الأفق المستقبلية لما بعد الانتخابات النيابية اللبنانية

الكاتب: د. وائل سهيل نجم/ عضو في كل من الهيئة العامة ولجنة العلاقات العامة في منظمة متحدون

تمهيد:

منذ شباط العام 2005 لحظة اغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري، يعيش لبنان انقساماً سياسياً عامودياً على الرغم من التنوّع الطائفي والمذهبي وحتى السياسي في البلد. فمنذ ما قبل الانفجار الذي أودى بحياة الراحل رفيق الحريري انقسم اللبنانيون إلى فريقين على خلفية التمديد لرئيس الجمهورية في حينه إميل لحود، الذي كان مدعوماً من النظام في سوريا. فريق دعم التمديد الذي كان في جوهره مطلباً سورياً، وفريق آخر رفض التمديد للرئيس لحود، وكان ذلك في جوهره رفضاً للإرادة والتوجّه السوري، ثمّ عاد بعض هذا الفريق ونزل عند التهديد السوري وقبل التمديد للحود مرغماً، وكان في طليعة أولئك الرئيس الراحل رفيق الحريري الذي اغتيال لاحقاً في شباط من العام 2005 وبواقعة الاغتيال التي وُجّهت أصابع الاتهام السياسية الأولى فيها للنظام السوري تكرّس الانقسام العامودي في لبنان بين فريقين أطلق على أحدهما فريق 8 آذار بالنظر إلى التجمّع الكبير الذي جمع هذا الفريق يوم الثامن من آذار 2005 تحت شعار “شكراً سوريا”، وقد ضمّ هذا الفريق حلفاء النظام السوري في لبنان وأبرزهم : حزب البعث السوري، والحزب القومي السوري، وحركة أمل برئاسة رئيس المجلس النيابي نبيه برّي، وتيار المردة برئاسة سليمان فرنجية، ومعهم حزب الله ولاحقاً التيار الوطني الحرّ برئاسة رئيس الجمهورية الحالي ميشال عون.

وأمّا الفريق الآخر فهو فريق 14 آذار الذي انضوت فيه أغلب القوى السياسية التي كانت مناهضة للوجود السوري والهيمنة السورية على لبنان، وأبرز هذه القوى : تيار المستقبل الذي كان يرأسه الراحل رفيق الحريري ولاحقاً نجله سعد، والحزب التقدمي الاشتراكي برئاسة الزعيم وليد جنبلاط، والقوات اللبنانية بقيادة سمير جعجع الذي كان مسجوناً في حينه، والكتائب اللبنانية بزعامة رئيس الجمهورية الأسبق أمين الجميّل، وغيرهم، وقد ردّ هذا الفريق على تجمّع “شكراً سوريا” بتجمّع ضخم لم يشهد لبنان مثيلاً له من قبل في ساحة الشهداء في بيروت، ورفع هذا الفريق شعار إخراج وطرد الجيش السوري من لبنان، وهو ما حصل في يوم 26 نيسان من العام 2005.

لقد كرّست تلك الأحداث الانقسام العامودي في لبنان والذي لم يخرج منه البلد لغاية الحين، حتى أنّ قائد فيلق القدس الإيراني السابق، قاسم سليماني، علّق على فوز فريق 8 آذار بأغلبية المجلس النيابي في انتخابات العام 2018 بالقول : “لقد فاز “حزب الله” للمرّة الأولى بـ74 صوتًا في البرلمان من أصل 128 مقعداً” ([1])، وكانت هي المرّة الأولى التي يتقدّم ويفوز فيها هذا الفريق في الانتخابات على فريق 14 آذار علماً أنّ البلد شهد طيلة تلك الفترة الممتدة من العام 2005 حتى العام 2018 استحقاقين انتخابيين نيابيين في الأعوام 2005 و2009. وشهد استحقاق انتخاب رئيس جمهورية في العام 2008 في أعقاب الأحداث الدامية التي حصلت في بيروت وانتهت يومها بتسوية في العاصمة القطرية الدوحة قضت بانتخاب قائد الجيش في حينه ميشال سليمان رئيساً للجمهورية. واستحقاق انتخاب ميشال عون في العام 2016 رئيساً للجمهورية بعد تعطيل وشلّ عمل المجلس النيابي لأكثر من عامين ونصف.

لم تفلح كلّ الأحداث والتطوّرات التي حدثت في المنطقة ولبنان في إخراج هذا البلد من هذا الانقسام العامودي الذي ما زال قائماً إلى حدود كبيرة وإن اتخذ في الفترة الأخيرة أشكالاً أخرى مختلفة. فلا الأحداث والثورة في سوريا، ولا المتغيّرات التي طرأت وحصلت في المنطقة، ولا الواقع الاقتصادي والمعيشي الصعب في لبنان، ولا جائحة كورونا ولا غيرها تمكّنت من إنهاء هذا الانقسام وإخراج لبنان منه، وإن شهد الواقع اللبناني تراجع حدّة هذا الانقسام في بعض المحطات والاستحقاقات عمّا كان عليه في العقد الأول من الألفية الثالثة. وعلى أساس هذا الانقسام خاضت القوى السياسية اللبنانية انتخابات العام 2022، وبناء عليه ما زالت تنظر لمستقبل البلد وتمارس السياسة فيه، وهو ما سيكون مدار البحث والاستشراف.

 

برلمان العام 2022:

يوم الخامس عشر من شهر أيّار الماضي جرت الانتخابات النيابية وتمّ اختيار مجلس نيابي جديد اختلطت فيه النتائج بما بات فيه أيّ فريق سياسي لا يتمتّع بالأغلبية المطلقة. جرت الانتخابات وفق قانون هجين جمع بين التمثيل النسبي وفق نظام اللوائح وبين الصوت التفضيلي مع مراعاة التمثيل الطائفي والمذهبي والمناطقي للحفاظ على التوازنات الطائفية والمذهبية في بلد الديمقراطية التوافقية، ما فرّغ التمثيل النسبي من محتواه الحقيقي، وجعل بعض النوّاب يفوزون ببضعة عشرات من الأصوات في وقت رسب مرشّحون آخرون أحرزوا عدداً كبيراً من الأصوات.

وبغض النظر عن سلبية وإيجابية القانون الانتخابي المعتمد، فقد جاءت النتائج مخيّبة لآمال بعض القوى السياسية، ولبّت طموحات قوى سياسية آخرى، غير أنّ أهمّ وأبرز ما في هذه النتيجة أنّها أفقدت قوى 8 آذار بقيادة حزب الله الأكثرية النيابية التي كانت تتمتّع بها في برلمان 2018 من دون أن تنتقل هذه الأكثرية إلى الفريق الآخر المنافس المتمثّل بفريق 14 آذار. بل على العكس من ذلك فإنّ هذا الفريق أيضاً، وهو بالمناسبة ليس فريقاً واحداً أو صفّاً متماسكاً، فقد أيضاً النسبة النيابية التي كانت بحوزته حيث أنّ هذا الفريق أولاً تشتّت إلى قوى سياسية تتحالف في بعض الملفات وتتنافس في ملفات أخرى، وقد تراجع عدد النوّاب المنضوين في هذا الفريق خاصة بعد انسحاب تيار المستقبل (كان يمثّل أكبر كتلة نيابية في برلمان 2018) من الحياة السياسية وعدم مشاركته في الانتخابات. لقد كان تيار المستقبل العامود الفقرة لما كان يُعرف بفريق 14 آذار، خاصة وأنّ جمهور هذا التيار كان بأغلبيته ينتمي إلى الأكثرية السُنّية في لبنان. لقد تراجع بهذا الفعل عدد نوّاب فريق 14 آذار وانتقل قسم منهم إلى كتلة المستقلين أو القوى التي عُرفت لاحقاً بقوى التغيير التي وُلدت من رحم انتفاضة أو ثورة 17 تشرين الأول 2019.

لقد توزّعت المقاعد في المجلس النيابي الحالي بين أربع مجموعات حتى لا نقول كتل نيابية. مجموعة حزب الله وفريقه السياسي وهي تضمّ إلى كتلة نوّاب الحزب كتلة نوّاب حركة أمل وكتلة نوّاب التيار الوطني الحر ونوّاب محسوبين أو مقرّبين من النظام في سوريا. وتجدر الإشارة هنا إلى سقوط مريع في انتخابات 2018 لمعظم الرموز السياسية المقرّبة أو المحسوبة على النظام في سوريا، ومن هؤلاء أسعد حردان رئيس الحزب القومي السوري، وطلال أرسلان زعيم الحزب الديقمراطي اللبناني، وإيلي الفرزلي نائب رئيس المجلس النيابي السابق، وفيصل كرامي رئيس تيار الكرامة في مدينة طرابلس، ووئام وهّاب رئيس حزب التوحيد العربي، وغيرهم. وقد كان لافتاً سقوط كل هذه الرموز مرّة واحدة ما أوحى أنّ وراء الأكمة ما وراءها وهو ما كشفه في وقت لاحق موقع “أساس” عندما تحدث عن خطة سرّية لحزب الله هي التي كانت وراء سقوط كلّ هؤلاء في الانتخابات ([2])، وهو ما أشار إليه بما يرقى إلى درجة التأكيد الوزير السابق ورئيس حزب التوحيد العربي وئام وهّاب في حديث إلى قناة “الجديد” عندما كشف عن توجّه كان يتمّ العمل عليه لتشكيل كتلة نيابية من هؤلاء الرموز وتكون على علاقة مباشرة بالعاصمة السورية دمشق ومن دون التنسيق المباشر مع حزب الله ([3]).

أمّ المجموعة الثانية فهي التي تفضّل أن يُطلق عليها السيادييين وهي وكما أشرنا ليست فريقاً واحداً منسجماً فيما بينه، بل هي بقايا فريق 14 آذار وتضم كتلة نوّاب القوات اللبنانية بزعامة سمير جعجع، وكتلة نواب اللقاء الديمقراطي بزعامة تيمور جنبلاط نجل الزعيم الدرزي وليد جنبلاط، وكتلة نوّاب حزب الكتائب بزعامة سامي الجميّل، إضافة إلى نوّاب آخرين تدور في فلك هذه المجموعة.

بينما تتشكّل المجموعة الثالثة من عدد من النوّاب المستقلين وبعضهم قريب من فريق 8 آذار وبعضهم الآخر من الفريق السيادي، في حين تضم المجموعة الرابعة والجديدة ما يُعرف بنوّاب التغيير التي جاء أغلب نوّابها من صلب انتفاضة 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2019.

بهذا التوزيع فقدت أيّة قوّة سياسية من بين هذه المجموعات الأكثرية في المجلس النيابي فتوزّعت المقاعد والأصوات بينها فصار لزاماً عليها أن تتفاوض فيما بينها لتشكيل أكثرية نيابية عند كل استحقاق انتخابي نيابي أو عند كل قضية أو ملف نيابي، وهو ما جرى وحصل عند أول استحقاق دستوري تمثّل بانتخاب رئيس للمجلس النيابي وهيئة مكتب المجلس، وقد تمكّن حزب الله وفريقه السياسي من تشكيل أكثرية نيابية طفيفة أمّنت تصويت 65 نائباً لصالح انتخاب نبيه برّي رئيساً للمجلس النيابي، والياس بو صعب نائباً للرئيس، وعدد من أعضاء هيئة المكتب (أمناء سرّ ومقرّرون) على حساب القوى السيادية والتغييرية، وبذلك فرض الحزب مع فريقه رؤيته على المجلس وتمكّن من الاستئثار إلى حدّ بعيد وكبير بقرار السلطة التشريعية في البلد على الرغم من عدم امتلاكه أكثرية نيابية تؤهّله ذلك، وأثبت أنّ كلّ الكلام عن فقدانه الأكثرية ذهب أدراج الرياح. كما أثبت الاستحقاق الدستوري الثاني وهو تكليف شخصية سُنّية لتشكيل الحكومة أنّ الحزب ومن معه يتحكّمون بالمشهد النيابي حيث أنّ الحزب تمكّن أيضاً من تأمين أكثرية لمرشحه لرئاسة الحكومة نجيب ميقاتي في مقابل فشل القوى السيادية والتغييرية في تأمين وصول شخصية سُنيّة لهذا الموقع. فضلاً عن أنّ الحزب تمكّن مع حلفائه من الفوز برئاسة ومقرّري معظم اللجان النيابية في المجلس النيابي على حساب قوى السيادة والتغيير، وهو ما يعني بما لا يدع مجالاً للشكّ أنّه أحكم السيطرة على السلطة التشريعية في البلاد على الرغم من تراجع عدد نوّاب فريقه من 74 نائباً في برلمان 2018 إلى حدود الـ 60 نائباً في برلمان 2022.

 

تشكيل الحكومة:

استمرار الانقسام العامودي في القضايا الاستراتيجية الكبرى من ناحية، وتشتّت أصوات النوّاب في المجلس بما لا يسمح بتكوين أكثرية نيابية مستقرّة وثابتة من ناحية ثانية، وانسداد أفق الحلول السياسية ومعها الحصار المحكم على لبنان واستخدامه ساحة لتصفية الحسابات من أغلب الأطراف المعنيّة أو الفاعلة والمؤثّرة بالمشهد اللبناني إن لم نقل من كلّ هذه الأطراف، واستمرار منطق المحاصصة الطائفية والسياسية فضلاً عن غياب الحسّ الوطني العام عند أغلب المعنيين، وتقدّم الحسابات الشخصية والحزبية على المصلحة العامة، أظنّ أنّ كلّ ذلك سيعقّد مسألة تشكيل الحكومة حتى في ظلّ الأزمة التي تعصف بلبنان والتي تجعله بأمسّ الحاجة إلى حكومة أصيلة تقوم بالعمل على معالجة التحدّيات التي تواجه البلد وفي مقدمها في الوقت الحالي الأزمة الحياتية المعيشية التي لم تعد تُطاق في ظلّ الارتفاع الجنوني لسعر الدولار مقابل العملة الوطنية اللبنانية (كل دولار أمريكي يساوي 29 ألف ليرة حالياً).

لقد تمّ تكليف رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي تشكيل الحكومة الجديدة، وحظي الرئيس ميقاتي بثقة 54 نائباً من أصل 127 حضروا إلى القصر الجمهوري وأدلوا برأيهم في الاستشارات المُلزمة لرئيس الجمهورية، فيما فضّل 46 نائباً عدم تسمية أيّة شخصية لرئاسة الحكومة بينما نال سفير لبنان السابق لدى الأمم المتحدة، نوّاف سلام، ثقة 25 نائباً ([4]).

بالطبع لم ترُق هذه النتيجة للرئيس ميقاتي وهو يدرك أنّه في ظلّها لن يكون مسار تشكيل الحكومة مفروشاً بالورود على الرغم من أنّ كلّ الكتل النيابية والقوى السياسية تدرك أنّ عمر هذه الحكومة سيكون دستورياً محكوم بسقف زمني حدّه الأقصى آخر تشرين الأول 2022 موعد انتهاء ولاية رئيس الجمهورية الحالي، ميشال عون، وبعدها تتحوّل الحكومة أيضاً إلى تصريف الأعمال، ففي حال تمّ انتخاب رئيس جديد للبلاد فالرئيس الجديد يجري استشارات نيابية مُلزمة له لتسمية رئيس حكومة جديدة، وفي حال لم يتمّ انتخاب رئيس جديد للبلاد فإنّ صلاحيات الرئاسة الأولى تنتقل للحكومة، ولذلك فإنّ القوى السياسية والكتل النيابية ستتعاطى مع تشكيل الحكومة وهي محكومة بخلفية انتخاب رئيس جديد للجمهورية.

لقد أجرى الرئيس المكلف نجيب ميقاتي، وفقاً لما يقرّه الدستور، استشارات نيابية غير ملزمة له لتشكيل الحكومة، واستمع إلى آراء النوّاب والكتل النيابية لشكل ودور الحكومة المنتظرة، وفضّل عدم الانتظار كثيراً لتشكيل هذه الحكومة، ولذلك فهو حمل إلى رئيس الجمهورية، ميشال عون، تشكيلته الحكومية بعيد ساعات من انتهاء الاستشارات التي أجراها، ولم يغيّر كثيراً في شكل حكومة تصريف الأعمال، سوى الاستغناء عن وزراء الدولة، واستبدال بعض الوزراء بغيرهم مع تبديل بعض الوزارات لناحية تكليف شخصيات مقرّبة من تيارات سياسية غير تلك التي كانت قريبة منها، وأوضح ميقاتي في مؤتمر صحفي عقده في بيروت دور وشكل الحكومة التي يريدها وقال: هو “لمواكبة قضية ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل، والمحادثات مع صندوق النقد الدولي، وخطة الكهرباء مع مصر وسوريا والأردن” ([5]).. غير أنّ رئيس الجمهورية، ميشال عون، فضّل التريث في ردّ أو قبول هذه التشكيلة، كما فضّل أن تكون حكومة من ثلاثين وزيراً بدل 24 وزيراً وفقاً ما ورد في اقتراح ميقاتي ووفقاً لما تحدّثت عنه وسائل الإعلام.

يتضح من خلال هذا المسار أنّ تشكيل الحكومة سيسير في طريق صعبة ولن يكون سهلاً تشكيلها في ظلّ ما أشرنا إليه سابقاً، وبالتالي فإنّ الجميع بات على قناعة أنّ حكومة تصريف الأعمال ستكمل المدّة الزمنية التي تفصل عن موعد انتخاب رئيس جديد للجمهورية، فميقاتي لا يريد تشكيل حكومة على هوى ومصلحة الرئيس ميشال عون وصهره جبران باسيل الذي يريد أن يقبض على الاستحقاق الرئاسي ليكون لاحقاً المرشح الوحيد للرئاسة كما حصل مع عمّه الرئيس الحالي. والرئيس ميشال عون لا يسمح للرئيس ميقاتي بتشكيل حكومة جديدة أصيلة تنتقل إليها صلاحيات الرئاسة الأولى فيما لو لم يتمّ انتخاب رئيس جديد للجمهورية، ومن هنا دخل عامل استحقاق انتخاب رئيس جديد للجمهورية على استحقاق تشكيل الحكومة وزاد الوضع تأزّماً والأفق السياسي انسداداً.

 

انتخاب رئيس جديد للجمهورية:

تنتهي ولاية رئيس الجمهورية الحالي، ميشال عون، في 31 تشرين الأول/ أكتوبر 2022، وبموجب الدستور اللبناني من المفترض أن يتمّ انتخاب رئيس جديد في آخر شهرين من عمر الولاية، غير أنّ هناك بعض الهواجس من عدم تسليم الرئيس ميشال عون قصر بعبدا فيما لو لم ينتخب المجلس النيابي رئيساً جديداً على اعتبار أنّ الرئيس عون لن يسلّم البلد للفراغ، بينما قال هو في مقابلة مع قناة الجزيرة القطرية في برنامج لقاء خاص بثته القناة بتاريخ 31/11/2021 “إنه سيغادر قصر بعبدا عند انتهاء ولايته، ولكن سيبقى إذا قرر مجلس النواب بقاءه” ([6]) . كانت هذه العبارة الأخيرة كفيلة بفتح باب التكهنات على ما يمكن أن يحصل فيما لو لم يتمّ انتخاب رئيس جديد للبلاد خلال الفترة الدستورية التي تسبق انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون وإمكانية عدم الخروج من قصر بعبدا.

وللتذكير فقد رفض ميشال عون الخروج من قصر بعبدا مطلع تسعينات القرن العشرين عندما كان “يحتل” القصر بصفته رئيساً للحكومة العسكرية التي عيّنها الرئيس السابق أمين الجميّل في آخر لحظة من ولايته الرئاسية قبل أن يترك قصر بعبدا في العام 1988، وقد أُجْبِر ميشال عون في حينه على الفرار من قصر بعبدا بعد إقرار اتفاق الطائف، وبعد انتخاب رئيس جديد للجمهورية هو الراحل إلياس الهراوي، وبعد هجوم عسكري قادته القوات السورية التي كانت تتواجد في بيروت. يومها فرّ ميشال عون من قصر بعبدا إلى السفارة الفرنسية، ومنها بعد عام بموجب صفقة إلى باريس.

وللتذكير أيضاً فإنّ جلسات المجلس النيابي ظلّت معطّلة طيلة أكثر من عامين ونصف من قبل التيار الوطني الحر وحزب الله وبعض حلفائهما إلى حين خضعت الكتل النيابية الأخرى وسلّمت بانتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية في العام 2016 .

هناك إذاً تجارب مريرة مع ميشال عون ومسألة الرئاسة الأولى، ولذلك فإنّ القلق يساور الجميع في قضية تسليم ميشال عون لقصر الرئاسة في بعبدا والعودة إلى منزله في الرابية، وهذا بالطبع أحد السيناريوهات المطروحة والتي يمكن أن تزيد المشهد السياسي تأزماً وتعمّقاً، خاصة إذا وجدت بعض الأطراف السياسية ضالتها في بقاء الرئيس عون في قصر بعبدا تحت عنوان عدم السماح بالفراغ في ظل حكومة تصريف أعمال، وهنا يترقّب الجميع في بيروت الموقف الحقيقي لحليف عون الرئيسي، أي حزب الله.

كما هناك قلق من عدم الذهاب إلى انتخاب رئيس جديد للبلاد، حتى لو غادر ميشال عون قصر بعبدا إلى منزله يوم 31 تشرين الأول 2022، وبالتالي فإنّ صلاحيات الرئاسة الأولى تنتقل، وفق الدستور، إلى الحكومة مجتمعة، غير أنّ المعضلة الآن أنّ الحكومة في حالة تصريف أعمال وفي أضيق الحدود، ولذلك يجهد رئيس الحكومة المكلف نجيب ميقاتي لتشكيل حكومة خلال الفترة القريبة تكون بعيدة عن قبضة ميشال عون وصهره جبران باسيل الذي ينظر إليه الكثيرون في بيروت على أنّه الحاكم الفعلي في قصر بعبدا. وفي حال جرى الخلاف على تفسير الدستور لناحية انتقال صلاحيات الرئاسة الأولى إلى الحكومة الفعلية وليس إلى حكومة تصريف أعمال فإنّ ذلك من المتوقّع أن يزيد الأمور تعقيداً وقد يُتخذ ذريعة من قبل رئيس الجمهورية ميشال عون لعدم مغادرة قصر بعبدا وتسليم مقاليد الأمور إلى حكومة تصريف الأعمال.

إنّ عدم انتخاب رئيس جديد في المهلة الدستورية سيعمّق الخلاف في البلد، وسيزيد الانقسام، وقد يهدّد ذلك السلم الأهلي والكيان اللبناني والنظام السياسي وربما يقود البلد إلى حرب أهلية أو إلى انقسام كبير يعيد إنتاج النظام السياسي وفقاً لموازين القوى القائمة.

 

لبنان وترسيم الحدود البحرية:

يبقى ملف من الملفات المتصدّرة للاهتمام المحلي والإقليمي والدولي وهو ملف ترسيم الحدود البحرية الجنوبية للبنان مع فلسطين المحتلة، والتي تقود الولايات المتحدة الأمريكية وساطة ومفاوضات غير مباشرة بين لبنان ودولة الاحتلال الإسرائيلي بشأنها.

يُعتبر هذا الملف في لبنان اليوم من أعقد الملفات وأكثرها حساسية لناحية الأزمة الاقتصادية الخانقة التي يعيشها لبنان والتعويل على كميات الغاز والنفط المكتشفة أو المتوفرة في بعض الحقول النفطية البحرية في المياه الإقليمية اللبنانية. غير أنّ النزاع الحدودي البحري مع كيان الاحتلال الإسرائيلي عند الحدود البحرية الجنوبية يؤخّر عمليات التنقيب والاستخراج، ويحول دون إتمام هذه العمليات حتى في الحقول النفطية التي تقع خارج المناطق المتنازع عليها.

آخر فصول هذا الملف الخلاف على ترسيم الحدود البحرية وفق الخط 29 أو وفق الخط 23. فالحكومات اللبنانية المتعاقبة منذ العام 2007 وقّعت على اتفاق مع قبرص لتحديد المناطق الاقتصادية لكل من البلدين، وقد تذرّعت حكومة كيان الاحتلال الإسرائيلي بهذه الاتفاقية وقامت بتحديد حدودها البحرية مستندة إلى هذه الاتفاقية. غير أنّ الحكومة اللبنانية اكتشفت خطأً في وقت لاحق وقامت بتعديل خط الحدود البحري وهو ما عُرف بالخط 23 وهنا نشأ نزاع على المنطقة الواقع بين الخط رقم 1 الذي يرسّم الحدود بموجب الاتفاق مع قبرص، والخط 23 الذي اعتمدته الحكومة اللبنانية وأودعته لدى الأمم المتحدة، والمساحة بين الخطين تقدّر بحوالي 860 كلم2، وهنا تدخّلت الوساطة الأمريكية عبر الوسيط السابق فردريك هوف الذي اقترح تقسيم هذه المنطقة بين لبنان ودولة الاحتلال بحيث تكون حصة لبنان منها 500 كلم2 وتكون حصة دولة الاحتلال 360 كلم2، ولكن هذا الاقتراح سقط لرفضه من قبل الطرفين. ثم عاد لبنان وطلب من الجيش اللبناني إعادة مسح المنطقة الحدودية في بلدة رأس الناقورة الحدودية، وقد نشأ عن عملية المسح هذه ترسيم خط جديد عُرف بالخط 29 أضاف إلى المنطقة المتنازع عليها حوالي 1400 كلم2، وتضم هذه المنطقة جزءاً من الحقل المُسمّى لدى حكومة الاحتلال بـ “حقل كاريش” وهو الحقل الذي تمركزت فيه مؤخراً سفينة الانتاج اليونانية بهدف استخراج النفط والغاز منه.

لقد أدّى هذا الخلاف إلى توتّر العلاقة والحدود بين لبنان ودولة الاحتلال الإسرائيلي، وإلى رفض مقترحات الوساطة الأمريكية التي تجهد إلى منح حكومة الاحتلال كامل حقل كاريش، وهو ما وضع مصير لبنان ودولة الاحتلال على المحك، كما أنذر بإمكانية خروج الأمور عن نطاق السيطرة والانزلاق إلى مواجهة محدودة تكرّس أمراً واقعاً جديداً، أو إلى حرب مفتوحة غير مضمونة النتائج مسبقاً لأي طرف، إلاّ في حال توصّلت الأطراف المعنية إقليمياً إلى تسويات في أكثر من ملف ومنطقة فعندها قد يكون من الممكن تفادي المواجهة قبيل نهاية الصيف الجاري بالنظر إلى ضرورة تأمين بديل عن النفط والغاز الروسي لأوروبا، وبالنظر إلى أكثر من اعتبار.

لبنان يقف على فوّهة بركان قد ينفجر في أيّة لحظة خاصة بعد أن تحوّل إلى ساحة لتبادل الرسائل يمكن أن تتحوّل في أيّة لحظة أخرى إلى ساحة لتصفية الحسابات لا سيّما بين طرفين فاعلين أساسيين ومؤثرين بشكل كبير في المشهد اللبناني. الولايات المتحدة الأمريكية من ناحية، إيران من ناحية أخرى. وبانتظار ما يمكن أن يحصل في ملفات التفاوض بين الطرفين سيظلّ لبنان محكوماً بمصالحهما بالدرجة الأولى وإن اختفت خلف المطالب والخلاف اللبناني اللبناني في حين أنّ الغياب العربي والإسلامي عن الاهتمام بلبنان كرّس هذه المعادلة وجعل لبنان جزءاً من هذا التجاذب والذي سيدفع ثمنه اللبنانيون سلماً أو حرباً.

 

     الخلاصات:

  1. استمرار مفاعيل الانقسام السياسي العامودي في لبنان على الرغم من المتغيّرات والتطوّرات التي طرأت محلياً وإقليمياً.
  2. لم تفز أيّة قوة سياسية أو تحالف سياسي بالأكثرية النيابية في المجلس النيابي الجديد خلافاً لما كان عليه المشهد في المجلس النيابي المنصرف.
  3. المجلس النيابي الحالي منقسم بين أربع مجموعات أو تكتلات سياسية مختلفة يمكن أن تتفق فيما بينها على كل ملف على حدة.
  4. هناك صعوبة في تشكيل حكومة جديدة مع استمرار منطق المحاصصة ومحاولات الاستئثار بالسلطة خاصة في ظل إمكانية انتقال صلاحيات رئاسة الجمهورية إلى الحكومة فيما لو لم يتم انتخاب رئيس جديد للجمهورية نهاية فصل الصيف.
  5. انتخاب رئيس جديد للجمهورية قبل انتهاء ولاية رئيس الجمهورية الحالي ميشال عون محفوفة بالمخاطر خاصة في ظل استمرار الانقسام وتحويل لبنان إلى ساحة للفاعلين الدوليين والإقليميين.
  6. الغياب العربي والإسلامي عن لبنان وإهماله في حسابات الدول العربية والإسلامية حوّله إلى ساحة للفاعلين والمؤثرين الآخرين، وهذا بحدّ ذاته آخذ بتهديد الصيغة اللبنانية القائمة على التوافق.
  7. من المرجح استمرار الأزمة الاقتصادية وأزمة انسداد أفق الحلّ السياسي في المرحلة المقبلة في ظل غياب أيّة فرصة جدّية وحقيقية للحلول على مستوى المنطقة بشكل عام.
  8. لبنان مهدد في المرحلة المقبلة بالضياع أو بتعديل النظام السياسي أو انتهاء الكيان اللبناني فيما لو استمرّت الأزمة على حالها أو أخذت أشكالاً أخرى للصراع.
  9. هناك إمكانية لاندلاع مواجهة مسلحة عبر الحدود سواء كانت محدودة من أجل فرض أمر واقع جديد في ظل انسداد الأفق، أو حرب مفتوحة إذا ما تطوّرت الأمور وأخذرت بعداً إقليمياً ودولياً.

 

المراجع:

[1]  – فريق تحرير وكالة المركزية للأنباء،  سليماني يُشيد بنتائج “حزب الله” انتخابياً، وكالة المركزية للأنباء، 11 جون 2018،  https://2u.pw/LzYF6

[2]  – محمد بركات، ” الحزب يؤدّب السوريين : سبعة نوّاب بضربة واحدة”، موقع أساس ، الجمعة 20 أيّار 2022، https://2u.pw/KXDop

 

[3]  – مقابلة الوزير وئام وهّاب مع قناة الجديد،  برنامج الحدث مع كلاارا جحا،  الجمعة 20 أيّار 2022. https://www.youtube.com/watch?v=nGZHKH2HZlA

[4]  – فريق تحرير الوكالة الوطنية اللبنانية للإعلام،  استشارات بعبدا أفضت الى إعادة تكليف ميقاتي بأغلبية 54 نائباً، موقع الوكالة الوطنية اللبنانية للإعلام، الخميس 23 حيزران 2022، https://2u.pw/Iw9T4

[5]  – وسيم سيف الدين،  ميقاتي يسلم الرئيس اللبناني تشكيلة حكومية جديدة، وكالة أنباء الأناضول، 29 حزيران 2022 . https://2u.pw/4tocW

[6]  – مقابلة الرئيس ميشال عون مع قناة الجزيرة القطرية، برنامج لقاء خاص مع حسن جمّول، موقع قناة الجزيرة القطرية، 30 تشرين الثاني 2021 . https://2u.pw/IPzmc

 

المصدر: رؤية تركية

*جميع المقالات المذكورة في الموقع تعبر عن رأي أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي المنظمة