كتب حسام شاكر
عنصرية تبتلع مجتمعها وتجاوزات تجرف جمهورها
توالت من دارفور في سنة 2023 تقارير عن ممارسات فظيعة تجري بحقّ الأهالي، تشمل أعمال تشريد وقتل واغتصاب، منسوبة، في بعضها على الأقلّ، إلى قوّات جرّارة تُصنِّفها قيادة الجيش السوداني “مُتمرِّدة”. إنّها “قوّات الدعم السريع”، التي تحمل هذه التسمية الإيجابية الرشيقة بعد أنْ عُرِفت ابتداءً في المنطوق المحلِّي بوصف “الجنجويد”، التي تعني “الجنّ على الجياد”. ارتبطت سيرة تأسيس تلك القوّات بفظائع جسيمة منسوبة إليها قبل عقدين من ذلك تقريباً في إقليم دارفور ذاته.
كما في سيرة الصراعات؛ ثمّة تضارب في مواقف الأطراف في الحُكم على مآسي دارفور السابقة كما على مآسيها اللاحقة. على أنّ إحدى عظات المشهديْن اللذين يفصل بينهما عقدان من الزمن؛ أنّ بعض التجاوزات التي تُكنَس تحت بساط التجاهل ولا يُساءل الضالعون المُحتمَلون فيها؛ مؤهّلة لأنْ تتفاقم وتتضخّم إلى درجة تقلب البساط والطاولة بحيالها إنْ وقع التهاوُن مع مُقدِّماتها والتغاضي عن عقابيلها.
صارت أعمال الفتك الجماعي التي رُسِمت فظائعها في تقارير ميدانية متعدِّدة من دارفور خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين؛ حاضرة ومرئية في مشهد العقد الثالث من القرن ذاته، فقد أُعيد تمثيلها على نطاقات مُرعِبة في أنحاء شاسعة من بلاد النيليْن النازفة، ومنها العاصمة الثلاثية الكبرى، الخرطوم وأم درمان وبحري، بعد أن ظلّ مركز البلاد بمنأى عن فظائع اقتصرت على بعض أطرافها القاصية ثم طويت صفحاتها تقريباً دون معالجة أورامها الخبيثة.
تستمرئ بعض الأنظمة تجاوزات تبلغ مبلغ الفتْك والقمْع والتعسُّف، وقد تشي بالعنصرية والغطرسة والاستغلال، لمجرّد أنّها تعدِّيات على من يُعَدّون “آخرين” أو محجوبين عن بقعة الضوء المركزية على أساس تمايُز إثني أو مناطقي أو طبقي أو سياسي. مِن عظات الاجتماع الإنساني أنّ هذه الأنظمة ومجتمعاتها المتواطئة معها بالتشجيع أو بالتجاهُل؛ تُخاطِر بمستقبلها، أو بمصير أقوامها وجمهورها بالأحرى.
تبدو العِظَة جليّة في حالات أخرى، كما يتّضح من سيرة أونغ سان سو تشي، الشخصية المرموقة التي حازت جائزة نوبل للسّلام سنة 1991 على خلفيّة “نضالها” السابق ضدّ الاستبداد. التزمَت أونغ سان سو تشي الصمْت طويلاً إزاء حملات التطهير العرقي المُتلاحقة التي تواصلت أمام ناظريْها ضدّ أقلٍّيّة الروهنغيا، وعمدت في مواقف عدّة إلى تبرير هذا النهج، حتى أنّها انبرت إلى الدِّفاع عنه في منصّات دولية منها المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي في كانون الأول/ ديسمبر 2019 عندما كانت المُعارِضة السابقة تتصدّر قيادة بلادها في ميانمار وتتواطأ من هذا الوجه مع القيادة العسكرية في بلادها التي تُمسِك بمقاليد الأمور من وراء ستار سياسي مُصطنع تتصدّره هي. دعمت السياسية التي اشتهرت بـ”الدفاع عن الديمقراطية” دعاية نفْي المواطنة والانتماء الوطني عن الروهنغيا؛ عندما أعربت عن شكوكها في أنّهم من أهالي البلاد حقّاً، وهو أساس مزعوم استندت إليه سياسات الاضطهاد المزمنة وحملات التطهير العرقي ضدّهم. تسبّبت هذه المواقف المُخزية في أن تتحرّك مبادرات عدّة لسحب جوائر دولية حصلت عليها هذه السياسية الشهيرة عالمياً بعد افتضاح مواقفها، وقد جُرِّدت في سنة 2017 من “جائزة الحرِّيّة” التي منحتها إيّاها مدينة أوكسفورد سابقاً على خلفية نشاطها لأجل “حقوق الإنسان”. انتهى الأمر بأونغ سان سو تشي من بعدُ إلى السجن ولم يلتفت العالم إلى محنتها بعد أن خذلت حقوق الإنسان وكرامة البشر، فقد اعتقلتها السلطات العسكرية في سنة 2021 رغم أنّها تواطأت مع سياسات العسكر وغضّت الطرف عن ممارسات قوى فاشية متذرِّعة بالبوذية في بلادها ضد الروهنغيا، وحُكم عليها بالسجن سنوات مديدة بتهم مُلفّقة وقد قاربت الثمانين من العمر.
تُمارِس بعض الأنظمة القمع والاضطهاد بحقّ مُكوِّنات تُعَدّ مُغايِرة، دون أن تُواجَه باعتراضات مبدئية وأخلاقية من مجتمعها وجمهورها، أو لعلّها تلقى التأييد والتشجيع من المجتمع والجمهور. تُغري هذه الحالة بعُلُوّ التحريض والمُزايدات التصعيدية وقد يصير القمع والاضطهاد، أو التفرقة والتجاوزات ثقافة عامّة. من شأن هذه الحالة أن ترتدّ على المجتمع من وجوه مُتعدِّدة؛ أقلّها قمْع الأصوات التي تجترئ على البوْح باعتراضها على هذا النهج أو التحذير من عواقبه؛ حتى إنْ بقي هذا قمعاً رمزياً يقوم على الاستقباح والذمّ والاستبعاد من امتيازات معنويّة مُعيّنة. على أنّ الأمر قد يتجاوز هذا المنسوب إلى استدراج شرعنة متوالية لنهج الانتهاكات وتسويغ التعدِّيات بحُسبان أنّها تستهدف “آخرين” وحسب، وقد يتّضح من بعدُ أنّ نهج التجاوز يسحق في طريقه قيَماً مبدئية ومكتسبات عامّة يتضرّر المجتمع والجمهور عموماً عند المساس بها. فمنْح السُّلطات صلاحيّات مُتزايدة في التحكُّم والمراقبة والملاحقة والحظر؛ لا يضمن اقتصار المُمارسات المُشرعَنة بمقتضى ذلك على أولئك الذين عُدّوا أهدافاً لها في الأساس، كما أنّ فرض حالة طوارئ بذريعة مخاوف أمنيّة مزعومة رُبِطت بأولئك الآخرين قد يفتح الباب لتجاوزات، قد لا تكون ملحوظة، بحقّ عموم المجتمع ما كان بالوسع التهاوُن معها من قبل.
على المجتمع الذي يستمرئ اضطهاد من يعدّهم “آخرين” أن لا يأمن على ذاته من أن يرتدّ هذا المسلك الجائر عليه من وجوه مُتعدِّدة من حيث لم يحتسب. من شواهد الحاضر أنّ الحالة الاستيطانية الفاشية حظيت برعاية متواصلة من حكومات الاحتلال الإسرائيلي المُتعاقبة. لم تنجح بعض الاعتراضات الهامشية من داخل مجتمع الاحتلال على هذا اللوْن الفاقع من السيْطرة العدوانية التوسّعية، المُتذرِّعة بخطابات منفلتة حتى من ضوابط دعاية الاحتلال الرسمية، في كبح هذا النهْج الذي ظلّ يحظى بالدعم والإسناد ويُرفَع فوق مستوى المُساءلة والمُحاسبة. تَلازَم ذلك مع تعاظم توجّهات عنصرية وفاشية صريحة في مجتمع الاحتلال السياسي، كما تجلّى في الخرائط الحزبية والمؤشِّرات الانتخابية المتعاقبة. ثمّ أسفرت الانتخابات العامّة الإسرائيلية في خريف 2022 عن مشهد سافر تشكّلت بمقتضاه حكومة استيطان فاشية بقيادة بنيامين نتنياهو أظهرت زهدها بالأقنعة الدعائية المعهودة من سابقاتها. وضعت هذه الحكومة ضمن أولويّاتها إعادة صياغة الدولة بصفة تحكُّمية توافِق مصالح استقطابات مجتمعية داخلية على حساب استقطابات مُقابِلة، فتحرّكت حينها جماهير الاحتلال المذعورة من هذا التحوُّل بعد أن ظلّت ضالعة في تمكين نهج التطرُّف والغطرسة والفاشية؛ عندما خالت أنّه سيستفرد بالشعب الفلسطيني وحده. لم يُلتفَت إلى صيحات تحذير معزولة أطلقها بعضهم من داخل مجتمع الاحتلال ذاته من قبل، كما فعل الكاتب الإسرائيلي الجريء غدعون ليفي، وهو صوت نقدي نادر في صحافة الاحتلال، في مقالة نشرتها “هآرتس” يوم 18 تموز/ يوليو 2010 مثلاً. استشرف ليفي هذا المشهد تحت عنوان “الوحش في طريقه إلينا”، بأن استعرض في المقالة ممارسات التيّار الإسرائيلي اليميني المتشدِّد وانتهاكاته لأسس الديمقراطية وحرية التعبير بحقّ النواب من فلسطينيي 48 وضدّ منظمات حقوق إنسان، محذّراً كلّ من يرى تلك الانتهاكات للحرية والديمقراطية ويصمت لمجرّد أنها تستهدف الشعب الفلسطيني في الداخل المحتل سنة 1948، بأنّه عاجلاً أو آجلاً سوف يدفع الثمن. توقّع ليفي أن تُوجّه هذه الانتهاكات والاعتداءات، بعد أن تفرغ من فلسطينيي الداخل المحتلّ سنة 1948 ومنظّمات حقوق الإنسان الناقدة؛ إلى هؤلاء الصامتين. أكد ليفي وقتها أنّ “وحش الديكتاتورية لن يترك أحداً، وأنّه أطلّ برأسه وبدأ بالاقتراب، وعندما يصل سيكون الوقت مُتأخِّراً جدّاً على فعل أي شيء”. كانت تلك رؤية استباقية، وإن جاءت متأخِّرة جداً في الواقع بعد عقود مديدة من الاحتلال والاستيطان والاضطهاد. ما تجلّى لاحقاً في الواقع السياسي الإسرائيلي يصدِّق هذا التوقّع الذي أخذ بالتشكُّل بوضوح منذ أن تألّفت حكومة الاستيطان الفاشية بقيادة نتنياهو مجدّداً في خريف سنة 2022، فقد وضعت ضمن أولويّاتها إنجاز ما اشتكت المعارضة الإسرائيلية من أنّه “انقلاب قضائي”، حتى أنّ المظاهرات العارمة التي تواصلت وقتها ضد هذه الخطوة ذات الأثر البنيوي الجسيم في واقع كيان الاحتلال رفعت لافتات عملاقة كُتب عليها Crime Minister بدل Prime Minister مع إرفاقها بصورة تزدري نتنياهو.
إنّها عظة المقصلة التي قد تُجرّب بمن نصب عودَها وحدّ شفرتها، كما فُعَِل مع لويس السادس عشر (1754-1793)، آخر ملوك فرنسا، عندما اقتاده الثوّار الفرنسيون إليْها لإعدامه بواسطتها؛ بعد أن استُخدِمت في عهده. وهي عظة حملات التحريض المُتعصِّبة التي أطلقها البابا الآثم أوربان الثاني في مجمع كليرمون الكنسيّ في فرنسا في تشرين الثاني/ نوفمبر 1095 مُتذرِّعاً بالصليب ومُحتجّاً بالمقولة التحريضية المُلفّقة: “الربّ يريد ذلك” أو Deus lo vult باللاتينية. باسم هذه المقولة المُتطرِّفة في مغزاها اقتُرِفت مذبحة جماعية مروِّعة في القدس بعد اقتحامها في تموز/ يوليو 1099، لكنّ تلك الحملات فتكت في طريقها الطويلة إلى القدس بشعوبٍ وطوائف مُتعدِّدة أيضاً يُقدِّس بعضها الصليب ذاته. لا عجب أنّ هذه السطْوة الغاشمة، التي تصوّر بعضهم ابتداءً أنّها تستهدف أمّة أخرى وحسب، انقلبت من بعد إلى عبء جسيم على أممها ومجتمعاتها، حتى أنّ فلول أولئك “الصليبيين” لم تجد ترحيباً في بلادها الأصلية عندما انهارت إماراتها في ساحل الشام وأخذت تبحث عن مأوى تفيء إليه على ضفاف المتوسط.
جسّد عهد دونالد ترمب في ولايته الرئاسية الأولى (2017-2020) هذا المنحى على نحو مُختزل في نطاقه الزمني، فقد صعد انتخابياً باستخدام خطابات تصعيدية تشبّعت بنبرة عنصرية مُوجّهة ضدّ مُكوِّنات تُعَدّ تقليدياً من الأقليّات، ثم انتهت ولايته باجتياح غُلاة من أنصاره قلعة الديمقراطية الأمريكية، الكونغرس، في مشهد مأساوي على مرأى من العالم تجاوز قدرة خيالات خصبة على توقّعه. قد يكون من المفيد التذكير بعبارة أطلقتها المتحدِّثة باسم البيت الأبيض سارة ساندرز في مقابلة تلفزيونية لشبكة “سي بي إن” CBN سنة 2019، عندما باحت بما يشبه تصريح البابا أوربان الثاني، بقولها: إنّ “الربّ أراد اختيار دونالد ترمب لهذا المنصب”، وهو تعبير أوْحي بأنّ ترمب يحظى بتأييد ربّاني مخصوص يرفعه فوق منسوب البشر، ومن شأن هذا المنطق أن يمنح مشروعية لأيِّ سُلوكٍ مارِق قد يُقدِم عليه هذا الرئيس أو مَن يرفعون رايَته.