د.محمد شاويش
من الصعب جداً أن تناقش من قرر أن يسلّم نفسه لدوافع الكراهية. ولو كنت تريد أن تضع الموضوعية معياراً فهو لن يفهمك، بل لن يوفرك من الاتهامات “المشيطِنة” نفسها، فإن برهنت له أن هذا الذي اتخذه عدواً لا تنطبق صورته الواقعية على صورة الشيطان في ذهنه وضعك في صف معه مع أنك قد تكون أيضاً مخاصماً له، بل قد يكون خصامك معه أكثر جذرية وأصعب إزالة. لأنه مبني على أسس موضوعية لا عاطفية! ناقشت “علمانيين” (هكذا بوصّفون أنفسهم) يهاجمون “الإسلاميين” تعميماً، وناقشت “إسلاميين” يريدون أن يثبتوا أن خصومهم من القوميين واليساريين لم تكن لهم حسنة قط وأن الشيطان نفسه قد توجد له حسنة ولا توجد لهم! لكني الآن سأتكلم عن هذه الشرذمة التي أنزعج منها أكثر من غيرها، وهي التي تهاجم الإسلام مع هجومها على العرب انطلاقاً من معايير مدانة أخلاقياً من كل منظور إنساني محايد، فهي تهاجمهم من أسوأ منطلقين: المنطلق العنصري والمنطلق الطبقي. يقول هؤلاء الشراذم المنتشرون لا عند شعوب شقيقة ابتليت بالشعوبية الاستعمارية الجديدة فقط (بعض الشراذم في صفوف الأكراد والأمازيغ والإيرانيين مثلاً) بل عند بعض العرب ومن هؤلاء بعض السوريين الجدد: إنه ليقال إن الإسلام دين البدو الصحراويين المتوحشين. وقد افترى عليهم هم المتحضرون منذ ألوف السنين وغزاهم وأسلمهم. ثمة ثغرات تاريخية واضحة في هذه السردية يعرفها كل عارف متعمق بالتاريخ لكني لن أبحث في ذلك الآن. ولم أبحث في صحة هذا التصور المجحف عن البدو، وهم من تعرف لهم على كل حال فضائل كثيرة غالباً ما بفتقدها من يشتمونهم ويعيرونهم! سأبحث في الإسلام من خلال منطق القرآن الغالب. الذي هو كتاب لهؤلاء “البدو المتوحشين”. لنلاحظ أن من الغريب أن يكون للبدو المتوحشين كما يصفهم هؤلاء كتاب أصلاً! كيف يكون كتاب يذكر في مطلع سورة كبيرة من سوره “يا أبها الذين آمنوا أوفوا بالعقود”! ثم يحض على كتابة الدَّين عند الاستدانة بوثيقة. ثم يصل به الأمر إلى درجة أن ينهى المسلمين عن خرق العهود المتفق عليها حتى مع من يخونونها، {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ على سَوَاءٍ ۚ إِنَّ اللَّـهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [الأنفال:58]. ومعناه أنك لا يجوز حتى من ظهر لك أنهم سيخونونك ويغدرون بعهدك أن تنقض العهد دون أن تعلمهم! وفي تفسير الطبري: “قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ( وإما تخافن ) ، يا محمد ، من عدو لك بينك وبينه عهد وعقد ، أن ينكث عهده ، وينقض عقده ، ويغدر بك وذلك هو “الخيانة” والغدر ( فانبذ إليهم على سواء ) ، يقول : فناجزهم بالحرب ، وأعلمهم قبل حربك إياهم أنك قد فسخت العهد بينك وبينهم ، بما كان منهم من ظهور أمار الغدر والخيانة منهم ، حتى تصير أنت وهم على سواء في العلم بأنك لهم محارب ، فيأخذوا للحرب آلتها ، وتبرأ من الغدر ( إن الله لا يحب الخائنين ) ، الغادرين بمن كان منه في أمان وعهد بينه وبينه أن يغدر به فيحاربه ، قبل إعلامه إياه أنه له حرب ، وأنه قد فاسخه العقد”. لاحظ أن الله عز وجل حذر المسلمين أنه لا يحب الخائنين وهم المقصودون بهذه الإشارة!
وفي جانب آخر يخص الحياة الاجتماعية: كيف بتناسب هذا التصور عن بداوة غير متحضرة همجية مع هذه الأحكام التفصيلية للاستئذان عند زيارة البيوت!
بل كل اللغة القرآنية هي لغة مجتمع مدني تجاري، وحتى التعابير المجازية عن الثواب والعقاب أخذت من مصطلحات عالم التجارة لا من مصطلحات عالم الصحراء والبداوة!
وقد قلت (وأردت المزاح طبعاً) لهؤلاء “المتمدنين” من كارهي الإسلام الذي أفسد الحضارة السورية على زعمهم، أن القرآن جاء مجتمعكم الزراعي الإقطاعي المتخلف بمفاهيم تجارية برجوازية فهو بمثل “تقدماً تاريخيا” على عكس تصوراتكم السطحية للتاريخ ولعلم الاجتماع أيضاً!