أزمة الاقتصاد اللبناني وأضاليل الحملات العنصرية
على مدى الأسابيع الماضية، واجه اللاجئون السوريون في لبنان حملات سياسيّة وإعلاميّة قاسية، حمّلتهم مسؤوليّة مجموعة من الأزمات الاقتصاديّة والاجتماعيّة التي تمرّ بها البلاد. وفي الوقت الذي استندت فيه هذه الحملات إلى مزاعم وادعاءات غير واقعيّة على الإطلاق، ساهمت هذه المعلومات المغلوطة إلى حد بعيد في إثارة جزء من الرأي العام المحلّي ضد وجود اللاجئين في لبنان. وهذا تحديدًا ما يفرض علينا تفنيد هذه الأفكار، التي يجرى تسويقها لتعزيز خطاب الكراهية والعنصرية الموجّه ضد اللاجئين.
فعلى سبيل المثال، سوّق البعض معلومات تشير إلى أنّ اللاجئين السوريين يكبّدون النظام المالي اللبناني خسارة تقدّر بـ5 مليارات دولار كل سنة، وأنّ هذه الخسارة هي ما يحول دون تسديد دفعات سنويّة بالدولار النقدي للمودعين في النظام المصرفي.
ومن المعلوم أنّ هذا الادعاء كفيل بتأجيج مشاعر الغضب لدى شريحة واسعة من المودعين، العاجزين عن سحب أموالهم بالعملة الصعبة أو تحويلها إلى الخارج. والقول إن اللاجئين مسؤولين عن هذا القدر من الخسائر كل سنة، سيحمّلهم مسؤولية كتلة ضخمة من الخسائر المصرفيّة، التي يحار اللبنانيون في كيفيّة توزيعها والتعامل معها اليوم، والتي تمثّل أساس الانهيار المستمر منذ أكثر من ثلاث سنوات.
لا يحتاج الأمر إلى كثير من التدقيق في الأرقام المصرفيّة ليدرك أنّ هذا الادعاء معاكس تمامًا للحقيقة. فخلال العام الماضي، لم تتجاوز قيمة الاستنزاف الذي أصاب احتياطيات المصرف المركزي، أي آخر ما تبقى من أموال المودعين، حدود الـ2.64 مليار دولار.
بصورة أوضح، من المستحيل أن يكون اللجوء السوري وحده مسؤولًا عن خسائر سنويّة بقيمة خمسة مليارات دولار، إذا كان النظام المالي لم يتكبّد العام الماضي خسارة تتجاوز الـ52% من هذا الرقم الضخم!
أمّا الأهم، فهو أنّ استنزاف الاحتياطيات جرى العام الماضي لتمويل عمليّات منصّة صيرفة، المخصّصة للتداول بالعملات الأجنبيّة. وهذه العمليّات جرت الاستفادة منها لتحويل رواتب موظفي القطاع العام إلى الدولار النقدي، وبحسب أسعار صرف مدعومة مقارنة بسعر السوق الموازية. كما جرى استخدام المنصّة لبيع الدولارات لمصلحة بعض الفئات المحظيّة من خلال الفروع المصرفيّة، وبالسعر المدعوم، بهدف امتصاص جزء من الكتلة النقديّة المتداولة بالعملة المحليّة.
بمعنى آخر، وخلال العام الماضي، لم يتصل استنزاف الاحتياطيات بتمويل استيراد السلع الأساسيّة، كما لم يتصل بالإنفاق على البنية التحتيّة وسائر الخدمات العامّة، حتّى يُقال إن اللاجئين استفادوا من هذا الاستنزاف بشكل مباشر أو غير مباشر.
ولذلك، لا توجد أي علاقة ما بين الكتلة الديمغرافيّة المتصلة باللجوء السوري، واستنزاف الاحتياطات الذي يبدّد أموال المودعين. مع الإشارة إلى أنّ البلاد أوقفت، منذ العام 2021، آليّات دعم استيراد المحروقات والدواء والمستلزمات الطبيّة.
أمّا الذي لا يُشار إليه غالبًا، فهو أنّ لبنان استقبل منذ العام 2015 مساعدات دوليّة تقارب قيمتها 9.3 مليارات دولار، للتخفيف من تأثير الأزمة السوريّة على البلاد.
وجميع هذه الأموال، حصلت عليها المصارف والمصرف المركزي بالعملة الصعبة من الخارج، بينما جرى توزيع المساعدات لمستحقيها محليًا بالليرة اللبنانيّة. وبذلك، ساهمت هذه الأموال، التي تقارب قيمتها نصف الناتج المحلّي الإجمالي، في تقليص فجوة الخسائر المصرفيّة. وهذا يعني أن القطاع المالي استفاد من وجود اللاجئين، لا العكس!
كما تتجاهل جميع الحملات العنصريّة أن جزءاً أساسياً من المساعدات، التي تلقاها لبنان من المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، ساهمت في تمويل استمراريّة عمل الإدارات الرسميّة اللبنانيّة، بعدما أدّى انهيار سعر صرف الليرة اللبنانيّة إلى تراجع حجم الموازنة العامّة إلى أقل من 5% من قيمتها كما كانت قبل الانهيار.
وعلى هذا النحو مثلًا، استفادت وزارة الداخليّة والبلديات من 31.37 مليون دولار من مساعدات المفوضيّة التي أعادت تأهيل مراكز الأمن العام ومراكز البلديّات. كما استفادت وزارة الصحّة العامّة من 57.3 مليون دولار، من المساعدات التي أعادت تأهيل المستشفيات الحكوميّة والمراكز الصحيّة. أما وزارة الشؤون الاجتماعيّة، فاستفادت من 27.16 مليون دولار، من المساعدات التي ذهبت لدعم مراكز التنمية الاجتماعيّة، التي يستفيد من خدماتها اللبنانيون والسوريون على حد سواء.
باختصار، لم يضغط اللاجئون السوريّون على تقديمات الإدارات العامّة، التي فقدت بفعل الانهيار القدرة الماليّة على خدمة جميع المقيمين من لبنانيين وسوريين. بل على العكس تمامًا، استفادت الغالبيّة الساحقة من الإدارات العامّة من التمويل الأجنبي، الذي جاء تحت عنوان المساعدة على تخفيف آثار الأزمة السوريّة، والذي أفاد المجتمع اللبناني المضيف ومجتمعات اللاجئين السوريين معًا.
في الوقت نفسه، ركّزت الحملات العنصريّة مؤخّراً على مسألة هجرة اللبنانيين، التي رُبطت بحصول اللاجئين السوريين على الوظائف في لبنان برواتب منخفضة. وهذه الادعاءات تجاهلت مسؤوليّة السياسات التي قام عليها النموذج الاقتصادي السائد في لبنان منذ التسعينيات، والتي لطالما اعتمدت على تهجير اليد العاملة اللبنانيّة، واستغلال اليد الأجنبيّة بالأجور المنخفضة، من دون أن يكون للجوء السوري أي دور في ذلك.
فتاريخياً، قام النمو الاقتصادي في لبنان على تعزيز القطاعات الريعيّة، التي لم تخلق الوظائف الملائمة لخرّيجي الجامعات اللبنانيين. وفي المقابل، اعتمد النموذج على توسيع نطاق الاقتصاد غير المنظّم، المتفلّت من أي رقابة ضريبيّة أو قانونيّة، وهو ما عزّز دور العمالة الأجنبيّة غير الرسميّة، وخصوصًا العمالة السوريّة منخفضة الأجر. وهذا ما أسهم، مجددًا، في زيادة وتيرة هجرة اللبنانيين.
وفي النتيجة، جرى استغلال العمّال الأجانب بوظائف غير لائقة، وبغياب أدنى حد من الضمانات أو الحقوق البديهيّة، بينما تم تهجير أجيال من اللبنانيين الذين لم يجدوا في هذا النظام الاقتصادي فرص العمل المناسبة لمؤهّلاتهم العمليّة.
وتشير الإحصاءات إلى أنّ لبنان استفاد من خدمات أكثر من مليون عامل سوري في مرحلة التسعينيات، أي قبل أكثر من عقد من بروز أزمة اللاجئين السوريين. وهذا العدد يوازي نحو ثلثي عدد السوريين الموجود حالياً في لبنان، ما يؤشّر إلى عدم اتصال أزمة سوق العمل بأزمة اللاجئين.
ولهذا السبب، إذا أراد اللبنانيون البحث عن أسباب أزمة فوضى سوق العمل، فالأجدى بهم أن يحاسبوا نظامهم السياسي، الذي تقاعس عن تنظيم سوق العمل وفرض الرقابة على القطاعات الاقتصاديّة، وهو ما كان من شأنه حماية حقوق وضمانات العمّال اللبنانيين أولًا، وتنظيم استقطاب العمالة الأجنبيّة وحماية حقوقها ثانيًا. كما أنه من الأجدى بهم السؤال عن السياسات الاقتصاديّة، التي كرّست دور القطاعات الريعيّة على حساب القطاعات الإنتاجيّة القادرة على خلق الوظائف اللائقة. أمّا توجيه الخطاب العنصري ضد العمّال واللاجئين الأجانب، فسيحمّل مسؤوليّة هذه السياسات إلى أحد ضحاياها، أي العمّال الأجانب الذين جرى استغلالهم.
في النتيجة، المستفيد من كل هذا الخطاب العنصري هو المنظومة السياسيّة اللبنانيّة، التي تبحث عن كبش فداء تحمّله مسؤوليّات الأزمات الاقتصاديّة والاجتماعيّة التي تمر بها البلاد. ومن الواضح أن هذه المنظومة تحاول اليوم ابتزاز المجتمع الدولي، عبر الضغط في ملف اللاجئين الإنساني، للحصول على المزيد من المساعدات، أو تخفيف الشروط الإصلاحيّة التي تطلبها المؤسسات الدوليّة قبل مساعدة لبنان. مع الإشارة إلى أنّ هذه المنظومة السياسيّة تتقاعس منذ أكثر من ثلاث سنوات عن القيام بأبسط الخطوات الإصلاحيّة المطلوبة، لدخول مسار التعافي المالي.