هل نولد عنصريين؟
سؤال بقدر ما يبدو بسيطا فإن الإجابة عليه ربما تكون بغاية التعقيد، فحتى الإنسان الذي تكشف أفعاله وأقواله عن عنصرية فجّة وفاقعة، فإنه في الغالب سينفي التهمة عن نفسه إذا ما وصفه أحد ما بأنه كذلك، ولن يكون مستغربا أن يقدم سلوكه المستهجن على أنه استجابة وطنية ودفاع عن هويته وثقافته المهددة من الآخر فما بالك بمن يرى نفسه محصنا من تلك الآفة.
ينقل عن جيسي جاكسون وهو أحد أشهر دعاة الحقوق المدنية للأمريكيين من أصل أفريقي أنه قال ذات مرة أنه “لا يوجد شيء أكثر إيلامًا بالنسبة لي في هذه المرحلة من حياتي من السير في الشارع وسماع خطى.. ثم أستدير وأرى شخصًا أبيض وأشعر بالارتياح”..
فحتى من نذر نفسه وحياته لمحاربة العنصرية قد يقع دون إرادة منه في فخ الصورة النمطية التي يسعى العنصريون لتكريسها.
قد تكون العنصرية في أبسط تعريفاتها بأنها “إضفاء معانٍ اجتماعية ورمزية على فروق ظاهرة أو متخيلة” فما نختلف به عن الآخرين يصبح ميزة لنا ويضعنا في مصاف أعلى وأرقى منهم، أما ما يختلفون به عنّا فهو عيب ونقص وخلل فيهم.
ويزداد الأمر بشاعة حين تكون تلك الفروق التي يُنظر لها بمنطق عنصري “قدر من الله” فالإنسان لا يختار لون بشرته أو عرقه أو مسقط رأسه.
فكيف يمكن لإنسان سويّ أن يأخذ موقفا دونياً من إنسان آخر بسبب فرق لم يكن له إرادة فيه؟
ولماذا بعد كل التطور الذي شهدته البشرية في مجال محاربة العنصرية وخطاب الكراهية وبعد كل القوانين والتشريعات التي وضعت وبعد كل الإصلاحات في النظم القضائية، لماذا لا تزال العنصرية متفشية بيننا؟
هل العنصرية سلوك فطري أم مكتسب؟
برأيي، فإن نزعة العنصرية أمرٌ قد يكون كامنا بشكل أو بآخر داخل النفس البشرية التي تنزع ـ لولا ضبطها وتهذيبها وتقييدها بالتعاليم الدينية والأخلاق وحتى بالعقوبات في الدنيا والآخرة ـ فإنها تنزع نحو الانزلاق لغرائزها وشهواتها وسلوكياتها المنفلتة ـ وأننا نحتاج دوما أن نقاوم وأن نكبح أنفسنا للحيلولة دون وقوعنا في مستنقع العنصرية، حتى لو صوّرت لنا نفسنا البشرية أن ما نقوم به صحيح ونابع من منطق نبيل
أذكر ذات يوم أني قد صليت في أحد مساجد الأردن خلف إمام أعجمي ورغم أن قراءته جميلة لكن بعض الحروف كانت تخرج منه بطريقة غير سليمة فدخل في نفسي أنه كان من الأولى به ألّا يتقدم للإمامة، لكني لاحقا استدركت ـ خصوصا عندما انتبهت أن غالبية المصلين من الأعاجم ـ أني ربما انزلقت لمنطق عنصري وأن النفس ربما صورت لي أنني أفضل منه لأني ولدت مسلما عربيا وهي نعمة رزقني الله إياها دون حول مني ولا قوة، وأنه كان الأولى بي تقديره فتعلم قراءة القرآن وتعلم أحكام التجويد كان بالتأكيد أكثر مشقة عليه، فالأمر ليس سهلا وقد يكون هناك خيط رفيع بين الاعتزاز والفخر بأنفسنا وهويتنا وعائلتنا وتراثنا وبين شعورنا بأننا أفضل من غيرنا وأننا نتميز بشكل أو بآخر عليهم.
ربما من المفيد أن نذكر أنفسنا دوما أن كلّ ما نملكه وكلّ ما ولدنا به من شكل وأصل ولون هو نعمة وقدر من الله عز وجل وأن هذه النعم تستدعي الشكر لا التعالي والجحود ولا ننسى أن كل ذلك قد ينقلب في لحظة وأن الأيام تدور وأن بقاء الحال من المحال.
على أن نوازع العنصرية في النفس تظهر وتتوارى وفق عوامل محفزة في البيئة المحيطة بنا، فالشعوب التي تعيش في رفاهية قد تتراجع فيها حالات العنصرية تجاه الآخر كالمهاجرين واللاجئين والمقيمين على أرضها من جنسيات أخرى لكن بمجرد التعرض لأزمة اقتصادية أو جائحة أو تدهور في قيمة العملة فإن شيطان العنصرية سرعان ما يستيقظ وتضيق هوامش التسامح وتتغير النظرة “للآخر” ويصبح عبئا وشريكا غير مرغوب فيه في اقتسام الرزق والخدمات الطبية والتعليمية وضغطا على البنية التحتية ـ رغم أنها هي ذاتها في الحالتين.
قرأت ذات يوم عن شخصية عامة في إحدى الدول طالب بأن يتم اقتصار العلاج في المؤسسات الطبية الحكومية على المواطنين وحرمان المقيمين والأجانب منه بسبب الازدحام الذي أصبحت تعيشه تلك المؤسسات ـ وكان ذلك خلال وباء كورونا ـ رغم أن الطبيب الذي يعمل في تلك العيادة الذي استاء من الازدحام في أروقتها قد يكون في الغالب مقيم أو أجنبي.
النفس البشرية مجبولة على تقسيم العالم من حولها وفق دوائر “نحن” و”هم” وهذه الدوائر تضيق وتتسع وتتغير وفق عوامل متشابكة، فالتركي الذي يعيش في إسطنبول على سبيل المثال فإن تلك الدوائر أي “نحن” و”هم” ستختلف حتما إذ انتقل للعيش أو العمل في هولندا أو ألمانيا.
ليس هناك مشكلة في التقسيم من حيث المبدأ.. المشكلة أن تخالط النظرة إلى الـ”هم” نوازع العنصرية مهما كان شكلها وشكل التعبير عنها حتى لو كان مجرد نظرة عابرة.
أعتقد أن العنصرية من الأمراض التي ستبقى إلى قيام الساعة لكن معالجتها والتخفيف من حدتها ومن انعكاساتها الخطيرة على التعايش بين البشر لن يكون بيد الأفراد وحدهم مهما كان نبلهم، لا بد من تدخل السلطة بكل ادواتها ـ الناعمة والخشنة ـ لمواجهتها والعمل ألا تتحول إلى ورقة بيد الشعبويّين والمأزومين يؤججونها متى شاءوا ويحولون حياة “الأخر” إلى كابوس لمجرد أن أقدار الدنيا ونكباتها أجبرتهم على العيش في ذلك الحيز الجغرافي.
لربما من المفيد أن نذكر أنفسنا دوما بأن كلّ ما نملكه وكلّ ما ولدنا به من شكل وأصل ولون هو نعمة وقدر من الله عز وجل وأن هذه النعم تستدعي الشكر لا التعالي والجحود ولا ننسى أن كل ذلك قد ينقلب في لحظة وأن الأيام تدور وأن بقاء الحال من المحال.