القضية العراقية نموذج التعقيد

فاعلية الإصلاح

الكاتب: الدكتور سعد الكبيسي.

العراق بلد متعدد المكونات العرقية والدينية والطائفية وبطبيعة الحال المكونات السياسية، وهو بعمومه بلد محافظ قبلي يمتلك قدرا ممتازا من التعايش بين مكوناته على مر تاريخه، لكن ثمة ظروف جديدة لم تقرأ بدقة بعد الاحتلال الأمريكي للعراق، وكيفية التعامل مع القضية العراقية من كثير من الأطراف الداخلية والخارجية، حيث تتعدد المشكلات والأطراف والمصالح والأجندة والطوائف وتتشابك الجغرافيا فيه مع التاريخ والدين والسياسة تشابكا قويا وعجيبا ، وقد استثمر هذا القصور في القراءة من قبل أطراف دولية واقليمية ومحلية تريد جعل هذا البلد مسرحا لتصفية الحسابات بالأدوات المشروعة وغير المشروعة.
في اعتقادنا هناك مجموعة من الثنائيات الفاعلة والمؤثرة في القضية العراقية، وإن إغفال أي ثنائية من هذه الثنائيات الفاعلة من الممكن أن يعود بالضرر ويهدد مشروع أي طرف كان، فالقضية العراقية من أعقد القضايا في العالم المعاصر لما يكتنفها من ظروف وملابسات ومصالح وتراكمات تاريخية، وهي من أكثر القضايا التي أسيء فهمها وتحليلها في الداخل والخارج، إذ شدة التعقيد الذي يكتنفها تجعل الكثير من النظر اليها سطحيا على المستوى الفردي وحتى الجماعي حين تغيب أدوات المعاينة والتشخيص والدراسة الموضوعية.
فليس غريبا من محلل سياسي يظهر على الفضائيات، ومن كثير من مراكز الدراسات، ومن جمهرة من المتعاطفين مع القضية العراقية، بل ومن شريحة واسعة من العراقيين أنفسهم أن يظنوا أو يجزموا بعض الاحيان أن هناك ثنائية واحدة هي التي تفعل فعلها في الساحة العراقية بعد الاحتلال وهي: ثنائية المقاومة والاحتلال فقط او ثنائية السنة والشيعة فقط.
إن هذا النظر المتعجل والمجزأ للفواعل في القضية العراقية أوقع اطرافا عدة في أخطاء متوقعة وغير متوقعة بل وقاتلة في الوقت نفسه.
إن الذي نريد إثباته هو أن هناك ثنائيات عدة تفعل فعلها في القضية العراقية بعضها أشد من بعض، وإن إغفال أي ثنائية منها سيوقع اصحاب الرأي والقرار في مآزق وزوايا واختناقات هم في غنى عنها، وكم كابرت أطراف في عدم الاعتداد بهذه الثنائيات الفاعلة، إلا أن قوتها وتجذرها أجبرتهم في النهاية على القبول بضرورة النظر اليها ككتلة واحدة ومنظومة مترابطة في علاج وحل القضية العراقية، إذ أن في هذه الثنائيات من التراكم والتجذر والفعل ما يجعلها تفرض شروطها على الواقع وبقوة.
واذكر من هذه الثنائيات على سبيل المثال:
ثنائية المقاومة والاحتلال.
ثنائية الشيعة والسنة.
ثنائية العرب والاكراد.
ثنائية العراق وإيران.
ثنائية العراق وسوريا.
ثنائية العراق والكويت.
ثنائية الشمولية والديمقراطية.
ثنائية الدولة واللادولة.
ثنائية المقاومة والارهاب.
ثنائية الانغلاق والانفتاح.
ثنائية الإسلام والعلمانية.
عدا ثنائيات أخرى يطول بنا المقام في ذكرها.
إن القضية العراقية قضية معقدة جدا ومركبة جدا، فتحتاج بالضرورة إلى حلول معقدة جدا ومركبة جدا، والنظر المتعجل لن يسعف الأفراد والجماعات لفهم ما يجري ويدور، فضلا عن وضع المعالجات والحلول للقضية العراقية، والأمر بطبيعة الحال أشد حين يكون غير عراقي ولم يدخل العراق مرة واحدة.
إن القضية العراقية كالجسم البشري حين تحكمه قوانين ونسب محددة، وأي اختلال فيها سيؤدي بالضرورة إلى اختلاله أو موته، فان الضغط والسكر ونسب الغذاء وكمية الدم وغيرها مقادير محسوبة لا تتحمل الاختلال ولا النقص أو الزيادة، لأن ذلك سيضره أو ربما يقتله، وكذلك حال الثنائيات الفاعلة فان أي اهمال لواحدة منها سيعود بالضرر والأذى على الجسم العراقي ككل، والقضية تحتاج إلى طبيب ماهر يدرك النسب واحجام القوانين والثنائيات الحاكمة والفاعلة حتى يستطيع التوصيف والتشخيص والمعالجة للقضية العراقية.
ان من كان يتصور ان ثنائية المقاومة والاحتلال فقط أو ثنائية الشيعة والسنة فقط هي الثنائية الوحيدة الفاعلة في الساحة العراقية كمن يقف أمام الفيل فيرى خرطومه فقط، لأنه الشيء البارز فيه وينسى أن أقدام الفيل أشد أذى وضررا من خرطومه لو أراد الفيل أن يضرب خصمه.
إن عدم الأخذ بالحسبان جملة هذه الثنائيات الفاعلة في النظر للقضية العراقية أورث نظرا جزئيا لأبعاد المشكلة وطرق حلها ولعلني اذكر بعض الاسباب في هذا النظر الجزئي:
أولا: حالة الانغلاق التي كانت تعيش فيها النخبة العراقية خاصة والمجتمع العراقي عامة، ثم لم تحدث حالة الانفتاح بطريق سلمية تدريجية مستقلة، وانما الذي قام بذلك هو المحتل الغازي مما جعلها عملية انفتاح دموية ومحدودة ومفاجئة.
ثانيا: التشتت والصراع العرقي والطائفي العام بين المكونات والخاص داخل العرق والطائفة الواحدة مما نتج عنه تشتت الرؤى والاجتهادات وافتقاد الرؤية الوطنية الموحدة.
ثالثا: نقص الخبرة والتجربة لكثير من الجماعات التي ظهرت عقب الاحتلال من أحزاب وتكتلات، مما أفقدها الرؤية الشمولية والكلية لأبعاد المشكلة العراقية.
رابعا: الضغط الاقليمي والاحتلال المباشر، والذي خلق واقعا جديدا جعل الكثيرين يتعاملون ويتصرفون وفق ردود الافعال السريعة وغير المدروسة.
خامسا: حجم المشكلات الهائل والموجود قبل الاحتلال مع حجم المشكلات الهائل والمرعب الذي صنعه الاحتلال، والذي خلق واقعا معقدا مركبا احتاج بالضرورة إلى نخبة من طراز خاص، مخلصة في إرادة الإصلاح، موحدة لا منقسمة على نفسها، مع تثقيف هادئ وعدم قفز فوق الثوابت، مع دراسات وابحاث موضوعية معتمدة، وقد غاب الكثير من ذلك مع الاسف.
سادسا: الإعلام الخطير والغوغائي وغير الهادف الذي أثار حالة الضجيج والتعمية بقصد وبدون قصد وافتقاده للأجندة والبرامج الوطنية التي تمس صميم المشكلة، بعيدا عن الصراخ في الهواء والمبالغة والتهويل أو التمييع والتهوين لمفردات المشكلة العراقية، والذي أحدث إرباكا خطيرا في المجتمع العراقي بل حتى النخبة لم تكن محصنة بما يكفي تجاه تأثيرات هذا الإعلام الموجه.
سابعا: القياسات الخاطئة على تجارب أخرى، نقاط الافتراق فيها أكثر بكثير من نقاط الاتفاق مما أنتج إسقاطات خاطئة وقاتلة على التجربة العراقية.
إن القضية العراقية تعاني من جملة هذه الثنائيات، فهي تعاني من الاحتلال والطائفية والأطماع الاقليمية ورواسب القومية ونفسية الدكتاتورية وعدم فهم الديمقراطية وتحدي تشكيل الدولة، إذ المحتل لم يسقط النظام فحسب بل أزال الدولة برمتها، وكان السباق محموما من أجل حجم الاشتراك في بناء هذه الدولة الجديدة، فالتحدي لم يكن تحدي إخراج المحتل فقط بل كان تحدي تشكيل الدولة الوليدة التي إن تم تشكيلها دون توازن فستبقى المظلومية التي ستؤجج حالة الصراع على طول الخط، كما عانى من الإرهاب الذي حصد أرقاما فلكية من الضحايا لا يقلون عن ضحايا المحتل أو يزيدون، كما عانى من الانغلاق السابق والانفتاح الحاضر والمحمل بهجمة شرسة على الاخلاق والقيم من خلال التكنولوجيا المعاصرة والإعلام الممول الموجه للإنسان العراقي.
بالاستقراء المعرفي والميداني والحواري والإعلامي أن أكبر خطأ تقع فيه الاتجاهات الإصلاحية من أحزاب سياسية وحركات وجمعيات إصلاح اجتماعي، هو القياس مع الفارق على تجارب مماثلة في أقطار وأزمنة أخرى، عاشت ظروفا مغايرة تماما والعوامل المؤثرة فيها غير العوامل المؤثرة في غيرها.
إن التاريخ لا يعيد نفسه والتجارب لا تتكرر بحذافيرها، وهي تختلف فيما بينها اختلافات حادة في الايديولوجيات والاستراتيجيات والتكتيكات، لاختلاف نوع العدو وحجم الامكانيات والظرف الدولي والاستعداد الشعبي والوضع الثقافي والنفسي والاجتماعي له، وباختصار إن المشكل المعقد لا يحل بالبسيط والمشكل المركب لا يحل بالأحادي.
وإن من يريد إصلاح الحاضر العراقي ومستقبله فإن عليه أن ينظر للعوامل والثنائيات التي شكلته في الماضي لأنها هي ذاتها التي ستشكله في الحاضر والمستقبل.

من كتاب فاعلية الإصلاح عند الاتجاهات الإصلاحية الحديثة والمعاصرة دراسة تقويمية، ص86، للدكتور سعد الكبيسي.

 

*جميع المقالات المذكورة في الموقع تعبر عن رأي أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي المنظمة