سيرة العنصرية في المواسم الانتخابية
حسام شاكر
من آفات التطبيق الديمقراطي أن تتدهور الحملات الانتخابية إلى مزالق الشحن العنصري، فتصير مواسم الاقتراع العامّة عبئاً ثقيلاً على مكوِّنات مجتمعية تجد ذاتها في بؤرة الذمّ والاستهداف والتشويه والتحريض مع كلّ موسم منها.
تكمن العلّة في جشع الكسب الجماهيري، الذي يدفع بعض الانتهازيين إلى محاولة شقّ صفوف مجتمعاتهم على أساس تصنيفات معيّنة، سعياً إلى تعظيم رصيدهم التصويتي في ساعة الحقيقة، وقد ينطلقون في ذلك من خنادق مؤدلجة أو منطلقات متصلِّبة أو استراتيجيات مرسومة لا تقتصر على مراوغات الموسم الانتخابي العابر.
إنها حيلة تقليدية عرفتها بيئات ديمقراطية عريقة عبر عهود شتى، ولا زالت طرائق توظيفها تتجدّد في الواقع وتُحمَل إلى المستقبل. تقوم الحيلة على محاولة حشد الأغلبية أو كتلة تصويتية مرجِّحة؛ في مواجهة أقلِّية معيّنة أو عدّة أقلِّيات، مع تحميل المُكوِّن المجتمعي المُستهدف بالذمّ والتشهير والتشويه والتحريض مسؤوليّات سابغة عن مشكلات اقتصادية واجتماعية وأمنية قائمة أو مُفترَضة، فتصير الأقلٍّية إيّاها مشجباً مخصّصاً لتعليق الأوزار المُتثاقلة والخطايا المتراكمة عليه؛ ما يصرف الانتباه بعيداً عن مساءلة الواقع والضالعين في إنتاج إخفاقاته، ويفوِّت فرص الانشغال بخيارات الاستجابة الجادّة لتحدِّيات الحاضر والمستقبل.
لا يقتصر هذا السلوك الانتهازي على قوى شعبوية مُعارِضة؛ فقد تستمرئ أحزاب الحكم وشخصيّاتها ورموزها الإقدام عليه أيضاً، عندما تحاول، مثلاً، سحب البساط من تحت الخطاب العنصري المعارض؛ بمُجاراته ومُحاكاته وتقمّصه، أو عندما ترغب بصرف الأنظار بعيداً عن إخفاقات أدائها ومعضلات ساهمت في إنتاجها، فتصير دعاية الشحن ضدّ مكوِّن مجتمعي أقليّوي بمثابة قنبلة دخانية يُراد منها حجب الأنظار عن واقع لا مصلحة لقوى الحكم في انشغال الشعب به.
لا يأتي تقليد الشحن العنصري في المواسم الانتخابية على ضرب واحد، فقد يتجلّى للعيان صريحاً وفجّاً في خطابات قوى شعبوية مصنّفة تقليدياً في أقصى اليمين، لكنّه قد يتمظهر بشكل مُتذاكٍ في خطابات قوى محسوبة على الوسط الديمقراطي والاعتدال السياسي، وقد يأتي في هذه الحالة أشدّ وطأة وأعظم مفعولاً لأنه لا يٌسفر عن ذاته بوضوح في هذه الحالة على الأرجح، وقد يشير من هذا الوجه إلى أنّ المنطق العنصري تبوّأ مقعده في أروقة السياسة التقليدية ومؤسسات صناعة القرار، وسيكون لهذا ما بعده بطبيعة الحال.
تتفاقم النزعات العنصرية في فضاء الديمقراطيات عندما تتجرّد القوى السياسية والمجتمعية من الشجاعة الأدبية في مواجة هذه الآفة، فتتجنّب خوض مغامرة الترافع المبدئي وتُؤثِر السلامة خشية خسران قسط من الأصوات في يوم الاقتراع، وهذا من سمات السلوك الانتهازي أيضاً. لا يكفي في هذا الصدد أن تمتنع أحزاب سياسية وقوى مجتمع مدني عن الاغتراف من البركة العنصرية الآسنة، ذلك أنّ الالتزام المبدئي يفرض عليها أن لا تتوانى عن التحذير منها والتصدِّي لمن يُسمِّمون المزاج الجماهيري بخطابات الغلوّ والكراهية. يعني هذا، بكلمة أخرى، أنّ الضالعين في الانجراف العنصري هم أيضاً أولئك الذين يجودون عليه بسكوتهم ويشجِّعونه بالتغاضي عنه، ولا يجترئون على منازلته في منابرهم، خشية الإضرار بحظوظهم الشعبية وحصّتهم التصويتية.
تكمن هذه الخشية، الانتهازية بطبيعة الحال، من دفع ثمن موقف لا يحظى بشعبية؛ من قبيل الدفاع عن مكوِّنات مجتمعية يُطاردها سياط التشهير أو الظهور في هيئة توحي بالترافع عن أقلٍّية في مواجهة أصابع اتِّهام تُوجّه إليها من خطابات متذرِّعة بالأغلبية. ينبغي الإقرار من هذا الوجه بأنّ بعض التقاليد الانتخابية في فضاء الديمقراطيات تُغري بالجُبْن السياسي ولا تشجِّع على قول الحقّ أو دفع الزيْف إن تعلّق الأمر بفئة مجتمعية يطوِّقها التحامُل ولا تكاد تجد لها نصيراً.
من شأن هذا المنحى، مع جملة مُتلازِمات أخرى، أن يُؤدِّي إلى هيمنة المنطق العنصري على كتلة متعاظمة من الجمهور، إلى درجة ستُغري مزيداً من القوى السياسية بالانخراط في لعبة التأجيج هذه، وقد تنشأ أحزاب وتكتّلات جديدة تراهن على اصطياد أصوات جمهور تملّكته النزعة المريضة واستولت عليه الحالة السقيمة. لا تنفكّ القوى السياسية الحاذقة، المدفوعة برغبة الفوز أو المسكونة بهاجس الخسارة، عن مراقبة اتجاهات الناخبين وقراءة مؤشِّرات الاستطلاعات؛ على نحو يغريها بمحاولة وضع العربة أمام الحصان عبر تملّق الاتجاهات السائدة ومحاباة النزعات الصاعدة إن لم تكن ضالعة في الأساس في إذكاء الحالة والنفخ فيها، أو أن تقعد عن التذكير بالقيم والمبادئ ومخاطر الانزلاق الأهوج إلى دركات مجتمع التفرقة والتمييز.
ينبغي التفريق في هذا المقام بين عنصرية الخطاب والمناورة الانتخابية من جانب؛ وعنصرية النهج والتطبيق العملي من جانب آخر. ذلك أنّ بعض القوى والشخصيات السياسية تلجأ إلى خطاب الكراهية الصريح أو الإيحائي ضمن مسعاها التنافسي؛ لكنّها تدرك أنّ سذاجة هذا الخطاب لا يُسعِف أصحابه في تدبير شؤون الحكم والدولة. كان كارل لويغر سياسياً نمساوياً واسع النفوذ، لجأ مع نهاية القرن التاسع عشر وبواكير القرن العشرين إلى المزايدات الشعبوية الرخيصة خلال صعوده السياسي في فيينا، التي كانت عاصمة امبراطورية عظيمة أنذاك. رأى لويغر فرصته في شحن الجماهير على طريقة بعض سياسيِّي أوروبا في القرن الحادي والعشرين، الذين يقومون بتعبئة الجمهور بشعارات لا يكون السياسي ذاته مقتنعاً بها، حتى أنّ لويغر قال يوماً (1908): “نحن نعلم أنّ العداء للسامية هو في السياسة وسيلة تأجيج من أجل الصعود، لكن ما إنْ يُصبح المرء فَوْق (في الحكم) فلن يحتاجها”. من القسط القول إنّ تقليد الشحن المضادّ لليهود آنذاك استُؤنِف لاحقاً مع فئات أخرى؛ كما يُلحظ في حمّى الإسلاموفوبيا والنزعة المكارثية التي تطارد المسلمين.
ثمّة قوى وشخصيات سياسية أخرى تتّخذ من العنصرية والكراهية نهجاً تحاول الصدور عنه في واقع التطبيق والممارسة، فهي لا تكتفي بالشحن والتعبئة على مستوى الخطاب إن أوتيَت القدرة على ذلك. على أنّ بعض القوى والشخصيات قد لا تُفصِح عن هذه النزعة في خطابها بصفة ظاهرة؛ لكنّها تتبنّى في واقع التطبيق مضامين محسوبة في الأساس على توجّهات القوى العنصرية التقليدية؛ وقد يُؤتى بهذه التطبيقات بصفة حاذقة ضمن سرديّات تبريرية محبوكة؛ على نحو يبتغي دفع وصمة التطرّف والعنصرية والتفرقة عنها؛ أو عبر تسويغ ما تُقدِم عليه بخطابات لَوْم الضحية وتغليف موقفها باستدعاءات قيمية مُتذاكية.
قد يَصعُب الاعتراف بحقيقة أنّ رسوخ العملية الديمقراطية لا يقضي بأخلاقية الخطابات والممارسات التي تتفاعل في أحشائها. وما هو أشقّ ربّما؛ الإقرار بأنّ البيئات الديمقراطية تبقى عُرضة لمخاطر المزايدات الشعبوية وحمّى الكراهية والشحن العنصري، لأنّها تقوم من الناحية البنيوية على استدعاءات متلاحقة لجمهور قابل للتسخين إلى صناديق الاقتراع. يزداد مفعول الغواية العنصرية عندما يستشعر الجمهور قلقاً جارفاً على موارد رزقه ومواصفات عيْشه وواقع أمْنه، أو عندما تستبدّ به هواجس ثقافية وعُقَد حضارية ومخاوف ديموغرافية وخشية متأصِّلة من تغيِّرات تتلاحق من حوله تشعره بفقدان السيطرة على الواقع الذي عَهِدَه من قبل.
تجد الخطابات العنصرية مرتعاً لها في مواسم الاقتراع، فتتسلّل إلى بعض الحملات الانتخابية أو تُهيْمن عليها، ولن ينقطع الأثر الجسيم على الجمهور إن لم تنجح هذه الحملات في اقتطاع نصيبها من الفوْز، فللخطابات السقيمة وقعها الذي يتجاوز الحدث الانتخابي بطبيعة الحال. أمّا الأوساط السياسية والمجتمعية الذي تقعد عن مسؤولية التصدِّي الصارم لهذه الخطابات فتتورّط من هذا الوجه في تهيئة الجمهور لاعتياد هذا المضامين بصفة لا تستثير الرفض والمناوأة من بعدُ.
وكما أنّ المواسم الانتخابية فرصة مواتية لانتعاش خطابات العنصرية والكراهية والتفرقة والتحريض إن لم تُقابَل بمقاومة سياسية ومجتمعية جادّة؛ فإنّ اللجوء إلى الجمهور كي يقول “كلمته” قد يمثِّل حيلة نمطية لاستدراجه إلى رجع صدى مُتوقّع منه سلفاً؛ بعد أن مارست الخطابات الشعبوية الساذجة فنون التسخين وأحابيل التضليل معه. هذا ما يُفسِّر تعويل بعض القوى الشعبوية عموماً، ومنها قوى عنصرية، على اللجوء إلى أدوات الديمقراطية المباشرة، لأنها تدرك ما تتيحه الاستفتاءات الشعبية من فرص لمحاولة استقطاب الجمهور صوب اختيارات معيّنة وإن لم تكن له مصلحة فيها.
يبلغ الأمر مبلغ الرِدّة الثقافية والقيمية، عندما تُستدعى أغلبية الشعب أو تتحرّك أغلبية النوّاب، للتصويت على حقوق أقلِّية معيّنة يُستفرّد بها حصراً؛ فتُتّخذ شؤونها وخصوصيّاتها موضوعاً لاستفتاءات تصويتية أو لمداولات برلمانية؛ كما حدث في ديمقراطيّات عريقة ويحدث.
هكذا تتنكّر التجارب الديمقراطية لقيمها إن هي وضعت أغلبية الجمهور في مواجهة أقليّته، ورضخت لإغراء الانزلاق العنصري وخطابات الكراهية وحمّى التفرقة وتقاليد التحريض، وقد يكتشف القوم متأخِّرين أنّ نطاق الضرر لم يتوقّف عند حدود مَن استهدفهم هذا التصعيد في ظاهر الأمر؛ فإنّ الداء العنصري يُغيِّب بالأحرى ضمير الأمّة ويذهب بانفتاحها ويقوِّض قيماً ومبادئ والتزامات نحتتها في مواثيقها وقرّرتها في دساتيرها ورفعتها في شعاراتها؛ فتصير هذه أو بعضها حبراً على ورق أو قريباً من ذلك، وقد تتفاقم معضلات البلاد الواقعية في ظلال هذا التسخين الأرعن دون أن يُكترث بها.