الطائفية.. سلاح الفراعنة والمستبدّين!
يقول الله تعالى في كتابه العزيز: “إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ ۚ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ” (القصص، ٤). وهذه الآية تتطلّب منا الوقوف عندها طويلًا والتأمّل العميق في معانيها والتمعّن في كل مراميها. ولو فعلنا ذلك، لوجدنا أنها تنطوي على حكمة سياسية سديدة، وأنها فيها من علوم السياسة والاجتماع ما يحتاج إلى مجلّدات لاستقصائه والاستفاضة فيه. وهذا يحيلنا إلى الإعجاز البياني والمعنوي والبنيوي في آيات القرآن الكريم، الذي اختصّه الله سبحانه وتعالى بالإعجاز والإبهار.
فلا يخفى على النبيه المطّلع أن دأب كل العالين والمتجبّرين في الأرض أن يجعلوا أهل الوطن الواحد شِيَعًا وطوائف ومذاهب وأحزابًا وأن يختاروا طائفة معيّنة ليستضعفوها ويضطهدوها، وذلك لكي يستبدّوا بالسلطة ولكي يحافظوا على تجبّرهم. فكلّ المستبدين والمتجبرين يدقّون وتر الطائفية والعنصرية ورفض الآخر وشيطنته. وإنهم ليبدعون في إثارة النعرات وفي بثّ التشرذم بين الناس، وذلك عبر استخدام الأبواق الإعلامية المأجورة والمشبوهة لنشر البغضاء بين الناس، ولتحريض فريق على فريق آخر، ولتحريض طائفة على طائفة أخرى.
ولن تعيينا الأمثلة عبر التاريخ ولا من أيامنا الحاضرة للدلالة على صدق هذه الآية الكريمة و، ما هو أبعد وأعمق من الصدق، إعجازها الذي لا نملك إزاءه إلا التسليم بعظمة هذا القرآن الذي أنزله الله سبحانه وتعالى هدى ونورْ، وشفاء لما في الصدورْ. ولكننا نحب أن نبدأ بإلقاء الضوء على مثالين من عصرنا الحاضر، وذلك لأهميتهما ورمزيتهما لنا كمسلمين وكعرب. هذان المثالان هما العراق ولبنان. وهذا لا يعني أن هذه الآية تخصّ المسلمين والعرب وحدهم دون غيرهم، بل على العكس، إنها تنطبق على كل الأمم والأقوام والأنظمة في كل زمان ومكان.
لو ألقينا نظرة على العراق اليوم، في الشهر الحادي العشر من السنة التاسعة عشر بعد الألفين للميلاد، لوجدنا أنه وطن مبتلى بالكثير من الآفات والمشكلات والفساد والهموم. وهذا ما دفع الشعب العراقي في الأيام والأسابيع الأخيرة للثورة عبر النزول إلى الشوارع والساحات والميادين للاحتجاج على الأوضاع السيّئة وللمطالبة برحيل المسؤولين الفاسدين وبإصلاح الوضع القائم. ولو حاولنا البحث عن أسباب هذا البلاء المحيق بالعراق، لوجدنا أن السبب الرئيسي هو الاستبداد ومعه قرينه الذي لا يفارقه، وهو الفساد. إذ حيث يحلّ الاستبداد يأتي معه الفساد لا محالة. أما لو أردنا الغوص أكثر في أصل الداء، لوجدنا أن الأداة الرئيسية التي يستخدمها الاستبداد لتحقيق هيمنته على العراق هي الأداة المذكورة في الآية الرابعة من سورة القصص، وهي الطائفية.
فمستبدو العراق وطغاته قد قسّموا الوطن الواحد طوائف وشِيَعًا بين سنّة وشيعة وأكراد، وأطلقوا يد الميليشيات الطائفية لتعيث في الأرض فسادًا. ولو عدنا إلى الآية الرابعة من سورة القصص لوجدنا أن هناك ايضًا طائفة وقع عليها الاختيار لتكون ضحية الاستضعاف، وهذه الطائفة هي السنّة العرب. فمما لا يخفى على أي مراقب محايد أن طغاة عراق يومنا هذا اختاروا السنة العرب لقتلهم وإذلالهم واضطهادهم، أي باختصار لاستضعافهم. لذلك كانت الهتافات الوطنية في الانتفاضة الشعبية العراقية في الايام والأسابيع الأخيرة كانت بالغة الدلالة. على سبيل المثال هتف المتظاهرون، باللهجة العراقية: “إخوان سنّة وشيعهْ.. هذا الوطن ما نبيعهْ”. وفي هذا الهتاف قطع الطريق على المستبدين الطغاة لاستخدام سلاح الطائفية.
أما في لبنان، فإن الوضع يتشابه كثيرًا مع الوضع في العراق في صميمه وجوهره، وإن اتّخذ أشكالًا وصُوَرًا مختلفة. فالنظام الطائفي اللبناني هو الأخ الشقيق للنظام الطائفي العراقي. والطائفة الشيعية المسيطرة على الحكم في العراق هي نفس الطائفة الشيعية المهيمنة على الحكم في لبنان عبر ميليشيا حزب الله ومعها شقيقتها الصغرى حركة أمل. وإن كان السنّة العرب هم الطائفة المستضعَفة في العراق، فإن أهل السنّة هم المستضعَفون في لبنان. ففي حين يفسد مجرمو الشيعة في لبنان، فإن القانون لا يطالهم، أما أبناء السنّة فإنهم يزجّون في السجون بمجرّد الاشتباه بهم، ويقضون السنوات محبوسين ظلما وعدوانًا دون محاكمة.
وكما في العراق، كذلك في لبنان، يستخدم الطاغية الإيراني أذرعه للاستبداد والإفساد، مستخدمًا سلاح الطائفية البغيض. وقد كان “حزب الله” الأداة التي استخدمها الولي الفقيه لإحكام قبضته على لبنان. فإنّ جماعة، تطلق اسم الله على نفسها، إنْ تبدأ بشعار عبادة الله والتوجه إليه وطاعته، فإنها سرعان ما تؤلّه نفسها وقادتها (والاستبداد هو تأليه للحاكم وعبادة للفرد)، وهذا يضعها ويضع قادتها في خانة المعصومين المنزّهين عن الخطأ. وهكذا يبدأ الكوادر والأتباع بعبادة هؤلاء القادة عوضًا عن الله جلّ وعلا، فيصبح الأسياد خارج أي دائرة من دوائر المحاسبة والمساءلة، لا يُسأَلون عما يفعلون. وقديمًا لما أراد معاوية الاستئثار ببيت مال المسلمين، سمّى هذا المال “مال الله”، فأدرك أبو ذر الغفاري هذه الخديعة وفطن لهذا المكر وقال للخليفة معاوية: المال مال الناس وليس مال الله.
والجماهير اللبنانية عندما خرجت في الأيام والأسابيع الأخيرة في حَراكها الذي سمّاه البعض ثورة وآخرون أطلقوا عليه تسمية انتفاضة، هذه الجماهير أدركت ببداهتها وبعبقريتها الشعبية أن الطائفية هي عدوها الذي يسلب منها حقها في العيش الكريم. لذلك فإنها نبذت الطائفية ورفعت شعارات وطنية وجعلت محور مطالبها العدالة ومكافحة الفساد، والمطالبة بإصلاحات جذرية وعميقة في البنية السياسية اللبنانية.
وبالعودة إلى الآية الكريمة التي بدأنا بها مقالتنا هذه، فإن من دلالات الإعجاز فيها أن الله سبحانه وتعالى قَرَنَ بين العلوّ (الاستبداد بمفهومنا العصري) والطائفية والإفساد. ولو عدنا إلى المثالين اللذين ذكرناهما في مقالتنا، لوجدنا فيهما مصداقًا لثلاثية الاستبداد والطائفية والإفساد. فالعراق ولبنان هما اثنان من أفسد دول العالم على الإطلاق، وهذا الفساد لم ينشأ من عدم، فقد كان وراءه الاستبداد، الذي ما أوتي له التمكين إلا عبر أداة الطائفية. فحيث ما حلّت الطائفية حلّ معها صنواها اللذان لا يفارقانها: الاستبداد والفساد. ومع هذه الثلاثية المقيتة يأتي الخراب والتخلّف والجهل والمرض والفقر. وهذا كله ما دفع شعبيْ العراق ولبنان إلى الثورة، فالطائفية قد حوّلت هذين البلدين العظيمين إلى بقايا وطن.
على أن الطائفية لا تعني بالضرورة الطوائف والمذاهب الدينية، فإنها من الممكن أن تطبّق على كافة الجماعات والأحزاب البشرية دون استثناء. فالعنصرية هي نوع من أنواع الطائفية ووجه آخر من وجوهها البشعة، وقد استخدمها ويستخدمها الاستعمار (الذي هو وجه آخر من وجوه الاستبداد) لفرض سيطرته وبسط سلطانه. وما العنصرية التي عومل بها الأفارقة من قِبَل المستعمر الأوروبي، ما هي إلا مثال ساطع آخر على اقتران الطائفية (العنصرية هنا) بالاستبداد (الاستعمار والإمبريالية هنا).
ففراعنة كل العصور والأمكنة دَيْدَنُهم واحد، وطبعهم لا يتبدل ولا يتغير. إنهم يعملون على زرع بذور الفتنة والشقاق بين أبناء الأرض الواحدة والوطن الواحد، وذلك لكي ينالوا العلوّ في الأرض، وهم بهاتين الصفتين استحقّوا وصف “المفسدين”، لأن العلوّ (الاستبداد والتجبّر والتكبّر) والطائفية لا يمكن أن ينتج عنهما إلا الفساد والإفساد. ولا يسعنا إلا أن تختم مقالتنا هذه بآية كريمة أخرى من سورة القصص، لعلنا نعتبر ونتّعظ: “تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ” (القصص، ٨٣).