بتاريخ: 26.04.2022
الكاتب: حسام شاكر
يقتحم أحدهم مسجداً أو دار عبادة، لإفراغ أمشاط الرصاص من بندقيّته الآليّة في حشود المصلِّين، أو يندسّ بينهم سريعاً لتفجير بدنه بهم في مواسم الذروة التي تتزاحم فيها الأقدام. هذا ما حملته إلينا مقاطع مرئية وثّقها ضحايا بهواتفهم التي انتُشلت لاحقاً، أو لعلّ الفاعل هو الذي اصطحبنا في جولة القتل الجماعي عبر كاميرات بثّ شبكي مباشر يحملها مع أسلحة القتل وذخائر الفتك. طاردتنا هذه المشاهد المرئية وشبيهاتها عبر أجهزتنا المحمولة سنين عدداً، فانتابنا إحساس بتلاشي الكرامة الإنسانية لأكوام من البشر تساقطوا في كلّ جولة قتل منها دون أن يحظوا بفرصة تعبير عن آلامهم بصرخة أخيرة.
إنّ المذابح التي يقترفها أفراد لم يُعرَفوا من قبل هي وجه آخر لتقاليد الفتك الجماعي بالبشر التي يسهر على تنفيذها حاملو رُتَب عسكرية أو قادة مجموعات مسلّحة في أقاليم شتّى. تُظهر مقاطع مُصوّرة كيف يتفنّن الذين يتلقّون أوامر التعذيب والقتل في إيذاء الضحية قبل الإجهاز عليها، وكأنّ بعضهم يُعيدون تمثيل مشاهد سينمائية مرعبة استُعمِلت فيها مؤثرّات بصرية. صار لدينا فائض من مقاطع واقعية تحفل بحزّ الرؤوس بدم بارد، وسحق الضحايا بالعجلات تباعاً لأجل تسويتهم بالأرض، أو رميهم بالرصاص بعد حفلة رعب تخطف الأنفاس، أو إشعال النار في أبدانهم بأساليب محبوكة، أو دفنهم أحياء في صحراء خالية لا صريخ لهم فيها.
أتاح الزمن الشبكي المُصوّر الذي ننغمس فيه فرصة تضخيم الوعي بفنون التوحّش المرئي التي لا تحتكرها بيئة دون غيرها من بيئات البشر، حتى أنّ هذا التقليد الصادم شوهد من أطراف الأرض الهادئة؛ حيث اقترف النرويجي أندرس بريفيغ سنة 2011 مذبحته المصوّرة في أقصى الشمال، التي أجهز فيها على خمس وثمانين ضحية، وظهر التقليد عيْنه في أقصى جنوب الكوكب عندما قتل برينتون تارانت سنة 2019 واحداً وخمسين مسلماً في مسجديْن في نيوزيلندا.
وإذ ينشغل القوم بمن جهّز الرصاص والمُتفجّرات قبل نزوله إلى ميدان التنفيذ، فإنهم يتغاضون عادةً، عن الذين صنعوا مقدِّمات الحدث الكامنة في الوجدان قبل انبعاثه مُرعباً في الوجود؛ عندما باشروا حشْو الرؤوس بمفاهيم نزعت الصفة الإنسانية عن الضحايا وحرّضت على اصطيادهم بدم بارد أو ترويعهم وتهجيرهم، أو تفجير أبدانهم في لحظات الذروة؛ وإن لم يقصد المحرِّضون هذا تماماً أوّل الأمر.
ينبغي الإقرار بأنّ مقترفي الفظائع لا يهبطون من كوكب آخر، فمن عادتهم أن يظهروا في الحلقة الأخيرة من مسلسل الكراهية والبغضاء والتشويه والتحريض الممتدّ والمتشابك، حاملين معهم عتاداً مفهومياً كافياً – في ظنِّهم – لتسويغ ما يُقدِمون عليه في الميدان وتبرير ما يفترفونه عملياً في الواقع. يبدأ الأمر بفكرة ساذجة أو سقيمة تستدرج جمهورها إلى قناعات تنزع الصفة الإنسانية، أو تحجب صفة الانتماء إلى حيِّز مشترك، عن فئات من البشر، فتتعدّد الاستجابات العملية لدوافع التحريض التي تستهدف هؤلاء، ويأتي في ذروتها القتل الجماعي الأعمى الذي يُمارَس حسب تقاليد التوحّش التقليدية أو يُقترف بطرق رشيقة تعتمدها منظومات التوحُّش الحديث.
وحدها المجتمعات اليقظة هي التي تجرؤ على مكاشفة ذاتها بما يتعيّن صدّه أو كبحه أو إصلاحه، فلا تستسلم له أو تستأنس به. وإذ يُفترض بمن يتصدّرون منابر التوجيه ومنصّات التأثير في المجتمعات أن ينهضوا بمسؤوليّاتهم المبدئية في مكافحة الأحقاد العمياء والتصدِّي الجَسور لحمّى الكراهية؛ فإنّ بعض الصفوة تتواطأ مع التيّار الجارف بالسكوت، أو تنخرط في تسعير النيران أو محاولة التكسُّب الرخيص من الانخراط في مُزايدات لفظية في خدمة سياسات معيّنة، أو تطلب إعجاب المتابعين المهووسين في المنصّات الشبكية على النحو الذي يتقنه مُحترِفو الشحن والتوتير. لا عجب أن يشقى بعض الحكماء بحكمتهم أو يتوارون خجلاً منها، فلا يجترئون على البوح بما تمليه عليه ضمائرهم في مواجهة هذا الانزلاق الجسيم الذي يحظى بمباركة قيادات مجتمعية وحماية حشود جماهيرية.
من شأن منطوق القول السقيم أن يشي بالوجهة التي تنزلق إليها المجتمعات؛ فاستعلاء خطابات الاحتقار إلى حد تشبيه شركاء حيِّز مشترك، يضيق أو يتّسع، بحيوانات أو حشرات أو جراثيم أو أوبئة، واستبعادهم من مفهوم الكرامة الإنسانية المقرّرة أصلاً يستبطن في مغزاه تسويغاً إيحائياً للإقدام على الفتك بهم واستسهال قتلهم أو حرمانهم من حقوق وحُرِّيّات ينبغي أن يتساوى فيها الناس جميعاً. ثمّ لن تعجز هذه الخطابات، من بعد، عن لوْم ضحاياها وإنزال إدانة عمياء بهم، وتحميلهم المسؤولية عن ألوان العذاب التي صُبّت عليهم، وتخدير الذات الجمعية باستحضار مقدِّمات نفسية تعطِّل اشتغال الضمائر وتعزل فرص الإحساس الإنساني بهؤلاء الضحايا، وإن كانوا يشبهوننا تماماً.
عندما تتهاون المجتمعات مع مقدِّمات الفظائع، على مستوى المفاهيم المؤسِّسة وعلى مستوى الخطابات المحرِّضة، وعندما ترحِّب بعض الأوساط بهذه النُّذُر المشؤومة وتحتضنها وتذكيها وتجعل لها منصّات مكرّسة لإذكائها وتحفيزها؛ فإنّ هذه المجتمعات أو الأوساط تصير أسيرة تعاليها وعنصريّتها، أو حبيسة أوهامها وهواجسها، أو تبقى مسكونة بنزعات التشفِّي الساذج والانتقام الأعمى التي تجمح بها نحو وادٍ سحيق.