الاعتداءات على السوريين في تركيا.. من المستفيد؟
ربما لم تكن هي المرّة الأولى التي تشهد بعض المناطق التركية، اعتداءات ذات صبغة عنصرية، يتعرض لها السوريون، لكن الهجمات الأخيرة التي شهدتها ولاية قيصري، وسط الأناضول بشكل أساسي، وبعض الولايات الأخرى، كانت هي الأوسع والأشد تأثيرًا إنسانيًا وإستراتيجيًا واقتصاديًا.
إذ تكفّلت شائعة معتادة بشأن اعتداء جنسيّ من صبي سوري على طفلة تركية (اتضح لاحقًا أنها سورية أيضًا)، بانطلاق المئات لتكسير وحرق ممتلكات السوريين المقيمين في الولاية، ثم ما لبثت أن امتدت إلى ولايات أخرى، وإن بحجم أقل.
خرج الرئيس التركي بعد الأحداث مؤكدًا أنه لن يتمّ التسامح مع الإساءة، ولا مع أولئك الذين يخططون للفوضى، ولا من يحاولون
لكن قبل الحديث عن التداعيات، لابد من تسجيل بعض الملاحظات، التي قد تضيء المشهد أكثر أمام القارئ.
ملاحظات مهمّة
- أولًا: هذه الاعتداءات وقعت في مدينة في قلب الأناضول، حيث قوّة وتمركز المحافظين الأتراك، كما شملت مدنًا أخرى، مثل: قونيا، وغازي عنتاب، وكلها مدن تعدّ خزانات انتخابية لحزب العدالة والتنمية الحاكم.
- ثانيًا: لم تكن هذه الاعتداءات عفوية، حتى وإن بدت كذلك، فالتخطيط لها لا تخطِئُه العين، سواء بمتابعة الفيديوهات المنشورة، أو الشرائح الأساسيّة التي اشتركت في الهجمات، والتي كان أغلبها من الفئات العمرية الأقل من 18 سنة، حيث تمّ الدفع بهم إلى واجهة الأحداث لضمان عدم المساءلة القانونية.
- ثالثًا: مما يقوي الفرضية السابقة، ما كشفه بيانُ وزارة الداخلية، عن دور المسجلين جنائيًا، في هذه الاعتداءات، حيث لعبوا دورًا بارزًا في تجنيد وشحن الأفراد إلى أماكن وجود السوريين.
- رابعًا: حرصَ المحرضون على بث مقاطع مصورة، على مواقع التواصل الاجتماعي، لاعتداءات مماثلة من ولايات مختلفة، نفّذتها مجموعات صغيرة من الصبية، لخلق شعور عام بوجود حالة من الفوضى في البلاد خارجة عن سيطرة السلطات.
- خامسًا: سجّل معظم المثقفين والصحفيين الأتراك، على اختلاف توجهاتهم السياسية والأيديولوجية، موقفًا إنسانيًا مشرفًا، بإدانة ورفض الهجمات، حتى وإن اختلف بعضهم مع سياسة الدولة تجاه ملفّ اللاجئين.
تحديات إنسانية خلفتها الهجمات
لم يكن اليمين المتطرف خيارًا مفضلًا للشعب التركي في أي انتخابات خلال الفترة الماضية، رغم تركيز دعايته على ملف اللاجئين.
ففي انتخابات عام 2023 الرئاسيّة والتشريعية، حصل المرشح الرئاسي المدعوم من “حزب الظفر”، على 5.1%، أي حوالي مليونين و800 ألف صوت، من مجموع قرابة 61 مليون ناخب، ولم يحصل الحزب إلا على 2.4%، وهي نسبة لم تؤهله لدخول البرلمان. ثم واصل الحزب هبوطه، فحصل في الانتخابات البلدية التي جرت في مارس الماضي/ آذار، على نسبة 1.7% فقط.
تنفيذ القانون بأيديهم. وقامت الداخلية التركية بحملة اعتقالات ضد المشاركين في الأحداث، طالت نحو 1000 شخص، كما أعلنتْ ضبط صاحب الحساب الذي سرّب قائمة طويلة من بيانات السوريين المقيمين في تركيا على تطبيق إنستغرام، والذي ظهر أنه صبي عمره 14 سنة.
هذه الأرقام تؤكد بجلاء أن المزاج العام للشعب التركي ليس منسجمًا مع الأفكار اليمينية المتطرفة المعادية للأجانب، وذلك في لحظات الاختيار العقلانية.
كما أن التركيبة العرقية للمجتمع: (أتراك، أكراد، عرب، ألبان، بوشناق، لاظ)، إضافة إلى التنوع الديني، وإن بنسبة قليلة، والتنوع المذهبي، كلها أمور رسّخت فيه قبول التنوع،، والتسامح مع الآخر المختلف عرقيًا أو دينيًا أو مذهبيًا، شريطة أن يترك المجتمع دون تأثيرات سلبية من السياسيين والإعلام.
لكن وبالرغم من ذلك فإن الذاكرة الجمعية للمجتمع التركي، ما زالت تحتفظ بحوادث مماثلة، تركت ندوبًا في الضمير العام للمجتمع حتى الآن.
نذكر منها على سبيل المثال، الاعتداء على الأتراك من أصول يونانية في إسطنبول في سبتمبر/أيلول عام 1955، عقب نشر الصحف أنباء تفيد باستهداف منزل مؤسس الجمهورية، مصطفى كمال أتاتورك، في مدينة سالونيك باليونان.
تلك الشائعة قادت إلى استهداف الأحياء التي يقطنها ذوو الأصول اليونانية، ما أدى إلى سقوط قتلى وجرحى، وتدمير ممتلكات خاصة، وصولًا إلى هجرة شبه جماعية خارج تركيا.
من هنا فإن التحدي الماثل للعيان، والذي يحذر منه كتَّاب ومثقفون، ألا تتدحرج الأحداث، لتعيد إنتاج ما حدث في 1955 مرة أخرى. خاصة أن المجتمع التركي يعيش حالة من الاحتقان نتيجة الأزمة الاقتصادية، التي أثرت سلبيًا على المزاج العام.
فالسنوات الأولى للثورة السورية شهدت ترحيبًا واسعًا بالسوريين، وانتشر مفهوم: “المهاجرون والأنصار” على نطاق واسع، لكن حصلت حالة من التبدل لا يمكن إنكارها، ساهم فيها المتغير الاقتصادي، ثم تزايد أعداد المهاجرين، وطول أمد الثورة السورية، مع عدم وجود حل في المدى القريب، إضافة إلى عدم التصدّي للدعايات السوداء بحق اللاجئين، والكثير منها يدخل في إطار الشائعات الممنهجة، وللأسف فإن الذي يتولى كِبر نشرها بعض الساسة والإعلاميين المعروفين!
كل هذه العوامل قادت إلى الاعتداءات الأخيرة، والتي ستخصم دونما شك من الصورة الحقيقية لتركيا باعتبارها دولة لا تزال حتى الآن تستضيف ملايين المهاجرين على أراضيها، وتوفر لهم الرعاية والخدمات المختلفة.
لذا، فإن مؤسسات الدولة الرسمية والأهلية عليها أن تكثف جهدها لمعالجة هذه التداعيات الإنسانية، خاصة أنّ شهادات المواطنين الأتراك بشأن ما حدث ليلة الاعتداءات التي طالت جيرانهم السوريين مروعة ومفزعة.
التداعيات الأمنية والإستراتيجيّة
أعلنت وزارة الداخلية التركية، اعتقال أكثر من ألف شخص على خلفية تلك الاعتداءات، فيما صدرت أوامر الرقابة القضائية بحق العشرات. هذه الإجراءات رغم أهميتها، ليست كافية، إذ يجب الوصول إلى العقل المدبر لها.
فإذا كان هناك منفذون يتحركون على الأرض لدوافع عنصرية، فإن ثمة عقلًا سياسيًا يختبئ خلفهم، يخطط جيدًا لاستخدام ورقة اللاجئين لتحقيق مآرب سياسية.
فخلال الفترة الماضية تعالت أصوات في المعارضة تطالب بإجراء انتخابات مبكرة، وحيث إن المعارضة لا تملك العدد الكافي برلمانيًا لتمرير هذا القرار، فثمة مسلك أخير، وهو دفع البلاد إلى الفوضى، أملًا في أن يقود ذلك إلى التعجيل بخيار الانتخابات المبكرة.
فالذاكرة الوطنية التركية لا تزال تذكر كيف قاد اقتتال الشوارع بين اليمين واليسار إلى انقلاب 12 سبتمبر/أيلول 1980 بقيادة الجنرال كنعان إيفرين.
والتداعيات لن تتوقف على الداخل، بل امتدت خارجيًا إلى سوريا، وخاصة مناطق الشمال، التي تمثل عمقًا إستراتيجيًا وأمنيًا مهمًا لتركيا، وقد تابعنا حجم التوتر الأمني الذي ساد تلك المناطق في اليوم التالي مباشرة لهجمات قيصري، ما ولّد انطباعًا أوليًا بوجود تنسيق بين الحدث الأصلي وتوابعه!
فالشمال السوري يمثل الحاضنة الشعبية للمناطق التي تشهد عمليات الجيش التركي، ضد تنظيم حزب العمال وفروعه في سوريا مثل وحدات الحماية الكردية.
ومن مصلحة أنقرة إبقاء العلاقة بينها وبين سكان تلك المناطق على استقامتِها. في ظل وجود جماعات وتنظيمات مثل تنظيم الدولة، وحزب العمال “PKK” من مصلحتها تفخيخ هذه العلاقة.
كما أن الجيش التركي الذي يستعد لعملية عسكرية كبيرة في شمال العراق، وربما الشمال السوري أيضًا، ليس في حاجة إلى مثل هذه الأزمات التي قد تشتت تركيزه ومجهوده العسكري الأساسي.
أيضًا التداعيات لم تتوقف عند ذلك، بل امتدت إلى الاقتصاد، وخاصة مجالات السياحة والاستثمار والصناعة.
فالهجمات العنصرية في مدينة قيصري الصناعية، حالت دون خروج حوالي 30 ألف عامل سوري من منازلهم، والالتحاق بالمصانع التي يعملون فيها.
من هنا فإن المعالجة المرتقبة للأزمة، يجب أن تشملَ حزمة من الإجراءات الناجزة والفاعلة، على جميع المستويات القانونية والأمنية والحقوقية والإنسانية.