نزيف الكراهية من ريشة الكاريكاتير
حسام شاكر
يصوِّر الرسمُ بعض ما في الأذهان وإن ادّعى التعبيرَ البصريَّ عن الواقع، ويشكِّل الرسّامُون في بعض أعمالهم ملامحَ الواقع كما يرغبون في تقديمها وإن فارقت الحقيقة، وقد يبلغ الأمر حدّاً تتواطأ فيه بعض الرسوم مع نزعة “اختراع الآخر” أو تشويهه أو ازدرائه، وقد تتجنّد في هذا المسعى أو تُستعمَل فيه أو تُستدرَج نحوه. لا عجب، بالتالي، من ضلوع الرسوم منذ القدم في تغذية الكراهية، حتى تبوّأت مقعدها من صناعة التشويه والتحريض والعنصرية أو دعاية التعالي والتميُّز والتفوُّق على آخرين.
غنيّ عن البيان أنّ الرسم لا ينفكّ ابتداءً عن التحيّز، في اتجاهات الاستحسان والتفضيل والتمجيد أو ما يعاكسها، على أنّ تحيّز الرسم يبدأ من اختيار موضوعه وانتقاء سياقه واجتزاء مشهده وتحيُّن لحظته وتخيُّر كيفيّته وتشكيل مؤثِّراته. ومن شأن التحيُّز أن يُعبِّر عن الغلوّ في بابه فينضح بتصوير آخرين على نحو يُوْحي بالذمّ والاحتقار.
ظلّت رسوم الكاريكاتير، تحديداً، أداة مُفضّلة لتعميم التشويه وترويج الازدراء وتسخين الكراهية وإذكاء العنصرية؛ بفضل مزايا يتيحها هذا “الفنّ” تحديداً. فطرافته وسذاجته تتيحان له مزايا جماهيرية وتحقِّقان له ذيوعاً رشيقاً يشجِّع الراغبين في استعماله والطامعين في توظيفه. وهو إذ يقوم على التنميط والقولبة وإبراز مفارقات بصرية وتصوير تناقضات معيّنة؛ إنّما يمثِّل قالباً مثالياً لأعمال الذمّ والإساءة والازدراء. هكذا أغرت صنعة الكاريكاتير مَن تُراوِدُهم مآرب التشويه كي يتّخذوها أداة فعّالة لتسديد سهامهم وترويج رسائلهم، وأدركوا من هذا الوجه أنّ هذه الرسوم تتيح لهم افتعال واقع يوافق أهواءهم وتلفيق مشاهد تجسِّد خيالاتهم.
دخلت أوروبا في بواكير القرن الحادي والعشرين طوْراً جديداً من رسوم الكراهية، برز من شواهده إقدام صحيفة “يولاندزبوسطن” الدانمركية، في الثلاثين من سبتمبر/ أيلول 2005، على نشر حشد منها في قالب كاريكاتيري مُثقَل بالتشويه. مثّلت تلك الرسوم حملة ازدراء بحيالها، وأعيد نشر هذه الأعمال الصادمة في بلدان أوروبية عدّة بذرائع “تضامنية” مع الرسام والصحيفة. ألهمت التجربة رسّامي كاريكاتير من بيئات أوروبية وغربية عدّة فعمدوا إلى محاكاتها بمزيد من الأعمال المُغالية؛ كما فعلت صحيفة “شارلي إيبدو” الفرنسية مرّات عدّة وفعل غيرها أيضاً. كرّست هذه الأعمال موضوعاتها لازدراء الدين الإسلامي والتعدِّي على مُقدّسات المسلمين والتطاول على مقام الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم. سدّد الرسّامون الذين انزلقوا في هذا المسلك سهام الإساءة البالغة إلى مشاعر المسلمين، وأقدموا بحيلتهم هذه على ممارسة الاستفزاز المحبوك والإهانة البالغة والإذلال المعنوي بذريعة حصانة الممارسة الفنية وتحت غطاء “حرية التعبير”. والواقع أنّ ما أقدموا عليه مع الإسلام لا يُتهاوَن معه إن ألهبَت سياطه طوائف أخرى أو مسّ “تابوات” معيّنة تُرفَع في بيئاتها إلى درجة القداسة وإن لم تكن من شؤون الدِّين.
من المفيد التنبيه إلى أنّ هذا الطوْر المُستجدّ لم ينقطع في جوهره عن سيرة رسوم الكاريكاتير منذ بواكيرها وعبر مراحلها، فالأعمال الجديدة جاءت بمثابة إعادة إنتاج لبعض ما سبق. من نافلة القول أنّ هذا “الفنّ” استُعمِل في محطّات زمنية عدّة لدعم خطابات الكراهية والتشويه والعنصرية، ووُظِّف على نطاقات واسعة في حملات دعاية تحريضية طاردت أمماً وثقافات ومجتمعات وطوائف. بلغ هذا المنحى مواسم ذروته في الدعاية الحربية، كما جرى على نطاق واسع خلال الحربين العالميتين؛ عبر تنميط أمم الخصوم في قوالب ازدراء ثقافية ذات منحى تعميمي. هذا ما حصل أيضاً كلّما علت أمواج العنصرية والكراهية في بعض البيئات ضدّ مكوِّنات معيّنة من المجتمع الإنساني؛ فلم تتوانَ المنشورات النازية والفاشية والصهيونية والقومية المتطرفة، مثلاً عن استعمال رسوم الكاريكاتير في مقاصدها الخاصّة. كما قدّمت وسائل إعلام المراكز الاستعمارية أعمالاً رسومية وكاريكاتيرية بدت وفيّة لمقولات الدعاية الاستعمارية وذرائع حملات البغي والنهب والسيطرة والتوسّع على حساب أمم ومجتمعات وثقافات.
ثمّ إنّ الطور المستجدّ من مطاردة المسلمين ودينهم ومقدّساتهم برسوم الازدراء يتّصل، من وجه آخر، بتقاليد محمولة من العصر الأوروبي الوسيط وما بعده، شاع معها تقديم الإسلام والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بصفة مُشوّهة في قوالب رسومية وفنِّية وأدبية متعدِّدة. فما نُشر في اسكندنافيا (2005) ابتداءً لا يبتعد في تعبيراته ولا يفترق في منحاه عمّا نُقِش ورُسِم وجُسِّد وكُتِب في أعمال وفيرة عبر قرون أوروبية خلت؛ وإن توفّرت للجديد منها مزايا النشر الجماهيري والحظوة المعولمة والحماية الأدبية بذرائع قيمية مضلِّلة؛ مثل “حصانة الفنّ” و”حرية التعبير”. لا عجب، إذن، أن تُعبِّر بعض رسوم الكاريكاتير المستجدّة عن تفاقم “صناعة الإسلاموفوبيا” التي تذكيها أطراف وتنخرط فيها مؤسسات ويتكسّب منها مَن يلتمسون لقمة عيشهم بواسطتها.
لا يَخفى، أيضاً، أنّ رسوم الكراهية في طورها المستجدّ، تحرّكت منذ انطلاقها في الشمال الأوروبي على سكّة دعاوى نصادم الحضارات وتعارُك الثقافات، وتهيّأت لها فوق هذا مقوِّمات زمن العولمة الاتصالية. هكذا صارت ريشة رسّام منزوٍ في حجرة موصدة عليه في شمال الأرض؛ مؤهّلة بحقّ لإشعال حرائق ثقافية عابرة للقارّات، وقد تسكب ألوانُها الدمَ في الميادين بما تستنفره من استفزازات وصدامات، وقد يصير رواجها الإعلامي والشبكي ذريعة لغواية عنصرية لا تزهد بها حملات انتخابية ومنافسات شعبوية في ديمقراطيات عريقة. ثمّ إنّ العمل وصانعه قد يحظيان فوق هذا بمساندة سياسية وحماية معنوية ومباركة أخلاقية، على نحو صريح أو إيحائي، بحجّة أنّ نزف الكراهية من ريشة الرسم إنّما عبّر عن قيم التنوير ومبادئ الحضارة. من شأن هذه الحبكة الذرائعية تسييج هذه الرسوم بهالات التمجيد والقداسة وأشواك الحصانة والحماية؛ فترفَع فوق مستوى النقد الواجب، وتُخنَق أصوات الحكمة والتعقُّل والرُّشد في بيئاتها، وتُستثار شكوك المجتمعات الموبوءة بهذه الكراهية المتفشِّية نحو مَن يجترئون على تشغيل ضمائرهم والبوْح بالحقّ وذمّ الاستعمال الرخيص والتوظيف الهابط لهذا “الفنّ”، الذي لم يبرأ عبر تاريخه من الضلوع في شحن الجماهير بحمّى الكراهية.