بقلم : مالك بن نبي ترجمة : عمر مسقاوي
ليدز
لست أدري في أي ضاحية من ضواحي تلك المدينة الصناعية التجارية، يقع الشارع الذي فيه يسكن ذلك الطالب السوري الموطن، وذو الأصل الجزائري، والذي تحدر من نسل الأمير عبد القادر.
الذي أعرفه فقط، أن ذلك المنزل الصغير الذي دعينا إليه، يتكون من طابق أرضي وطابق أول، ويدلف عبر سلم صغير إلى مساحة ضيقة من العشب الأخضر، تفضي إلى الرصيف مباشرة، طبقاً للطراز السائد في البيوت الإنكليزية في تلك الناحية.
لقد لحقت الطالب شقيقته التي تتابع هي الأخرى دروسها في جامعة (ليدز)، ثم كان أن تبعتهما العائلة بأسرها: الأب لفحوص طبية خاصة، والأم لتكون في رعايته.
جو غائم لبني اللون يغلف الأشياء حولنا، وإذ غرس في العشب الأخضر شجيرات ميلاد، جلبت للمناسبة، فقد كانت تتراءى لنا كنبات، اخضر به قعر البحر.
في الداخل كنا في جو عيد الفطر. والمنزل الصغير، بفضل محتد ساكنيه، ورقة تعاملهم مع الناس جميعاً، أضحى الموئل للعديد من المسلمين: باكستانيين وسوريين وعراقيين. ولذا فقد كانوا كثراً ذلك اليوم، ليقدموا تهانيهم لتلك العائلة الجزائرية، التي أقامت في دمشق منذ مائة عام، حينما سمح نابليون الثالث للجد العظيم أن يلجأ إلى الشرق.
كان الحديث عن الجزائر. وقد أثار اهتماماً شديداً، حتى في عيني تلك الطفلة الجميلة التي جلست بالقرب مني، ولكنها تهرب بضفائرها الصغيرة الشقراء إلى ذراعي أمها كلما مازحتها قائلاً:
سوف آخذك معي إلى الجزائر.
أما أبوها الذي يتابع الطب في المدينة، فقد انهمك يلتقط العديد من الصور الفوتوغرافية لجمع شديد الاختلاف في أصوله، لكنه شديد التجانس في أفكاره وشعوره واهتماماته.
كنا إذن وعلى مستوى صغير مجتمعاً واحداً، يقلب مشاكله، يقيس فيها هموم الخيبة أو حظوظ النجاح.
مجتمعاً جزائرياً شئت، أو عربياً، أو إسلامياً، أو إنسانياً. فالاهتمامات أخذت بالنسبة إلينا مداها في سائر أبعادها.
جو العيد يدفع بالذكريات، فتجيش بها الخواطر، ويشرد الذهن في أحداثها، وما تناءت به السنون.
ورب العائلة..سليل الأمير الذي يرقد رفاته في مقبرة العالية في الجزائر، قد أخذ من ذلك بقسطه، فحدثنا بما اتفق له من الذكريات.
وقاده الحديث إلى ذلك العصر، الذي كان فيه عبد العزيز بن سعود قد بدأ إصلاحاته الأولى في مملكته.
وهكذا بدا له أن يؤدي فريضة الحج في تلك الحقبة، وهي الحقبة نفسها التي أدت فيها والدتي فريضتها.
لم يكن الأمر في ذلك الزمن قد بلغ الحد الذي بلغه اليوم، حيث يمكن أن يسحق امرؤ بكل معنى الكلمة، بزخم العديد الذي لا يحصى من الحجيج الذين يطوفون حول الكعبة، أو تنقطع أنفاسه بضغط تلك الآلة الضخمة من الكتل البشرية التي تتحرك في طوافها.
الأمر في ذلك الزمن كان مختلفاً. والحاج في وسعه أن يتم أشواط الطواف براحة، ويتفحص خلالها الوجود إذا أراد. كما يمكن له أن يتخذ منها معارف.
مضيفنا قد تعرف بالفعل على ثلاثة أو أربعة من الصبيان، تنبئ شعورهم المجعدة والوان بشرتهم، أنهم من إفريقية السوداء.
الأطفال أمسكوا بأيدي بعضهم بعضاً، وهم يطوفون أشواطهم حول الكعبة.
وإذ رآهم المهندس الحاج، فقد مالت نفسه إليهم عطف ابوة، فكان كلما التقى بهم في الطواف، يوزع عليهم بعض الحلوى.
أما أبوهم الذي ربما أبصر صنيع المهندس الحاج بالأطفال، أو هم حدثوه بأمره، إذ هم إخوة، فقد أراد بدون شك، أن يعبر بطريقته عن شكر الرجل، الذي أضفى على أطفاله السرور.
وقال له:
– أريد أن أصبح أخاك.
– وأجابه:
– نحن أخوة بالفعل لأننا مسلمون.
لم يشأ الحاج الإفريقي الاستماع، بل أردف مؤكداً فكرته:
– أريد أن نصبح أنت وأنا أخوين بصورة أخص.
قال له:
– حسناً. قل لي ما ينبغي أن نفعل لنصبح كذلك، وسأفعل ما تمليه علي.
هنا.. أخرج الحاج الأفريقي من ثوب الإحرام صرة حوت رزمة من الريالات السعودية، وقال له:
– هذه دراهمي..ضع دراهمك التي معك فوقها ونتقاسمها مناصفة…المهندس محدثنا بقي لفترة مشدوهاً…
وقد أوضح لنا:
– ليس لأني شككت ولو للحظة في مصداقيته وعفويته..
ثم أطرق مضيفنا بعيون حالمة، كمن يستجمع شتات ذكرياته..وتابع:
– ولكني خفت أن يشك هو نفسه بمصداقيتي. فأنا في ذلك اليوم بالذات، وكما هو شأني في كل مرة أطوف فيها، لم أحمل معي غير دراهم من الحجم الصغير من اجل الفقراء، ومن الممكن أن يظن بأني أخفي دراهمي حتى لا أتقاسمها معه.
لست أخفي على القارئ…فقد بدأت القصة تأخذ من نفسي إثارتها. وهكذا تعلقت عيناي بشفتي الراوي الذي تابع يقول:
– لكن الحاج الإفريقي أصر علي بشدة، فيما كان أولاده يرمقونني بنظرات الحنان، ولم أجد بداً من أن أخرج من حافظتي تلك الدراهم القليلة قائلاً له:
– هذا كل ما معي…
وبدت رؤيا حالمة مرت أمام عيني محدثنا ثم استرسل:
– الحاج الإفريقي أخذ دراهمي، وخلطها بدراهمه، وقسمها جميعها بكل دقة قسمين، ثم أعطاني نصيبي. وشدني إلى صدر قوي البنية وقال لي ببساطة:
– الآن أنت أخي.
سليل الأمير لم ينم ليلته تلك. إذ عقب عناقهما الأخوي هذا قص عليه الحاج الإفريقي قصته. بل ملحمته الإفريقية.
لقد ترك موطنه في إفريقية الجنوبية، قبل أربع سنوات مع أطفاله وزوجته، التي أنجبت له عبر الطريق طفلاً ما زالت ترضعه.
لقد قطع الطريق ماشياً حتى (بور سودان)، حيث وجد هنالك من يسعفه بمكان على ظهر مركب صغير، يحمل الحجاج إلى جدة.
وفي رطوبة الجو المكي، قضى محدثنا ليلة بيضاء، لا يغمض له جفن، يتقلب مع تلك القصة التي تعتمل في رأسه.
لقد قرر في صباح اليوم التالي زيادة نصيبه في (الأخوة) التي اكتسبها بالأمس، والتي كان الحاج الإفريقي قد دفع في النتيجة ثمنها بأكمله.
هكذا وضع بعض الأوراق المالية في مغلف. ثم خرج يلتقي (أخاه) فوجده يطوف حول الكعبة. مد إليه المغلف فالتقطه بحركة آلية. ثم أكمل الشوط.
ولكن…ها هو الحاج الإفريقي يفاجئ المهندس، وهو يمسك بالمغلف مفتوحاً بأطراف أصابعه كمن يلتقط شيئاً نجساً.
لقد تقدم إليه بقسماته السوداء، وشفتيه المزرقتين، وعينيه الحادتين، وقال بصوت أجش:
– أنا لا آخذ ثمناً على أخوّتي لأنني لا أبيعها.
وحين كان محدثنا ينطق بهذه الكلمات، كانت رنة صوته قد بدأت تتغير من فرط التأثر، وبدا كأني أرى المشهد بنفسي يمر أمام عيني.
لست أدري إن كان قد رأى مني ما كنت قد رأيته منه.
ففي تلك اللحظة، كان كل منا يقوم بالحركة نفسها. إذ كل منا قد مسح دمعة تسللت من طرف عينه.
وربما كان لدي سبب إضافي جعلني متأثراً بتلك القصة.
ففي واحد من كتبي صدر في باريس عام 1954، تحدثت عن الفرق الأساسي بين مفهومين يخلط بينهما الفكر الإسلامي المعاصر. إنه يخلط بين مفهوم (الأخوّة) ومفهوم (المؤاخاة).
ففي المفهوم الأول فإن شعوراً أو مجرد كلمة من شخص وأية واقعة تربط بين رجلين، إنما هي رابطة أقوى من الرابطة التي تمليها رابطة النسب.
إنها كتلك الواقعة التي ربطت قديماً بين الأنصار والمهاجرين، فأسست مجتمعاً جديداً، وحضارة جديدة.
والحاج الإفريقي قد حمل بين جوانحه، في أربع سنوات من المسير في الغابات والأدغال الإفريقية ورمال الصحراء العربية، رسالة الإسلام، تلك التي عبرت القرون.
لقد طلبت من سليل الأمير الذي حدثني بتلك القصة السماح لي بروايتها بدوري للقراء الجزائريين.
مجلة الثورة الإفريقية العدد 262- الأسبوع 22-28 من شباط (فبراير) 1968.