التوافق والتدافع بين الصهيونية العلمانية والصهيونية الدينية (1)
بخلاف ما هو متداول ومنتشر في عدد من الأوساط السياسية والإعلامية والثقافية وحتى الأكاديمية، فإن الحركة الصهيونية ذات جوهر ديني، حتى وإن أخذت الشكل والبنى العلمانية، وقادتها قيادة علمانية. وكذلك فإن الرواد الأوائل للفكرة الصهيونية من الحاخامات، سبقوا الرواد الأوائل من العلمانيين الذين أنشأوا لاحقاً المنظمة الصهيونية العالمية. كما أن التيار الصهيوني الديني كان حاضراً منذ بدايات المنظمة الصهيونية العالمية، ولم يأتِ متأخراً.
يحاول هذا المقال تحرير العلاقة بين الصهيونية العلمانية والصهيونية الدينية، خصوصاً في ضوء صعود تيار الصهيونية الدينية هذه الأيام، ومحاولة فرض رؤيته التوراتية على المجتمع الصهيوني في فلسطين المحتلة؛ وكذلك محاولة حسم قضية فلسطين وإغلاق ملفها وفق تصوراته.
أولاً: في الجوهر الديني للحركة الصهيونية:
من الأصول التي تقوم عليها الديانة اليهودية حسبما يذكر اليهود أنفسهم:
1- عقيدة الاختيار الإلهي لليهود أو لبني إسرائيل فهم “شعب الله المختار”، وهم “أمة” مستقلة بذاتها.
2- عقيدة توريث الأرض المقدسة فلسطين لإبراهيم عليه السلام ونسله من بني إسرائيل؛ أو عقيدة “أرض الميعاد”؛ ففلسطين ممنوحة لهم بصكٍّ توراتي.
وبغض النظر عن الخلفيات الأيديولوجية للمدارس المنتمية للحركة الصهيونية، فإن جوهر الفكرة نفسها يستند إلى ادعاءات دينية، فالفكرة الصهيونية تستند على أساس أن:
حق اليهود في فلسطين، وهي فكرة ذات جوهر ديني أيضاً، وقد يختلف اليهود إن كان هذا الحق بناء على وعد رباني، أو حقاً تاريخياً، أو حقاً قومياً، أو ثقافياً أو روحياً. لكن هذه الفكرة انغرست في “الوجدان” اليهودي، وإن وجدت تعبيرها في أشكال مختلفة
1- اليهود جنس مستقل، وأمة مستقلة من دون الأمم، وهي فكرة ذات جوهر ديني، وليس جوهراً قومياً. فما الذي يجمع اليهودي الخزري الروسي باليهودي اليمني باليهودي الإيراني واليهودي الفلاشا.. وغيرهم، سوى رابطة الانتماء للدين بغض النظر عن درجة الالتزام بالدين نفسه؟ فالصهيونية رفضت فكرة الاندماج و”المواطنة” لليهود في البلدان التي ينتمون إليها، ومثّلت الصهيونية نقيضاً أو بديلاً عن فكرة “الهسكلا” أو “التنوير” التي دعت إلى ذلك في الوسط اليهودي، وكانت سبباً في إفشالها. وقدمت الصهيونية اليهود باعتبارهم “أمة” أو “شعباً” يتجاوز الجغرافيا والدول القُطرية.
2- حق اليهود في فلسطين، وهي فكرة ذات جوهر ديني أيضاً، وقد يختلف اليهود إن كان هذا الحق بناء على وعد رباني، أو حقاً تاريخياً، أو حقاً قومياً، أو ثقافياً أو روحياً. لكن هذه الفكرة انغرست في “الوجدان” اليهودي، وإن وجدت تعبيرها في أشكال مختلفة. وإن اليهودي المتدين والعلماني والشيوعي والقومي، وكذلك اليهودي أياً كانت انتماءاته القومية، كلهم يلتقون على هذه المقولة.
وبغض النظر عن أي مناقشة علمية وعن حقائق التاريخ، فإن ما يعنيهم هو إيمانهم هم “بحقهم” هذا، ولذلك لا يبقى سوى الرجوع إلى الأساس الديني الغيبي الذي انغرس في أذهانهم.
وحتى عقيدة “المخلص المنتظر” أو المسيا أو الماشيح كما يسمونه، وقدوم المخلص بالنسبة للمتدينين اليهود مرتبطة بعودتهم إلى فلسطين.
إن أول حاخام أكبر لليهود في فلسطين “أبراهام إسحق كوك” (Abraham Kook)، (1868-1935)، الذي عُدَّ أكبر قوة موجهة في الحياة العامة لليهود في عصره، وهو زعيم مؤسس في الصهيونية الدينية، كان يؤمن بأن الحركة القومية اليهودية (أو الصهيونية بتعبير آخر) على الرغم من اتجاهاتها العلمانية البادية على أتباعها، فإنها في التحليل النهائي والأخير ليست إلا حركة دينية في جوهرها وحقيقتها، وأنها تصدر أصلاً عن نزعة دينية “هي الصفة الراسخة لليهود التي اختصوا بها من بين الأمم الأخرى”. ويرى أن هذه الحركة القومية هي “حركة روحية خالصة على الرغم من نزعتها العلمانية وميول قادتها التي لا تعكس ظاهرياً روحاً متدينة”. ويرى أن السلوك اللا ديني البادي للعيان ليس كفراً أو جحوداً وزيغاً عن الدين، بقدر ما هو عدم اكتراث نتيجة قصور في الفهم، أو عجز في الإدراك.
وقد أظهر كوك قدراً كبيراً من التفهم والتسامح وحسن المعاشرة معهم لاعتقاده أن “الأرض المقدسة من حيث كونها مظهراً لكل الكمالات الإلهية السامية، سوف تلعب دورها الروحي في تصحيح سلوك هؤلاء المقصرين ظاهرياً”. وقد تمتع كوك بنفوذ واسع في صفوف اليهود الأرثوذكس، وبذل جهداً استثنائياً لإقناعهم بالانضمام للصهيونية.
ثانياً: التداخل والتماثل بين الديني والقومي:
فالوعاء القومي هو نفسه الوعاء الديني لدى اليهود، والتعريف الرسمي المعتمد في الكيان الصهيوني لليهودي بأنه المولود لأم يهودية، وبالتالي فالهوية اليهودية ترتكز على النسب أكثر من ارتكازها على الاعتقاد الديني.
الوعاء القومي هو نفسه الوعاء الديني لدى اليهود، والتعريف الرسمي المعتمد في الكيان الصهيوني لليهودي بأنه المولود لأم يهودية، وبالتالي فالهوية اليهودية ترتكز على النسب أكثر من ارتكازها على الاعتقاد الديني
وينقسم اليهود في الواقع المعاصر إلى قسمين رئيسين من الناحية الدينية:
القسم الأول: يهود قوميون، أي على أساس الانتماء العرقي، وهم يرون أن يهوديتهم تكمن في قوميتهم وفي أسلوب حياتهم، وميراثهم الثقافي الاجتماعي. وهؤلاء كتلة كبيرة في الوسط ليهودي لا تقل عن نصف يهود الولايات المتحدة ونصف يهود الاتحاد السوفييتي سابقاً.
القسم الثاني: يهود يؤمنون بصيغة ما من صيغ العقيدة اليهودية، وهم ينقسمون بدورهم إلى ثلاثة أقسام رئيسية: اليهودية الأرثوذكسية، وهي وارثة اليهودية الحاخامية أو التلمودية، وهي الصيغة الرسمية المعتمدة في الكيان الصهيوني؛ والثانية اليهودية الإصلاحية، وهي التي تُحكِّم العقل في كل شيء، وتحاول أن تفصل بين ما هو ديني فتحترمه وتلتزم به، وبين ما هو قومي فترفضه؛ والثالثة اليهودية المحافظة، وهي تحاول أن تجمع بين اليهودية الأرثوذكسية وبين اليهودية الإصلاحية، وهي تؤمن بالوحي السماوي لبني إسرائيل، وتتخذ موقفاً إيجابياً من فكرة العودة وإقامة الدولة اليهودية، كما تؤمن بالبنية العامة للتقاليد المتوارثة عن الحاخامات، لكنها تحتفظ بحق تفسيرها وتأويلها تبعاً للمصلحة ومقتضيات العصر. وقد أباحت اليهودية المحافظة والإصلاحية ترسيم النساء حاخامات، وأباحتا الشذوذ الجنسي بين الذكور والإناث، بل ويرسّم الشواذ والسحاقيات حاخامات.
إن أولئك الذين يؤمنون بالتوراة والتلمود وحياً إلهياً، أو أولئك الذين يرونها تراثاً ثقافياً، أو مجموعة من الخرافات والأساطير، يتفقون في النهاية أنها هي التي شكلت الوعي الجمعي العام لليهود، وكانت العامل الحاسم في تشكيل معالم حياتهم عبر العصور.
والفكر اليهودي- الصهيوني يركز على الارتباط العضوي بين الله والشعب والأرض، وحسب الحاخام حاييم لانداو: “إن روح شعبنا لا تستطيع التعبير عن نفسها إلا إذا عادت الحياة القومية إلى أرضنا من جديد”، لأن “القبس الإلهي لا يؤثر في شعبنا إلا وهو في أرضه”. وعندما سئل موشيه دايان (رئيس الأركان ووزير الدفاع ووزير الخارجية سابقاً في الدولة الصهيونية) بخصوص دعاوى الصهاينة الدينية والتاريخية في فلسطين المحتلة قال: “هذا أساس الوجود الإسرائيلي، إنه واحد من العناصر الثلاث التي تشكل إسرائيل وهي الشعب اليهودي والكتاب المقدس وأرض اليهود”، ولذلك “إذا اجتمعت التوراة وأمة التوراة فلا بد أن تكون معها أرض التوراة”.
فمثلاً، إذا كان الأساس الذي قام عليه الإسلام هو التوحيد “الشهادتين” بهما يدخل المسلم في هذا الدين، وبإنكارهما يخرج؛ فإن الأساس الذي يفصل بين إيمان اليهودي وكفره ليس مرتبطاً بالإيمان بربه أو التوراة أو بالتزامه الديني، وإنما بالانتماء والولاء للجماعة اليهودية. فاليهود يؤمنون أن روح الله حلَّت في شعبه اليهودي (عقيدة الحلول)، وبالتالي فقد أخذ الشعب طابعاً قدسياً.
وكان الحاخام الأكبر كوك يقول: “إن الله قد حلّ في الأمة، وبذا أصبحت إسرائيل مشبعة بروح الله، بروح الاسم المقدس”، ويقول:” إن كل ممتلكات إسرائيل القومية العزيزة على قلوب اليهود -الأرض واللغة والتاريخ والعادات- إن هي إلا أوعية لروح الرب”، وإن “روح إسرائيل وروح الله هما شيء واحد”.
ليس كل من يعمل لمصلحة أتباع دينه أو “أمته” مُتديّن بالضرورة، لأن هناك من يخدم أبناء دينه بدوافع الانتماء القومي أو الحضاري.. وقد يكون “علمانياً” في المعايير الدينية لملته
أما الحاخام شختر فكان يقول: “عندما وجدت إسرائيل نفسها وجدت إلهها”. وكان الحاخام لاناو يشير إلى أن البرنامج الصهيوني يدور حول فكرة واحدة”، وكل القيم الأخرى إن هي إلا أداة في يد هذا المطلق”، ثم حدد هذا المطلق بأنه الأمة (الشعب اليهودي).
من ناحية أخرى، فليس كل من يعمل لمصلحة أتباع دينه أو “أمته” مُتديّن بالضرورة، لأن هناك من يخدم أبناء دينه بدوافع الانتماء القومي أو الحضاري.. وقد يكون “علمانياً” في المعايير الدينية لملته. ولتوضيح الأمر وتقريب الصورة، مع إدراكنا للفارق، فإن حزب رابطة عموم مسلمي الهند الذي قاده محمد علي جناح للانفصال عن الهند، وإقامة دولة باكستان الإسلامية ونجح في ذلك سنة 1947، كان عدد لا يستهان به من أعضائه علمانيين أو غير متدينين. وربما كان لديهم عاطفة صادقة تجاه المسلمين بأن يقيموا دولتهم ويديروا أمورهم بأنفسهم، ولكنهم لم يكونوا معنيين كثيراً بتطبيق الشريعة الإسلامية في باكستان، فأنشأوا نظاماً علمانياً. وهذا المثال ينطبق على القيادة “العلمانية” لقومية الملايو المسلمين في ماليزيا (التي حكمت الدولة) حيث يتداخل القومي بالديني.
(ملاحظة: لمزيد من المعلومات حول النصوص والاقتباسات المستخدمة في المقال، انظر مثلاً: كتاب عبد الوهاب المسيري، “الأيديولوجية الصهيونية”، وكتاب عرفان عبد الحميد فتّاح، “اليهودية: عرض تاريخي والحركات الحديثة في اليهودية”).