الحديث عن القضايا والظواهر التي ترتبط بالعرقية والقومية، والتي أصبح من الواجب الحديث عنها في ظل متغيرات عدة طرأت على الساحة العالمية منذ أواخر سيتينات القرن الماضى مع الصراعات العرقية، ونشطت مرات عديدة تزامنًا مع ما نراه من توترات جُلبت إلى الساحة الأمريكية والدولية، وزادت شرارتها بعد مقتل “جورج فلويد” المواطن الأمريكي من أصل إفريقى، وما تلاه من موجات صراع وغضب شديدة هددت أكبر ديموقراطيّات العالم، علينا هنا أن نحرر مفاهيم عدة كثر الخلط بينها في الأدبيات السياسية والاجتماعية والأنثروبولوجية، كما زادت حدة الخلط بينها في نقاشات الحياة اليومية.
مصطلحات مثل الأمة، العرقية، الجماعة العرقية، العنصر، العنصرية، الصور النمطية، وغيرها من المصطلحات التي من المهم الفصل بينهما والتعامل مع كل منها على حدة، لكونها مصطلحات لها تجليات ودلالات ومعاني مختلفة، والخلط بينها يؤدي إلى سوء فهم الظواهر، كما أنها أصبحت أداة في أيدي السياسيّين والإعلاميّين، يستمدون منها قوتهم، وتتكون من خلالها صور مغايرة للصور الحقيقة.
تحاول هذه الورقة تناول سؤال “العنصرية”، وهذا من خلال تحليل المفاهيم المرتبطة بأدبيات الإثنية والقومية، والذهاب لمفهمة العنصرية ونظريتها، ثم تناول بعض التحليلات السوسيولوجية متعددة الاتجاهات للعنصرية، وختامًا النزول إلى ميدان العنصرية من خلال مناقشة العنصريات في سياقات عدة، مثل السياق المصري، والسياق التركي، من خلال طرح مواقف وظروف يمكن تسميتها بالعنصرية، قائمة على ميكانيزمات وعناصر تتباين من حالةٍ لأخرى.
1 – قراءة في مفاهيم تمهيدية
العنصر
العنصر أو العرق، تعريفه هو محل خلاف. فمن جهةٍ، يُعرف العنصر بالتشابهات البيولوجية، الفيسيولوجية، الوظائفية، الفيزيائية، السلوكية، اللونية، وتقارب العائلات والأصول اللغوية كذلك. وهنا يمكن أن يصنف البيض، السود، الأسيويّين، البنيّين، الصفر وغيرهم على أنهم عرق أو عنصر. ومن جهةٍ أخرى، يرى منظرو دراسات العرقية والقومية من منظور اجتماعي بنيوى، أن العنصر لا يتمثل في كيان حقيقي، بمعنى أنه ليس له وجود طبيعى، وإنما هو مُتخيل النشأه ومُكون اجتماعي، وهنا لا مجال للحديث عن الصفات البيولوجية، اللونية أو الشكلية. ( Hylland Eriksen, 2010, pp. 5-8)
الأمة
وإذا نظرنا إلى مصطلح الأمة، أو الشعب، فإن تعريف الأمة يأتي في إطار التعريف السياسي أكثر من كونه إجتماعيًّا أو فيزيائيًّا. فالأمة تُربط بكيان الدولة، الدولة القومية، التشابهات السياسية، وظائف الدولة، وحقوق المواطنين.
على سبيل المثال، تُوحَّد الأمة أو يُوحَّد الشعب بأواصر صلبة متماسكة إذا توافرت أرض ومساحة جغرافية، حكومة سياسية متماسكة حاكمة للقوة السكانية بينهم تشابهات عدة، عاملة على الحفاظ على فرض واحتكار قوتها وسيطرتها على المساحة المحكومة، فضلًا عن كونها قادرة على حفظ حق شعبها في تقرير المصير، وسيادته الداخلية والخارجية، وكونها قادرة على الدخول والتأقلم مع العالم الخارجي (العلاقات الدولية). وهذا الكيان السياسي يحافظ على التماسك بين أفراد الدولة الواحدة والحفاظ على الموروثات القديمة مثل اللغة، العادات، والأرض، وخلق متشابهات جديدة تساعد في دوام بقائهم جميعًا معًا.
وهذه المتشابهات التي بدورها تتمركز الأمة حولها قد تكون اقتصادية، عرقية، سياسية، أو قانونية. وكل هذه المشتركات يتم الحفاظ عليها عن طريق الدولة ودورها السياسي التنظيمى.
وإذن فالحديث عن ماهية الأمة يرتبط بعناصر سياسية مثل الدولة، والتشابهات السياسية مثل حقوق المواطنة، الحقوق المدنية السياسية، وغيرها. (Lowell, W. Barrington، 2013)
الجماعة العرقية
فيما إن الجماعات العرقية، هي مجموعة من البشر تتشارك بعض المتشابهات التي ترتبط بالثقافة، التاريخ، الأعراف، العرق، العادات والتقاليد مثل الملابس، الطعام، الموسيقى، اللغة التقليدية، الصفات، والسلوك الاجتماعى، إذن فالإرث والمتشابهات الاجتماعية والثقافية هي مصدر للتكافل بين الجماعات العرقية المختلفة، وتعزز من الهوية الجمعية التي تربطهم جميعًا. ( Hylland Eriksen, 2010, p. 9)
أهم ما يجمع المجموعات العرقية أنها كانت تعيش يومًا من الأيام تحت أرض واحدة لها بُعد تاريخى، وهذا لا يجمعها فقط، بل يزيد من حدة الصراعات العرقية بين الأعراق المختلفة أيضًا. والهوية العرقية ما يميزها عن الهويات الأخرى أنها تعتمد على سمات ترتبط بالـ”نسب”، أو يُعتقد أنها مرتبطة بالنسب. (Chandra, 2006)
ما تتشابه فيه جميع الجماعات العنصرية، الأممية، أو العرقية، هو أنها تتشارك جميعها في كونها “صانعة للحدود”، وهذه الحدود يمكن أن تكون دينية (الإيمان والعقيدة)، اقتصادية (الطبقة، الدخل، إمتلاك رؤوس الأموال، العمالة، …)، سياسية ( المواطنة والتمثيل والحقوق المدنية)، مصالحية، قيمية، ثقافية وغيرها. وهذه الحدود هي التي تشكل الفارق الواضح والحقيقي بين المجموعات بعضها البعض، بجانب الاختلافات الجذرية الباطنة. (Lowell, W. Barrington، 2013، الصفحات 9,10,16)، فيما يرى آخرون أن الأمة وبتعريفها في إطار الدولة القومية يجب أن تتداخل الحدود الثقافية مع السياسية كعاملين أساسيين. (Gellner، 1983، صفحة 1) بالإضافة إلى ذلك، هذه الجماعات تنشئ آليّات تعزز من التجانس بين أفراد المجتمع الواحد، بالإضافة إلى ذلك تتشابه هذه الجماعات مع بعضها البعض في كونها تتشارك علاقات إقصائية متبادلة (تبادلية).
في عبارة آخرى، “نحن” و”هم” دائمًا حاضرة في أذهان هذه الجماعات، فلا يوجد “نحن” بدون “هم”، والآخر دائمًا يتم إقصاؤه بحكم الحدود المصطنعه بين هذه المجموعات التي أشرنا إليها سابقًا. ( Hylland Eriksen, 2010, p. 14) تتعامل هذه الجماعات باختلاف طبيعتها مع الظواهر التي سيتم الإشارة إليها في الأقسام التالية، وأهمها ظاهرة العنصرية.
2 – العنصرية وترابطاتها: اتجاهات نظرية وإمبريقية نحو العنصرية
اختلفت الأدبيات حول تعريف العنصرية، وكثر الخلط بينها وبين أشكال مشابهة، مثل الصورة النمطية، الأحكام المسبقة، والتمييز، وغيرها من المصطلحات والظواهر التي تحمل معاني ودلالات تكاد تكون الاختلافات في ظواهرها طفيفة، ولكنها ليست كذلك.
الصور النمطية (الإستيروتايبس)
الصور النمطية هي معتقدات “مُعممة” حول صفات أو سلوك جماعة أو أفراد، وهذا المعتقد المُعمم قد يكون إيجابيًّا أو سلبيًّا. وأيضًا يتم تعريف الصور النمطية على أنها “صورة أو فكرة منتشرة على نطاق واسع ولكنها ثابتة ومبسطة للغاية لنوع معين من الأشخاص أو الأشياء”. (Bordalo, 2015, p. 2)
ولتفعيل وتنشيط الصور النمطية، لا بد من تفعيل عمليات إدراكية، فالصور النمطية تتشكل بناءً على قوة إدراكية نرسمها نحن ولا تفعّل إلا إذا أدركنا صور معينة عن مجموعة من الناس وأخذنا في تداولها داخل سياق مكاني وزماني معين. ولا تؤدي الصور النمطية بالضرورة إلى أفعال الإساءة المتعمدة، ولا تستخدم دائمًا ضد مجموعة، بل إن الصور النمطية يمكن أن تكون في صالح مجموعات معينة في بعض الأحيان إذا كان المنتج النمطي يحمل دلالات إيجابية ترويجية لجماعة ما. وتستخدم الصور النمطية كنوع من التبسيط لإجابة سؤال يُطرح حول خصائص هذه المجموعة من الناس وكيف ننظر إليها؟ (Myers، 2015، صفحة 208)
من المهم فهم الصور النمطية على أنها تلقائية التشكل في طبيعتها، وبالتالي فالتحكم فيها يكون صعبًا بعض الشيء لكونها تتكون مجتمعيًّا وتُنشط عقليًّا وتلقائيًّا. وتلعب المصادر العقلية والموارد المعرفية دورًا في إظهار الصور الحقيقة من خلال دراسة التاريخ وتحليله في سياقه، وفهم طبيعة الجماعات والأفراد بشكل علمي بدلًا من التعامل معها من خلال الصور المنُمطة القديمة. كما أن “الموارد المعرفية” مثل المناهج التعليمية والدراسات الأكاديمية العلمية تعمل على تحفيز وإثارة إمكانيات تصحيح الصور النمطية المكونة في السابق. (Bordalo, 2015, p. 15)
الصور النمطية تظهر في نماذج عدة في الحياة اليومية، كما في التعميم ضد السود وإظهارهم دائمًا كأغبياء داخل المجتمع الأمريكى، أو في الصور النمطية المرسومة عن الإسلام داخل المجتمعات الغربية وربط اللحية وصورة الرجل المسلم بالعنف والإرهاب، أو الصور النمطية التي تظهر الرجال كونهم عاقلين وصارمين في طباعهم، في حين أن النساء عاطفيات وأقل ذكاء.
إذن فالصور النمطية، هي أنماط معممة، منتشرة على نطاقات واسعة، ذي دلالات إيجابية أو سلبية، ويمكن أن يرتبط هذا التعميم بعرق، عنصر، لون، جنس، طبقة أو غيره.
التحامل أو التعصب
على الجانب الآخر، التحامل أو التعصب، يظهر بمعنى سلبي. التحيز هو موقف سلبي فيما إن التمييز هو سلوك سلبى. (Myers، 2015، صفحة 208) فالتعصب (أو التحيز) هو إظهار موقف “سلبى” أو عدائي تجاه مجموعة من الناس، أو أفراد نفس المجموعة، وهنا يُعامل كل أفراد نفس المجموعة على حد سواء، فالموقف يتم إتخاذه بناء على موقع الأفراد داخل أو خارج تلك المجموعة التي يتم التحامل ضدها.
ويتعلق التعصب هنا إذن بالحب والكره، فالكره وإظهار العداء بشكل شفهي على الأقل يُعتبر تحاملًا ضد جماعة معينة. فمثلًا الكراهية على أساس الجنس، اللون، الجنسية، الأيديولوجية، العُمر، أو غيره، تعتبر تحاملًا ضد الآخر، فالتعميم لا يكفي لتعريق الشخض على إنه متحامل، بل التعميم يعتبر صورة نمطية، فيما إن الموقف أو السلوك ذي الدلالة السلبية يتعبر تحاملًا.
تٌثار مواقف التحامل لأسباب عدة إجتماعية، فردية، و عقلانية. وإذا نظرنا إلى الأسباب التي تتعلق بالتنشئة الإجتماعية، فإن عناصر تلعب دورًا في التنشئة الاجتماعية مثل الثقافة، الدين، عناصر المطابقة الاجتماعية، الأعراف الاجتماعية، وعناصر التأثير الاجتماعي (المعياري). فمثلًا الأعراف الاجتماعية تجعل من أولئك الذين تتطابق سلوكياتهم ومواقفهم مع أعراف ومعايير بعينها أناسًا يميلون إلى كراهية كل ما هو خارج هذا الإطار المجتمعي وإظهار سلوك عدائي تجاهه. وأيضًا إذا تأملنا في وحدات اجتماعية بعينها، فإن وحدات مثل الأسرة، الحركات الإجتماعية، وحركات ذات توجهات بعينها، تعمل على زيادة تعزيز سلوكيات ومواقف مروجة لكراهية مجموعات معينة. (Myers, 2015, pp. 207-234)
فمثلًا، الأسرة، قادرة على ترسيخ مبادئ عدائية للنخب والسلطة الحاكمة، أو لأحزاب بعينها أو لجماعات تحمل صفات جسدية ولونية (السود، البيض)، وعرقية (ترك، كرد، إلخ)، ودينية (مسلم، مسيحي، يهودي، إلخ) وهكذا. فالمنصات الاجتماعية لها دور كبير في ترسيخ مبادىء تنشئ أفرادًا متعصبين لجماعات، ومتحاملين ضد جماعات آخرى.
وإذا نظرنا من منظور صراعي ماركسي، فإنه من المرجح أن تتغذى أنماط التحامل داخل المجتمعات بكونها كيانات ذات طابع صراعي، فالطبقة المالكة لرؤوس الأموال (البورجوازية) في صراع دائم مع طبقة العمال (البروليتاريا)، وبالتالي فهذا الصراع يُبنى دائمًا على تفرقة “داخل” و”خارج”، أو “نحن” و”هم”، فكل ما ينتمي لـ”نحن” هو معرض للتهديد عن طريق كل ما ينتمي لـ”هم”. وهذا التهديد يعمل على زيادة احتمالية رسم صور نمطية، أو أخذ مواقف متحاملة، أو إظهار سلوكيات تفريقية.
في عبارة آخرى، يفسر علماء النفس الاجتماعي سلوك الجماعات أو الأفراد المتحامل بتفعيل “متضادات جمعية”، ما يعني أنه يتم تشكيل انحياز لكل ما هو “داخل” مجموعة معينة، في حين أن كل ما هو “خارج” المجموعة منبوذ ومتماثل (خطر الصور السلبية المُعممة كما يسميها علماء النفس الإجتماعي)، فكل من هو ليس جزءًا من “الداخل” متماثل ومتجانس، وكل الآخر “سواء” وأصحاب سوء ويشكلون خطرًا علينا نحن الذين في الداخل (المتماثلين والمتجانسين أيضًا)، وبذلك فإن أصحاب المواقف المتحاملة يشكلون “عضويات افتراضية” لداخل وخارج الجماعات. (Myers, 2015, p. 262)وبالتالي فإن ما يُعرف بـ”التصنيف الاجتماعي” أو “الاستقطاب الاجتماعي” أو الثنائية الاجتماعية”، كلها عمليات تعزز من مشاعر الكراهية.
العنصرية ومراحل فهمها الثلاثة
عند الحديث عن العنصرية، فإننا نتحدث عن ثلاث مراحل مختلفة يكمل بعضها بعضًا، ويتدرج من خلالها تعريف العنصرية والعنصري، ويُفهم من خلالها مميز العنصرية عن غيرها من الصور النمطية، وأشكال التعصب والتحامل، والتفرقة (التمييز).
المرحلة الأولى، والتي بدأت تبرز في القرن التاسع عشر، حيث ظهر فيها تشكيل “اعتقاد” وفهم أن هناك أعراقًا (عناصر) بشرية مختلفة. وقد يكون هذا سوء فهم. وأفراد العرق متجانسين بشكل داخلي، والأعراق متباعدة عن بعضها، بالإضافة إلى وجود علاقات استبعاد تبادلية بين هويات الأعراق المختلفة. ويعتمد العنصر هنا أكثر على الخصائص اللونية والبيولوجية (أبيض، أسود، بني، أصفر، إلخ). والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل الإيمان بوجود عناصر مختلفة في العالم يجعلنا عنصريين؟ وهو ما يجعلنا ننتقل إلى المرحلة الثانية، فالقضية أكثر تعقيدًا، وبالتالي فإن الإجابة بوضوح هي: لا.
في المرحلة الثانية، ومع تطور هذا العلم، في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، ومع بداية إدماج عناصر ومعايير أكثر موضوعية ثقافية، اجتماعية، سياسية، وتاريخية، تُعرف من خلالها الجماعات العرقية المختلفة.
وتعد هذه المرحلة بداية عهد راديكالية فهم الفكر العنصري التصنيفي، حيث تؤمن الجماعات العرقية بهرمية العلاقات بين الأعراق المختلفة. في عبارة أخرى، يتم تشكيل إيمان، بأن هناك أعراقًا أفضل من أعراق أخرى، أعراق تقع في أعلى الهرم وأخرى في أسفله. هناك أعراق أفضل من أعراق أخرى، للونهم، لطبيعتهم، لقوة مصادرهم أو لصفاتهم البشرية والعقلية. ومن هنا بدأت هيكلة نظام جديد للأعراق والعناصر المختلفة. في المرحلة الأولى والثانية يُكون الفكر العنصري محفز مع اختفاء الفعل أو السلوك الحقيقي حتى الآن.
المرحلة الثالثة، وهي أخطر مراحل الفكر العنصري، الاعتقاد بأن الأعراق الفوقية في الهرم (الافتراضى) لها اليد العليا، والأفضلية، ولها الحق المشروع و”الطبيعي” للسيطرة والاستغلال والهيمنة على الأعراق السفلى. وهنا يتحول المحفز إلى سلوك وفعل حقيقي على أرض الواقع (مثال: ألمانيا النازية ضد اليهود) بل إن هذا الفهم تحول من حق السيطرة لواجب ومسؤولية السيطرة على الآخر ونشر تعاليم الأقوى والأعلم. الأفكار الإمبريالية، والاستعمارية، والشكل الحديث للهيمنة العرقية، والاقتصادية، كل ذلك ألهمه إيمان “مشروعية السيطرة” والهيمنة.
في المرحلة الثالثة، تؤمن الأعراق بكمالها، وحالتها الاستثنائية، وبالتالي برسالتها ومسؤليتها تجاه الأعراق الآخرى. في المراحل الثلاث، يتم تشكيل الـ”نحن” والـ”هم” (الغير)، بدرجات متفاوته، وتزداد شدة هذا التصنيف في المرحلة الثانية والثالثة.
وكما أن العنصرية درجات، فللعنصرية أيضًا أنماط مختلفة، مثل العنصرية الفردية، العنصرية المؤسسية، العنصرية بين الأفراد، العنصرية بين الثقافات، والعنصرية الممنهجة (المهيمنة على السياق الأمريكي).
وقد طورت المفكرة الأمريكية، كامارا فيليس جونز، نموذجًا للعنصرية على نمط مشابه لما ذكرناه سابقًا، واعتبرت أن العنصرية تتدرج من خلال ثلاث مراحل، هيكلة (مأسسة) العنصرية، العنصرية التابعة للوسائط الفردانية، والعنصرية المستنبطة (المستوعبة أو المتطبعة).
تقول الكاتبة إنه في المرحلة الأولى تروج الأنظمة لفكرة اختلاف الأعراق، وتتخذ خطوات ممنهجة عن طريق الهياكل القانونية، السياسية، والاجتماعية الاقتصادية، وبما أنه هناك اختلاف في طبيعة البشر، فهناك اختلاف أيضًا في قدرة كل فصيل أو عرق على الوصول إلى المصادر المادية، السياسية والإجتماعية. وعدم قدرة عرق معين على الوصول إلى مصدر معين داخل مجتمع ما يتم تبريره وتغذيته بوسائل عدة أهمها الميديا.
وتقول إن المرحلة الأولى تعتمد أكثر على اختلافات تتعلق بالصفات البيولوجية واللونية، والعوامل التاريخية (المرحلة الأولى)، وتعد هذه المرحلة هي بداية تشكيل حدود هيكلية. ومن الصحيح القول إن هذا المستوى أو النمط من العنصرية هو الغالب على السياق الأمريكي الذى يعتمد على ربط العنصر (البيض أو السود) بالمكانة الاجتماعية والاقتصادية، وبالتالي إمكانية حصولهم على موارد متساوية كما تقول الكاتبة. (Jones, 2000, pp. 2-4)
فيما إن المرحلة الثانية يتدخل عمل الأفراد للحفاظ وتعزيز ما أنشأتة المؤسسات والهيكل، وبالتالي فدور الأفراد يبرز هنا من خلال تقوية أواصر الحدود التي أنشأها النظام القائم. وفي هذه المرحلة تبدأ الأعراف والتعاليم الاجتماعية في لعب دور بشكل مقصود أو بشكل غير مقصود في فرض علاقات داخل المجتمع تنمي وتغذي ما أنشأه النظام وما روج له الأفراد وما أثارته القنوات الإعلامية والوسائل المرئية.
وفي المرحلة الثالثة، يتم تطبيع كل هذه العلاقات وأخذها في مؤشر أكثر راديكالية، بحيث يقبل الأفراد الرسائل السلبية المُصدرة، وهذه الرسائل مثلًا وجود آخر، الآخر مختلف عنا نحن، فهناك فئات أفضل من فئات أخرى (المرحلة الثانية)، ولا بد من فرض سيطرة وتحجيم كل الآخر في سبيل تقوية أواصر الجماعات المهيمنة (المرحلة الثالثة). (Jones, 2000)
تقييم للمراحل الثلاثة:
في كل مرحلة من المراحل الثلاثة، تختلف طبيعة الصراع، ونظرات الأفراد لجماعاتهم، وأدوار الجماعات تجاه الآخر. وتعد المرحلة الثالثة هي بداية الصراع العرقي، الذى من الممكن أن ينتهي بحروب أهلية (رواندا، البوسنة، والكونغو)، تكون فيها الغلبة لطرف على حساب طرف آخر، ومن ثم فرض أمر واقع بحكم علاقات القوة والدعم الوطني والدولي، أو صراعات مساراتها “مفتوحة” تعلو فيها أصوات الأسلحة والإرهاب في فترات، والمفاوضات ومحاولات التهدئة والهدنة في أوقات آخرى.
تُشكَّل المراحل الثلاثة عن طريق وعي جمعي أو فردي، وتُكون الاعتقادات بمستويات فردية أو جماعية، وهذه الاعتقادات يمكن أن تكون بوعي أو بدون وعي، وتُغذى وتنشط بمستويات مختلفة كذلك، فالعنصرية ضد الجماعات تتطلب عملًا جماعيًّا ممنهجًا، والقضاء على اليهود في أوروبا كان بدعم دولجي (ألمانيا النازية)، والسود في أمريكا تشكلت صور عنصرية ضدهم، بتفوق العنصر الأبيض على الأسود، وقويت أواصر “التفرقة الاجتماعية” في الأماكن العامة بين البيض السود، وتمّ تقييد السود عن طريق سحب العديد من الحقوق الاقتصادية، الاجتماعية، والسياسية، تأثرًا بقوانين هيكلية سنتها واستمدت منها شرعية سلوكها (قوانين جيم كروف).
فالعقيدة مهمة لبداية أي عمل، وهي أرضيته، ولكنها لا تكفي، فمن المهم أن يتبعها سلوك وممارسة على الأرض، يستندان إلى آليّات عمل غير عبثية. فالفعل العنصري يعتمد على عقيدة في مراحله الأولى والثانية، فيما إن العمل الحقيقي يظهر بشكل واضح في المرحلة الثالثة، والعمل العنصري يُغذى من قبل خطوات وممارسات هيكلية ومؤسسية (Myers، 2015، صفحة 209)، وخطابات نخبوية، وصعود لجهات شعبوية تدعي تمثيل جماعات على حساب جماعات أخرى. وبالتالي فهذا يعمل على إقصاء الآخر، وجذور تاريخية (مثل العبودية وتاريخ الصراع الأهلي بين الشمال والجنوب)، وهذه كلها عوامل تعمل على إثارة وانفجار أي محفز عنصري ليتحول إلى سلوك في لحظةٍ ما، وهو ما نعيشه اليوم عالميًّا، وتُرجم على أرض الواقع في مواطن عدة في سياق الدولة الأمريكية وغيرها، كان آخرها “سلوك” الشرطة الأمريكية العنيف والاستعلائي ضد السود.
3 – العنصرية في الاتجاهات السوسيولوجية
وإذا نظرنا إلى العنصرية من منظور مُنظِري علم الاجتماع، فسنجد أن أغلب الاتجاهات الكلاسيكية والمعاصرة قد تناولت قضايا العنف والتعصب من زوايا نظر وبأسئلة ومفاهيم معالجة مختلفة.
سنجد على سبيل المثال أن المدرسة الوظيفية الهيكلية (دوركايم) تتمركز تحليلاتها حول إحداث إتزان في الاحتياجات، فإذا فسرنا مثل هذه الظاهرة في سياق بنيوي وظيفي، فإنها ستبدو كظاهرة من ظواهر المجتمع، تعمل بشكل وظيفي في نظام العمل الكامل المعقد الذي تتحلى به الدولة الحديثة، ووجودها ضروري، وغيابها قد يسبب خللًا وظيفيًّا، ومن ثمّ هلاك النظام بعد تعطل كل أعضاؤه.
في عبارة أخرى، تلعب العنصرية دورًا وقيمة وظيفية في حد ذاتها في المجتمع. جميع العناصر والأجهزة في المجتمع تتسم بالترابط والتجانس، فكل منها يعمل من أجل الحفاظ على استقرار التنظيم الهرمي الكامل للمجتمع. كما أن العنصرية تعد إمتدادًا طبيعيًّا لتراتبية اللامساواة داخل المجتمع من وجهة نظر الوظيفيّين. (Thompson, 1982, pp. 53-72)
في سياق آخر، يرى منظرو البنيوية الاجتماعية أن هناك قواعد وأعرافًا تنشأ وتتكون اجتماعيًّا عن طريق أفراد المجتمع نفسهم، وهيكلهم، ومؤسساتهم مثل الأسرة وغيرها، فهي أعراف “مصطنعة” في واقعنا الاجتماعي، ويتم تعلمها وكسبها من خلال مناهج تعليمية فالتعلم والحقائق والمعرفة ليس لها وجود مسبق ولا يمكن حتى كشفها لكونها غير موجودة، ولكن “الأنشطة الإنسانية والمجتمعية” هي التي تصنعها. (Beaumie Kim، 2012) وهنا تأتي العنصرية كأحد مكونات ومخلوقات ومعاني المجتمع، فالمجتمعات تفرض هياكل وأعراف ومعاني تعمل كجزء من المجتمع، ولازمة للحفاظ على المجتمع واستدامته. فمثل هذه علاقات هي لازمة لبقاء المجتمع والحفاظ على حياة الهيكل الكلي.
وبالتالي فمركز تحليل البنيويّين الاجتماعيّين، هو أن العنصرية لها بنية كليّة، وبنى فرعية، يشكلها المجتمع، وتتفاعل تلك البنى مع بعضها البعض لتحد من شرارتها أو لتطبعها داخل العلاقات الاجتماعية. وإذا نظرنا من منظور علم نفس اجتماعي (نفس تطوري)، فإن ظاهرة العنصرية والتفاعلات العنصرية ذات طابع جيني وراثي، وهي ضرورية لبقاء المجتمع، لكونها قادرة على التكيّف مع البيئة المعاصرة وتحديد من هو الأقوى للبقاء. (Richards, 2003, pp. 94,371)
من منظور آخر، يؤمن منظرو مدرسة الاختيار العقلاني، بقدرة وإمكانيات “الفرد”، بغض النظر عن جنسه أو لونه، فالأفراد قادرون على أخذ خيارات عقلانية، عن طريق تقدير المكسب والتكلفة. (Elster, 1986) وهنا الخيارات لا تعمل بشكل وظيفي، ولكنها تعمل بناءً على عرض وطلب لخدمة رغبات الأفراد. (Lovett, 2006, pp. 238-266) فالأفعال العنصرية هي نتيجة خطوات وعمليات عقلانية يستند إليها البشر في قراراتهم العنصرية، وتُقابل العنصرية بعنصرية مضادة، مستندة أيضًا إلى قرارات عقلانية عن طريق ميزان المكسب والخسارة.
وإذا نظرنا من زاويةٍ آخرى، يرى منظرو النظرية التفاعيلة، أن التفاعلات الرمزية واندماج الأفراد داخل الفضاء المجتمعي عن طريق العوالم الرمزية هي غاية في نفسها، فالأهم من هيكلة المجتمع، وفردانياته، هو الحفاظ على إندماجه و”علاقاته التفاعلية” ذات الطابع العقلاني والعاطفي، والتوافقي والتصادمي كذلك.
وعلى صعيد منظري “نظريات الصراع الواقعية”، فإن ثمّة علاقات قوة جمعية من خلالها يتفاعل الأفراد عن طريق تعبئة مصادرهم ومنابعهم الخاصة لفرض علاقات قوة على مجموعة أو أفراد داخل المجتمع (مثل تعبئة البيض ضد السود أو العكس كما هو الواقع في الحرب الأهلية وفترة مقتل فلويد مؤخرًا). فالفعل العنصري ينبع من دوافع لفرض علاقات القوة المادية والفكرية بين أطياف المجتمع، فالقوي يُجبر الضعيف على قبول مبادئه وأدواته، وهكذا الحال في المجتمعات ذات الصراعات والتعبئة العرقية، والتي تنتشر فيها ظواهر تصادمية وراديكالية مثل العنصرية. (Skocpol, 1984)
وأيضًا ترى التحليلات الماركسية أن السلوك العنصري هو نتاج لصراعات طبقية وعلاقات استغلالية تهيمن فيها الطبقة البرجوازية (الطبقة الحاكمة) وتستغل الطبقات السفلى، فالخطابات العنصرية ما هي إلا ترجمة لسلوك الطبقة الحاكمة لفرض سيطرتها واستكمال استغلالها للطبقات الفقيرة والمهمشة، وبالتالى فمن المحتمل أن تنفجر ردود أفعال عنيفة للعنصرية (مثل الانتفاضات، موجات الغضب، حراكات أو ثورات) أو عنصرية مضادة نتيجة غضب وتكوين وعي جمعي بين الطبقات التي يتم التعامل معها بشكل عنصري للتحرر من هيمنة الدولة والفئات الحاكمة للوصول إلى الحكم، ومن ثم فرض نماذج قوة جديدة يحكم فيها المهمشون الضعفاء والمضطهدون فيما تنحدر الطبقات الأكثر هيمنة في النظام الرأسمالى.
بالإضافة إلى ذلك، يمكن فهم هذا العمل العنصري (البنية الفوقية) على أنه انعكاس لعلاقات الإنتاج في البنية التحتية للنموذج الماركسي.
4 – نماذج عنصرية
إذا أخذنا اللاجئيين مقابل أصحاب الثقافات السائدة كمثال، فمن غير الصحيح أن نسمي الأقوال والتعميمات التي تحرض أو تدعو إلى كراهية الأجانب بالعنصرية، بل المعنى الأدق هنا هو أن مثل هذه الشعارات ما هي إلا صور نمطية شُكِّلت أو تُشكَّل في الحاضر إذا أخذت شكل “التعميم”، فيما إنها قد تتطور إلى سلوك متحامل أو متعصب ضد فرقة ما إذا ما أظهرت الجماعات الوطنية التمسك بهوياتها الوطنية مع إظهار سلوك سلبي عدائي وواضح ضد المهاجرين. فيما إن العنصرية تتطلب إعتقادًا يتضمن ليس فقط كراهية الأجانب، بل وتعزيز بعض العلاقات الهرمية الفوقية بين كل عنصر والآخر، فالفوقي صاحب الأرض أفضل من الآخر (اللاجئ هنا أو أي مجموعة عرقية)، وله الحق في إقصائه والتحكم في حدود تحركاته وأفكاره داخل المجتمع المضيف. وبالتالي فإن السياسات المعممة حكوميًّا والصور النمطية التي تشكلها المجتمعات المهيمنة لا تعتبر عنصرية، ومحاولات التفرقة بين أصحاب الأرض وبين الأجانب والتعامل معهم بشكل مختلف باعتبارهم أقل درجة من الجماعات الوطنية المسيطرة (المرحلة الثانية) فهذا أقرب للتمييز العنصري أو التفرقة، فيما إن محاولات الدمج القسري للأجانب وفرض هيمنة عليهم وإجبارهم على التخلي عن هوياتهم الأصلية لدوافع فوقية (المرحلة الثالثة) فهذا يعتبر عمل عنصري صريح.
أيضًا، هناك مثال آخر، يوضح كيف تتدرج العنصرية الفردية، ففي أحد التصريحات للرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، كرر فيه عبارة “الفيروس الصيني”، مشيرًا إلى كوفيد-19، فاتهمه البعض بالعنصرية. فهل هذا يعتبر سلوكًا عنصريًّا؟
في ظاهره هو محاولة لتكوين صورة نمطية عن طريق تعميم صفة الفيروس أو المرض بالفرد أو المجتمع الصيني، وربما الحكومة الصينية، ولكن التصريحات والسلوك العدائي ضد الصين (مثل قطع العلاقات ودعوة الدول الأخرى لقطع العلاقات) تعبر عن عملية تحامل، فيما إن تطرفت الأقوال لتظهر هيمنة وتفوق الأمريكي على الصيني فهذه عنصرية. ومثل هذه عبارات قد تستوحي منها الأكثرية الأمريكية من البيض لتتخذ مواقف عنصرية ضد الأمريكان من أصول صينية أو أصول أسيوية، (Chiu, 2020) ولكنها لا تعبر عن عنصرية راديكالية (التطبيع أو المرحلة الثالثة) بل هي بداية تأسيس وتعميم صور تمهد لسلوك عنصري أعنف في المستقبل (المرحلة الأولى والتأسيس لها).
وهنا يجب التمعن في ما يسمى بـ”سياسة التسمية” التي قد تنشئ صورًا تثير الغضب وتفتح بابًا للعنصرية ضد جماعات بعينها، مثل ما أشار إليه ترامب أيضًا بحق الأمريكان من أصول أسيوية: “نحن نحميكم وأنتم من جاء المرض من عندكم”. (naming, 2020)
وإذا أخذنا نماذج أخرى كحالات تظهر من خلالها الظاهرة، فسنجد على سبيل المثال أنه في عدد من دول الخليج (على سبيل المثال وليس الحصر)، نرى العمال المغتربين يعانون من أشكال التفرقة وإظهارهم كعنصر سفلي من ناحية الحقوق والقوانين المدنية، وهذا ينعكس على نظرة المجتمع وتفاعلاته مع الأجانب، فيما إن المواطن الأصلي له الحق الكامل في أمر العامل أو الخادم (الخادمة) المهاجر والسيطرة على بدنه من خلال فرض ساعات عمل تفوق مقدرته وبأجر منخفض. (Jureidini, 2005, pp. 48-71) وهذا السلوك الشعبي يغذيه نظام لا يوفر اعترافًا على مستوى فردي أو جماعي لمثل هذه الأقليات.
في نفس السياق، ظهرت في السنوات الأخيرة مواطنة كويتية على مواقع التواصل الاجتماعي، تتحدث عن المواطنين المصريين المقيمين في الكويت على أنهم خادمين لدولة الكويت وللمواطن الكويتي صاحب الحق في فرض أمره بخدمته لكون العامل المصري يعمل بمقابل، وأشارت في إحدى عباراتها إلى أن العامل المصري هو أقل شأنًا من المواطن الكويتي صاحب الأرض. (ريم الشمرى، 2020) فهل هذا يندرج تحت معنى ومفهوم العنصرية؟ بالمفهوم المتُبنى للكاتب، فإن السلوك العنصري واضح هنا (المرحلة الثالثة- مرحلة التطبيع)، فالكويتىي والمصري ليسوا سواءً، والكويتي أعلى من المصري، بل وله الحق في فرض أوامره، وغيرها من النماذج التي من خلالها نستطيع التفرقة والتمييز بين ما هو عنصري وغير عنصري.
وإذا نظرنا إلى المجتمع المصري، فسنجد أشكالًا مختلفة من العنصرية، تعتبر عنصرية “مناطقية” أكثر من كونها تعتمد على عرق أو لون (مع عدم إنكار وجودها، وهو ما يتعرض له الأفارقة المهاجرون وأهل النوبة وغيرهم من أصحاب البشرة الداكنة، مثل رئيس مصر الراحل أنور السادات)، ومع عدم إنكار ذلك، ولكن العنصرية المصرية تعتمد في شكل من أشكالها على تمييز مناطقي مثل التمميز ضد أهالي سيناء، النوبة، والثنائيات مثل الريف والمدينة، الحضر والبدو، الشمال والجنوب، التي تعزز من الاستقطاب داخل المجتمع. وكل هذه أشكال للعنصرية تغذيها السلطة السياسية كما هو الحال في الوضع السيناوي مثلًا. وأيضًا العنصرية القائمة على الفروق الطبقية بين الفقير والغني قد ترى لها جذورًا في المجتمع المصري مُدعمة من خلال الهيكل الذي يخدم طبقات على حساب طبقات أخرى، وقد باتت هذه الصور واضحة من خلال الإعلانات. فمثلا إعلان “مدينتي” (وقد تناوله الكثيرون) الذي تظهر فيه عبارات مثل “إحنا كلنا شبه بعض في المجتمع”، “المكان ده مش موجود في أي حتة في مصر ولا برة مصر” (مصطفى، 2020) فهذا معناه أن داخل المجتمع يختلف تمامًا عن خارجه، وغيرها من العبارات التي حملت خطابًا طبقيًّا من الدرجة الأولى. غير أن اسم المجتمع “مدينتي” يحمل في نفسه دلالات تفريقية وتمييزية، فالمدينة مرتبطة بفئات معينة وأنت منها، فهي مدينتك أنت، غير أن الآخر يتم تصنيفه بإعتباره خارج المدينة. فالمعمار، التطور، ونمط الحياة الذي يعتمد على إشباع الرغبات بدلًا من الاحتياجات، هو خاص بالداخل المنعزل عن الخارج. وهذا يزيد من حدة ثنائيات “الداخل” و”الخارج” أو “نحن” وهم”، فكل من يقع في الداخل متشابه، فيما إن كل من في الخارج متشابه ومتجانس أيضًا، ولكنهم يختلفون تمامًا عن داخل المجموعة، و”كل من في الخارج” بمعنى كل من ليس “نحن”، وهذا ما يساعد من شدة إنتاج صور نمطية من قبل الداخل والخارج، ومع تطور هذه التعميمات تتحول إلى خطابات متحاملة وساخطة ضد الآخر، وهذا ما يزيد من كراهية الداخل والخارج لبعضهما البعض. بل وقد يتطور هذا التصور على مستوى “الممارسة”، فيرى الداخل الخارج على أنه أقل شأنًا في الهيكل الهرمي المجتمعي، لكون من في الداخل هم أناس يمتلكون الأدوات والموارد النادرة، فالداخل أفضل من الخارج وموقعه في العلاقات الهرمية يشغل الطبقة الأعلى، وهذا قد يتطور إلى خطابات أشد عداوة.
ولهذا، فإن الميديا والإعلانات لا تنتج عنصرية أو عنصرية مفرطة، ولكنها تنتج وتصدر خطابات وعبارات تصل في أشد درجاتها إلى خطابات عنصرية، تبدأ بصور نمطية (فقط تعميمات)، وتتطور إلى حد الأحكام المسبقة (عملية شعورية بها حب وكره للآخر)، وتتم عملية الترجمة السلوكية ليتحول هذا إلى سلوك تعصبي يتمثل في التمييز والعنصرية بكافة أشكالها.
ومن الممكن أيضًا مراقبة أشكال العنصرية والتمييز القائمة على الفروقات الطبقية والمكانات الاجتماعية والتراتبية السياسية والحركة في درجات السلم الاجتماعي داخل المجتمع المصري، وهذا ما يتجلى من خلال حجم الامتيازات والأجور والترقيات داخل البيروقراطيات الحكومية. كما إننا قد نرى أحيانًا العنصرية التي تغذيها الفروقات الدينية بين المسلمين والمسيحيين (عنصرية الدين)، ولكنها بشكل أقل حدة في المجتمع المصري على عكس العنصرية الإيرانية التي تعتمد بشكل أساسي على التفرقة والتمييزات الدينية والطائفية المؤدلجة المُدعمة من قبل الدولة الشيعية بجانب القومية الإيرانية.
وإذا إنتقلنا إلى واقع المجتمع التركي، فإن أنماط العنصرية تأخذ أعمارًا تبدأ من كونها لا تتخطى الصور النمطية وأشكال التحامل ضد مجموعة ما (مثل السوريين، الأكراد، الأقليات غير المسلمة). فمثلًا، إلقاء اللوم على السوريين لكونهم عبئًا على الدولة التركية بشكل عام والاقتصاد التركي بشكل خاص، هذا يعبر عن إنتاج “صور نمطية” وتحامل ضد فئات معينة (أكثر منه فعل عنصرى). أما إذا تطورت عن هذه المرحلة، لننتقل من مرحلة تعميم أقوال ينتجها المجتمع بالتعاون مع النخب وينقلها ويروج لها الإعلام وتغذيها الشعارات، إلى سلوك سلبي فعلي مُهيمن تجاه هؤلاء اللاجئيين، فإن هذا الانتقال السلوكي يعتبر بمنزلة سلوك عنصري تعصبيّ راديكالي، والأمثلة على ذلك ما نراه في الهجوم على محلات لسوريين في أنقرة وإسطنبول على فترات متباعدة أو الاعتداء على سيدة سورية كما رأينا في وسائل التواصل الاجتماعي، لكونها أمثلة تتضمن “سلوكًا”، يتخطى الخطاب والتعنيف اللفظي والتعميمات اللونية والثقافية.
أما إذا رأينا أحد القادة، الصحفيين، والعديد من النخب يتبنون خطابات عنيفة ضد مجموعةٍ ما، بل ويشرعون أعمال عنف وتطبيق قوانين تعسفية ضد الآخرين والأقليات من غير أبناء الوطن، فهذا يعتبر خطابًا عنصريًّا نخبويًّا. وهنا تنتقل حدة العنصرية لحد فكرة الترويج للخوف من الأجانب والعداء لهم بل والحق في السيطرة على وجودهم من خلال رفضهم أو قبولهم وفرض توزيعهم وترحيلهم بالقوة. وهذا ما روج له اليمين المتطرف الأوروبي وظهر في السياق التركي على فترات متقطعة ونشط مجددًا في نسختة الأعنف من خلال حزب النصر) من خلال سياسات الأمننة التي تعتمد على أن الخوف (وهنا الخوف من الأجانب بالتحديد) هو أفضل وسيلة للوصول إلى الحكم بدلًا من تنشيط برامج انتخابية و إيجاد حلول جادة.
وعليه، من خلال الأمثلة التطبيقية محل التناول في الفقرات السابقة يتضح أن النظرية والممارسة في أدبيات وميادين العنصرية لا تعترف بعنصرية واحدة بل بـ”عنصريات” متعددة الأبعاد والدرجات، وهذا لكون الفعل العنصري يأخذ أعمارًا تشكل، فضلًا عن أن العنصرية لا ترتبط فقط باختلافات لونية وعرقية، ولكن يمكن أن تتجلى في صور أنماط مختلفة من خلال العنصريات القائمة على الدين، والعُمر (كبار السن مثلًا)، والمنطقة الجغرافية (التخريط الجغرافي)، والطبقة والمكانة، والجندر، إلخ.
5 – خاتمة مع الاستنتاجات والتوصيات
ختامًا، هناك فصل شديد بين العنصرية وغيرها من الظواهر المتشابهة من حيث المعنى، الدلالة، والتجليّات لكل منها، ويجب فهم كل من هذه الظواهر على حدة لتجنب الخلط بينهما.
فالعنصرية هي أقرب إلى التمييز، فيما إن الصور النمطية تأخذ حيزًا مختلفًا تمامًا، فالأخيرة تعبر عن تعمميات إيجابية أو سلبية، أما الأولى فإنها تعبر عن الترجمة السلوكية للعمليات الوجدانية والشعورية الناتجة عن القوالب النمطية والأحكام المسبقة.
مقولة إننا “كلنا عنصريون” لكوننا نؤمن باختلافات، أو نصدر وننتج تعميمات وصور نمطية ضد الآخر، أو حتى لكوننا نكره الآخر، هي مقولة ليست دقيقة، وهذا لعدم الدراية بالفروقات الموجودة بين العنصرية وغيرها من الظواهر المشابهة (أو بما هو عنصري وما هو غير عنصري)، والأدق هو أننا كلنا قد نسير بخطوات واعية أو غير واعية تجاه العنصرية.
تعتبر العنصرية أحد أقبح الظواهر التي ترتبط بالسلوكيات البشرية غير الأخلاقية التي طرأت على العالم بداية من القرن التاسع عشر وحتى الآن وما تزال تشغل حيزًا كبيرًا من أخلاقيات الدول، المجتمعات، والأفراد.
ويأتي السؤال الأهم الذي على الجميع التأمل فيه لإيجاد حلول، ماذا علينا أن نفعل للحد من مثل هذه الظواهر في مجتمعاتنا؟
للحد من العنصرية وتهذيبها، علينا أن ننشئ علاقات تضمن بقاء الجميع داخل دوائر ومساحات استيعابية وغير إقصائية للآخر مع الحفاظ على الهويات الوطنية. فمثلاً في سياق المهاجرين السوريين في تركيا، لا بد أن يدرك التصور التركي الرئيس تجاه السوريين أن المهاجر السوري جزء يجب دمجه داخل كل هياكل المجتمع التركي، لا أن يكون التوجه الرئيس هو الترحيل بالحزمة كما تدعي المعارضة التركية.
وعلى الأنظمة أن تتماشى سياساتها وعمل مؤسساتها في كل قطر من العالم بالتوازي مع المطالبات والتوقعات الشعبية. وهذا ما نراه في توجه الحكومة التركية منذ العام 2019، داخل أولوية دائرة تطبيق السياسات الهجراتية تجاه المهاجرين السوريين، بالوعد مثلًا بإعادة مليون لاجىء سوري، وببدء برامج إدماج اجتماعي (لغوي بالقدر الأكبر حتى الآن).
وعلينا أن نفهم العنصرية كجزء وعضو أساسي داخل هيكل المجتمع، يعمل ضمن منظومة كاملة، بل وأن المنظومة الاجتماعية تستمد ديمومتها وبقائها في أحيان عدة من مثل هذه الظواهر، وهذا ليس لتطبيعها، ولكن لفهمها بوصفها مؤسسة اجتماعية يجب الاعتراف بوجودها وتفكيكها وتحليلها لتجاوز ما هو مرضي منها داخل المجتمع. وبالعودة للسياق التركي، فهذا يعني أن إنكار وجود عنصرية تجاه السوريين لا يصب في منفعة المهاجرين والشعب التركي والحكومة نفسها، لأن الظاهرة إن لم تكن مرئية بالعين المجردة، فإن تبعاتها تنعكس بشكل كارثي بفعل تراكماتها المتعاقبة. وهذا يعني، أننا علينا الحفاظ على فهم الظاهرة (العنصرية) داخل إطار النظام الكامل وعدم تغريبها وجعلها شاذة عن الهيكل المجتمعى.
وعلي أفراد المجتمعات ومؤسساتها أن يشكلوا عمليات وأنماطًا “مضادة للعنصرية”، وأن يتخلوا عن أنماط “العنصرية المضادة” العنيفة، بحيث تضمن تغيرًا مرنًا لعلاقات القوة بين العناصر، الأمم والأعراق المختلفة في إطار يقترب إلى نوع من التوافق النسبي مع مراعاة فهم طبيعة العلاقات السياسية والاجتماعية بشكلها التصادمي، ولذلك فالتوافق صعب أن يُحقق بشكل مطلق. وهذا يجعلنا نذهب لفكرة مفادها أن العنصرية التركية النابعة تجاه السوريين، من المحتمل أن تستمر وبدرجات أعنف، طالما أن الساحة التركية تحمل العديد من الصدام بشأن مستقبل سياستها.
كما على المجتمعات أن تنمي من قنوات التواصل، والاعتراف بالهويات والانتماءات الأخرى، لضمان حقوق متساوية لا يغلب فيها صعود عنصر وهبوط آخر.
كما أنه يجب على المجتمعات تعزيز مفاهيم وأهداف “مشتركة”، بحسب ما يقوله عالم النفس الاجتماعي مظفر شريف، بجانب علاقات ترابطية تجعل النظام الاجتماعي متكاتفًا من ناحية الخيوط والوظائف. فعلى السياسيين وصناع القرار في تركيا، صنع ما هو مشترك بين ما هو تركي وما هو سوري، لتخطي عمليات العنف، مثل المشترك الثقافي والديني والتاريخي والإنساني (الإنسانية المشتركة كما يسميها أمارتيا سن) (أمارتيا سن، 2008، الصفحات 14-61)، لكونه يمثل أحد الركائز الرئيسية للوصول إلى حل لأزمة العنصرية.
إضافة إلى ذلك، فإن العمل على قبول إمكانية “إعادة إنتاج التصورات والتصنيفات” ومراجعة الثنائيات داخل المجتمع، والتي تؤثر فيها عوامل صريحة (الدولة ومؤسساتها) وضمنية (المجتمع، الهيكل والفرص الحاكمة)، يُعدان من الأولويات التي تمكننا من التعامل مع الظاهرة بشكل أكثر مرونة. وهذا يعني في حالة السوريين في تركيا أن التمثل المجتمعي التركي للوجود السوري الذي يتلخص في كونهم يمثلون “تهديدًا” للهوية التركية، بتهجينها بغير منها، لا يمثل طريقة للحل، بل طريقة لتفاقم الأزمة، وعليه، فإعادة بناء تشكل تلك التصورات يعد نقطة إنطلاق في مسار التوافق.
فينا يخص حيلولة الأزمة المتعلقة بالسوريين في تركيا على وجه الخصوص (والعنصرية أحد الإنعكاسات السلوكية لتلك الأزمة)، أرى أن المشكلة والحل مرتبطين بمركزية التنظيم، وأن الحل الأساس لابد أن ينطلق من أرضية تتمثل في فهم “مهمة تنظيمية ثلاثية”، ترتبط بالأفراد والمؤسسات المنظمة لوجود المغترب السوري ( في البلد الأصلي وفي البلد المضيف) والمجتمع المضيف. وهذا للتحول من سوء تنظيم إلى إعادة تنظيم، بمفهومه الواسع القيمي والمعيشي والديموغرافي. ومشروع إعادة التنظيم، يبدأ من دمج لغوي ومهني وحضري لكل ما هو جديد على المجتمع القديم، للخروج من فخ الصراع الدائم أو التهجين الدائم، اللذين ينتجان عنصريات دائمة متجددة.