الكاتب: رفاعة عكرمة
سبق وأن كتبت قبل شهور عن التوتر المتنامي بسبب ما يعنون بأزمة اللاجئين السوريين في تركيا، وذلك تحت عنوان “نحو تعايش أكثر نضجاً” وركزت فيه على الأسس والموجبات ودور المؤسسات ذات الصلة فيما يتعلق بالتأزم في العلاقات الشعبية والاجتماعية، والتي تفاقمت نتيجة دحرجة بعض الاحتكاكات بين سوريين وأتراك نحو الإعلام بما زاد في تأجيج المشاعر وتهويل الانطباعات وتوسيع دوائر التأثر بها.
ومازال هذا الأمر ملحاً إن لم يصبح ضاغطاً لاتخاذ خطوات إسعافية وعاجلة لتدارك كرة الثلج التي ترهق الجميع وتقض مضاجع الكثيرين، وربما لا تحقق مصالح ذات بال لأحد ممن يريد الخير للشعبين التركي والسوري.
ويمكن قول الكثير عن حقائق الوجود السوري، وعن خلفياته، وعن مستقبله، ويمكن لمراكز الأبحاث إجراء الكثير من الدراسات والمقارنات عن حالات اللجوء المماثلة في مختلف قارات العالم، وعن مؤشرات تأثيراتها السلبية والإيجابية على بلدان الاستقبال، وعن إطاراتها الزمنية وآفاقها المستقبلية، بما يقدم بعض الطمأنينة بين الأفرقاء.
كما يمكن التذكير بأنه لا أحد كان يتخيل أن السوري ذو التاريخ العريق والهمة العالية والحضور الإيجابي حيثما حل وارتحل سيصبح لاجئاً وشعباً مشرداً في العديد من بلدان الشرق والغرب، مثله في ذلك مثل الأوكراني الذي يصدر للعالم الكثير من المنتجات.
ويتصدر بلدان العالم بالعديد من المنتجات. وكلا حالتي السوري والأوكراني هي واقع يقول بأن أخطاء الساسة وتوالي الأحداث جعل اللجوء واقعاً يصعب القفز عنه حتى توفر الإرادة الدولية الفاعلة، مما يجعل الواقع الراهن شديد التعقيد وله تشابكاته التي تمنع بلداً من إيجاد حلولاً جذرية بمفرده، وتفرض على نخبه السعي لتفكيك الهواجس وتعظيم المشتركات واغتنام الإيجابيات.
ويمكن القول كذلك عن المنافع الاقتصادية للوجود السوري في تركيا، انطلاقاً من معادلة وسطية بأن كل ست سوريين هم عائلة ويسكنون بيتاً، وهذا يعني استئجار ما يقارب نصف مليون منزل مع ما يتبع ذلك من إنفاق شهري على مستلزمات الحياة اليومية بالمليارات من الليرات التركية التي يصبها الوجود السوري شهرياً في شرايين الحركة الاقتصادية بمختلف ميادين الإنتاج والتجارة الداخلية في تركيا.
كما يمكن الحديث عن مدى انعكاس الوجود السوري على حركة البناء والعمران في العديد من المحافظات وعلى دورة الاقتصاد الداخلي في بلد يشتهر بتصديره للمنتجات الزراعية والمصنوعات الغذائية، بما يعني أن الاستهلاك السوري هو من استهلاك فائض المنتوج التركي وليس على حساب المستهلك التركي.
ويمكن القول كذلك عن تحفيز الوجود السوري لحركة السياحة العربية في تركيا، وتنشيط الإقبال على التملك العقاري بسبب تخفيف الحاجز اللغوي من خلال النشاط السوري في ميدان السياحة وتوفيره لما يلبي النمط العربي في الأكل والحلويات والجولات السياحية وتوابعها، مما ينعكس إيجابياً على حركة التملك والاستثمار بوجود السوريين في طليعة حوالي خمسة ملايين من العرب المقيمين في تركيا الذين أسسوا وجودهم على متاحات القوانين التركية التي تستهدف بالأساس تنمية المداخيل من السياحة بمختلف أنواعها وشرائحها وتيسر بالتالي إمكانيات الإقامة طويلة الأمد على أراضيها.
كما ويمكن الاستفاضة بالقول عن دور بعض وسائل الإعلام ومنابره في صب الزيت على النار، وخلق حالات اصطفاف لاواعي، والدفع باتجاه فخ التعميم الذي يظلم الطرف التركي وكذلك الطرف السوري ومن خلفه العربي عموماً، والبيان بأن السوري ينفرد بأنه ابن البلد الذي يجمع أقدم عاصمة مأهولة في التاريخ إلى أقدم مدينة مأهولة في التاريخ، وأنه مجتمع بارع تاريخياً في تغليب المشتركات واحتضان الهجرات عبر تاريخه الطويل وتاريخه المتوسط في النصف الأول من القرن الماضي وفي عصره الحديث.
كما يمكن التذكير بأنه مجتمع احتضن وبكل أريحية مئات آلاف اللاجئين من المجتمع التركي ذاته، ولم يحصل أي احتكاك خشن مع أي من الهجرات إليه، ولم يفقد ثقافته بل أغناها، كما أنه لم يسلخ تلك الهجرات من خصوصياتها، ولم يستعديها أو يعتدي عليها بتنمر أو تحيز مفروض. ويمكن قول الكثير عن أنه وكما الطرف التركي ليس سواء فيما يتعلق بالنزعة العنصرية فكذلك الطرف السوري ليس سواء من جهة خلفية الوجود في تركيا، وطبيعته وظروفه، ولا من جهة نوعية إقامته ونشاطه ووضعه المادي، وليس كل السوريين من تلك الصورة النمطية عن الشخص القابع في خيمة ينتظر الدعم والسلة الغذائية، بل إن معظمهم على العكس وهم جزء من تلبية حاجة أخيه السوري المضطر للبقاء في خيمة اللجوء.
ولكن كل هذا الكلام وكل ما يتعلق به من تفاصيل لا تلبي الحاجة عن طرفي الاحتقان، ولا يغطي كل الهواجس ويلغي كل الانطباعات، لأنه بغالبه حديث النفس للنفس وليس حواراً وتفاعلاً مع الآخر، ولأنه حديث النخب والصالونات. وأكثر ما يحتاجه السوريون والأتراك من تلك النخب هو جهد منظم وعمل دؤوب لتجسير الهوة بين الانطباعات والواقع، وتغليب المشتركات الإنسانية والثقافية والتاريخية على الفروق القومية واللغوية وعلى النفور من الفروق في نمط الحياة وتفاصيلها اليومية. وكذلك إلى تعميق الوعي أن العالم قد أصبح قرية واحدة، والعبرة في احترام الخصوصيات وتغليب المشتركات لتحقيق مجتمعات منسجمة تركز على تحسين جودة الحياة بمختلف جوانبها، وأن أقوى المجتمعات هي أكثرها قدرة على التفوق والنماء هي تلك التي تتقن لغة المشتركات وتحتضن الخصوصيات ولا تنشغل بالمناكفة معها، وتبرع في صب مختلف الطاقات والإمكانات في ماكينة الحاضر لبناء صروح المستقبل. وفي هذا التوجه تحقيق لمصالح حيوية مشتركة للشعبين السوري والتركي في الحاضر والمستقبل، فالحاضر اليوم واقع معقد ذو بعد دولي مؤطر بقوانين دولية لا تعطي هوامش في اتخاذ إجراءات أحادية الجانب، وليس من مصلحة الحياة في تركيا وجود تأزيم عبر إعلام يؤجج ولا يعالج ويعمق الشروخ بدل معالجة الندوب، والمستقبل يرتكز على أن سورية هي الجارة الجنوبية لتركيا ورئتها البرية للتصدير نحو باقي العالم العربي، ومن الطبيعي أن يكون لاقتصادها أوثق الصلات مع الاقتصاد السوري المجاور، وأن هذا في صلب ما يحتاج التأسيس له اليوم عبر تجاوز الهواجس العنصرية وعزلها عن ساحة الفعل والتأثير الاجتماعي والاستراتيجي وتهيئة المناخات لتفاعل إيجابي صحي.
ومن هنا تتعاظم أهمية التداعي للتعاون في فتح ثغرات في جدار الانطباعات والهواجس التي تتراكم يوماً بعد يوم، ولعل أولى من يقوم بذلك هي التجمعات المهنية السورية وروابط المنظمات المدنية السورية، بالتعاون مع الجهات التركية النظيرة وبالتنسيق مع الجهات الحكومية التركية ذات الصلة، والتي تعتبر المعني الأول في التخطيط والدعم لما فيه الصالح العام لكلا الشعبين حاضراً ومستقبلاً. ولابد من إقامة ورش عمل بين مختلف تلك الجهات لتحليل الواقع وتحديد أوجه الاحتقان وبواعثه، وحصر الانطباعات السلبية، وتحديد الحقائق الغائبة والمغالطات الشائعة، والأهم من ذلك كله تحديد أهم السلبيات التي تعيق التعايش التركي السوري رغم الكثير من المشتركات و ورغم مرور عشر سنوات على الوجود السوري في تركيا، ومن ثم العمل على بث البدائل وترميم الفجوات في مركب التواصل الإيجابي والتعايش الطبيعي عبر معالجات مستمرة تنبني على جهد مستمر وحوار مجتمعي متعدد الشرائح والطرائق، ونطرح في سبيل ذلك بعض الأفكار التي نعتقد أنها مفيدة في هذا الاتجاه.
1- منصة تعاون بين الجهات البحثية السورية التركية: وذلك بغية التعاون في تحليل مختلف حالات اللجوء العالمية والاستفادة من خبراتها ودروسها، وتوفير المعلومات والمعطيات التي تخفف سلبيات الوجود السوري، وتهدئ خواطر المتوجسين من الشعب التركي، بما في ذلك توفير المعلومات القانونية والحقوقية التي تؤطر الوجود السوري في تركيا.
2- تصميم برنامج للتعايش: وهو جهد مهم أن تقوم عليه مختلف الجهات السورية ليتضمن شرحاً لخلفية الوجود السوري وبيان للمشتركات التاريخية بين الشعبين وطبيعة المجتمع السوري والنشاط الاقتصادي السوري قبل اللجوء، مع بيان شرائح الوجود السوري في تركيا، ويشرح للسوريين القواسم المشتركة بين الشعبين السوري والتركي، ويوضح لهم أهم الانتقادات الشعبية التركية والانطباعات السلبية التي تراكمت نتيجة الممارسات التي استهجنها الجانب التركي عبر سنوات الوجود السوري في تركيا. وعلى أن يتم التعاون مع الجهات التركية في تعميم التدريب على هذا البرنامج ولو من خلال فرض إرفاق وثيقة حضوره عند تقديم وثائق تجديد الإقامة، مع العمل على تطوير برامج ودورات الاندماج الموجهة للجانب السوري وسبل تعلم اللغة، وكذلك العمل على إطلاع مختلف الشرائح التركية على برنامج التعايش التركي السوري بحيث يرى الواقع بعيون سورية، ويأخذ بعين الاعتبار المخاوف والهواجس والمعيقات التي تكبل السوري وتجعله على مسافة أقل من المأمول في الاندماج وتعزيز التقارب الشعبي والتلاحم والتراحم المجتمعي، وفرض الاطلاع عليه على كل الشرائح التركية ذات التماس المباشر مع مناطق الوجود السوري الواسع.
3- العمل على إيجاد برلمان شبابي سوري تركي: وهو خطوة رمزية ذات بعد اجتماعي ثقافي توعوي إعلامي، ومفيد لخلق وعي شبابي بقضايا الحاضر وحاجات المستقبل أن يضم هذا البرلمان الشبابي طاقات من الجنسين بما يحقق توازن في شرائح ثلاث، وهي: الشباب التركي، والشباب السوري، والشباب التركي من الجيل الثاني والثالث من المهاجرين من مختلف الأصول وفي مقدمتها ذوي الأصول العربية الموجودة في المجتمع التركي منذ عشرات السنوات، وذلك من الشباب المثقف ومن طلبة مختلف الجامعات والمحافظات. ويهدف هذا الجهد لخلق ساحة حوار ومناظرات وفضاءات عصف ذهني وتحليل جمعي لمختلف التجارب السياسية والاجتماعية، وللتفاعل للقضايا المثارة اجتماعيا وسياسياً وإعلامياً، ولسبر أغوار المستقبل ضمن جلسات حوار واستماع تغطيها مختلف وسائل الإعلام وتمتلك منصاتها على مختلف مواقع التواصل الاجتماعي، بما يعزز التلاقح الفكري والقيمي والتقارب المعرفي والاجتماعي، ويعالج ندوب العلاقات بين الجاليات والشعب التركي، وترسم للفوائد التي ترتكز على التعايش. ويمكن لهذا الطرح أن يكون نواة لتحقيق العديد من المبادرات المجتمعية وتحفيز الوصول لحلول لمختلف القضايا والإشكالات، وأن يكون تحت رعاية واحتضان من الجهات الحكومية والبلديات والمنظمات ذات الصلة، وانطلاقة ذلك تأتي عبر التواصل مع اتحادات الطلبة في مختلف الجامعات التركية، وتطوير العمل منها للوصول إلى نخبة منتقاة بناء على برنامج يحقق الغايات المرجوة.
4- منبر إعلامي جماهيري باللغتين العربية والتركية: ويمكن أن تأخذ المنصة اسماً تركياً من لفظة مشهورة عن التعبير أو الاستماع وربما لفظة مشتركة بين اللغتين أو مصطلح يجمع الأحرف الأولى لكلمات تعبر عن المسار والغاية من المنصة من مثل: (تفاهم، تعايش، تقارب، تعاون) وذلك على غرار منصة تيد العالمية، والهدف من هذه المنصة فتح ثغرة إعلامية للصوت الجماهيري ولمختلف الشرائح للتحدث إلى الجمهورين السوري والتركي بذات الوقت، وبحيث تتم ترجمة الكلمات والاطلالات الجماهيرية من لغة المتحدث إلى اللغة الثانية، ويمكن إشهار هذا المنصة من خلال دعوة مشاهير الفكر والثقافة والفن والرياضة والإعلام والمال والأعمال، وكذلك مشاهير الإعلام الجديد.
وفي هذا المقترح تتم مواكبة مختلف الحالات والطوارئ التي تمس حاضر ومستقبل التعايش التركي السوري وهواجسه وهمومه، كما تبرز قصص النجاح عبر المواهب والطاقات التي يزخر بها كلا المجتمعين من غير المتفرغين للإعلام والظهور الإعلامي المتكرر. ويمكن رصد جوائز تقديرية لأنجح وأبرز الحالات التي يقدمها المشاركون بما يعزز التواصل الاجتماعي مع المخرجات الإعلامية لهذا المنبر. تتمحور هذه المقترحات حول أهمية تفعيل الدور المجتمعي والريادة المدنية في تجفيف منابع النزعة الشعبوية للحيلولة دون تحولها إلى نزعة عنصرية تحاكي اليمين المتطرف في تصوراته للحياة وقيادة المجتمع وتغير قيمه وتوجهاته نحو أفق ضيق، ولابد لمثل هذه المقترحات من حوامل ريادية وجهود واعية بالمخاطر والتهديدات وتبذل ما في وسعها لتعزيز الإيجابيات.
ويقع العبء الأكبر في ذلك على الجانب السوري ممثلاً بتجمعاته المهنية كالمهندسين والمحامين والإعلاميين وروابط منظمات المجتمع المدني تحت رعاية من الجهات ذات الاعتبار، وبتعاون وطيد مع الجهات النظيرة في الجانب التركي، وبتنسيق مع مختلف الجهات في الدولة التركية. حيث أن كتلة مكونة من حوالي خمسة ملايين عربي وسوري يمكن لها بتلك الجهود من أصحاب المبادرة وصناع القرار أن تكون أكثر ثراء وإثراءً للمجتمع التركي، ولتعزيز حضوره الثقافي والإنساني ولتأثيره في الساحة الدولية، وبحيث يكون وجودها أكثر غنىً للاقتصاد التركي، وحضورها في قلب الحياة التركية أكثر أثراً وتقويةً للدور التركي في تحقيق مناخات الاستقرار والتعاون في الفضاء الإقليمي المتوجس من تفاعلات المشهد الدولي وآثارها السلبية على إقليم يقع في قلب العالم.
المصدر: شبكة آرام الإعلامية: https://aramme.com/