العراق: عن تكريس الدولة الطائفية!
الطائفية ليست مجرد خطاب، هي سلوك أيضا، وغالبا ما يفتضح السلوك الطائفي رغم محاولات التمويه. وهذا ما يحدث، فعليا، في العراق ومنذ سنوات، حيث ثمة سعي منهجي لفرض هوية أحادية على الدولة، واحتكار المجال العام لصالح تلك الهوية مع محاولات تغليف ذلك كله بخطابات خادعة وممجوجة عن الوطنية ومشتقاتها مثل الهوية الوطنية والوحدة الوطنية. لاسيما أن هناك وهما لدى الفاعلين السياسيين الشيعة بأن صراع الهويات في العراق قد انتهى إلى انتصارهم النهائي، وأنهم قد «ملكوا» الدولة وسلطاتها، وأن هذا الانتصار يعطيهم الحق بفرض شروطهم على الآخرين، دون أن يحق (للمهزومين) وهم هنا السنة والكرد هذه المرة وليس السنة وحدهم كما كان عليه الأمر من قبل، الاعتراض على تلك الشروط!
وكل من يعري، ويعترض على هذا السلوك الطائفي، هو، بالضرورة، عرضة للاتهام المرسل بالطائفية، في محاولة للتغطية على السلوك الطائفي الذي تمارسه الدولة، مع استخدام أدوات الدولة نفسها من أجل إسكات هكذا أصوات «مزعجة» و«معوقة» «لبناء» الدولة!
لقد كتبت كثيرا حول موضوع الطائفية، وكيف أنها لا تتحقق إلا عبر الدولة نفسها؛ فالشعور أو السلوك الطائفي الفردي، أو حتى الجماعي، مهما كان واضحا، يبقى هامشيا غير ذي قيمة خارج السياق الاجتماعي. وما يحدث في العراق اليوم أن الدولة نفسها قررت الانحياز إلى مدونة دون أخرى، والاعتراف بسردية دون أخرى، وتحاول فرضها على المجال العام. وهذا الانحياز يقوّض منطق الدولة الذي يفترض أنها كيان حيادي تجاه مواطنيه، وبالتالي حيادي تجاه «مدوناتهم» و«سردياتهم» و«عقائدهم» خصوصا في بلد متنوع كالعراق!
فشل مجلس النواب، منذ عام 2008 في تشريع قانون العطلات الرسمية؛ ففي عامي 2008 و 2013 قُرئ مشروع القانون قراءة أولى وثانية لكنه لم يشرّع بسبب الاختلاف حوله. ثم كانت هناك محاولة أخرى في الأعوام 2016 و 2017 و 2018 ولم تثمر عن شيء.
و في 25 تموز/ يوليو 2023 صوّت مجلس الوزراء العراقي على مشروع قانون العطل الرسمية، وقد تضمن هذا القانون أيضا إقرار «يوم الغدير» عطلة رسمية!
إن محاولة فرض غدير خم «عيدا رسميا» رغم الحمولات المرتبطة به، فهو شأن لا علاقة له بالعبادة، بل بالسياسة
وكان أحد أهم أسباب عدم تشريع هذا القانون فيما سبق هو الخلاف حول المناسبات الدينية، تحديدا تلك المتعلقة بيوم ميلاد الرسول ويوم الغدير بين المدونتين السنية والشيعية في تحديد تاريخ هذا الميلاد لأن المذهب السني يجمع على أنه يوم 12 ربيع الأول هو يوم مولد الرسول، فيما يعد المذهب الشيعي يوم 17 ربيع الأول موعدا لمولده! أما فيما يتعلق بيوم الغدير فالمذهبان مختلفان تماما حول الواقعة وحيثياتها التي تحولت من كونها سردية تاريخية إلى سردية عقائدية، تحديدا فيما يتعلق بفكرة الولاية/ الإمامة، والخطاب المرتبط بهما، مما جعلها موضوعا مرتبطا بالكراهية وليس بالاحتفال!
في الأيام الأخيرة دخل موضوع «عيد الغدير» في سياق الصراع الشيعي ـ الشيعي، والمزايدات المرتبطة به، إذ لم يكتف المزايدون بتكريس هذا العيد في مشروع قانون موجود في مجلس النواب فعلا، بل وجدنا دعوة صريحة من السيد مقتدى الصدر بإقرار ذلك في بيان يقول فيه: «بأمر من الشعب العراقي والأغلبية الوطنية المعتدلة بكل طوائفها، يجب على مجلس النواب تشريع قانون بجعل الثامن عشر من شهر ذي الحجة، عيد الغدير الأغر، عطلة رسمية عامة لكل العراقيين بغض النظر عن انتمائهم وعقيدتهم»! وبطبيعة الحال سارع أحد النواب في اليوم التالي إلى تقديم «مقترح قانون عطلة عيد الغدير»!
الجميع يدرك أن الوقائع التاريخية ليست حقائق مجردة، بل هي سرديات تاريخية، والسردية الشيعية المتعلقة بغدير خم تتحدث عن وصية صريحة بالولاية/ الإمامة لعلي بن طالب رضي الله عنه، وأن المسلمين انقلبوا على تلك الوصية يوم وفاة الرسول، عبر ما عرف بحادثة «السقيفة» التي بويع فيها الخليفة أبو بكر الصديق، وهناك إجماع بين علماء الشيعة على تكفير منكر الولاية/ الإمامة (أي تكفير كل السنة) عمليا!
فالكليني في «الكافي» ينقل في باب معرفة الإمام والرد اليه، عن الإمام محمد الباقر قوله: «إنما يعبد الله من يعرف الله، فأما من لا يعرف الله فإنما يعبده ضلالا… [ومعرفة الله] تصديق الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وآله، وموالاة علي عليه السلام والإئتمام بأئمة الهدى عليهم السلام، والبراءة إلى الله عز وجل من عدوهم، وهكذا يعرف الله عز وجل»!
ويقول الشيخ الصدوق في «الاعتقادات»: «واعتقادنا فيمن جحد إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب والأئمة من بعده ـ عليهم السلام ـ أنه بمنزلة من جحد نبوة جميع الأنبياء»!
ويقول الشيخ المفيد في «أوائل المقالات»: «واتفقت الإمامية على أن الدين الحق الذي أنزله الله على رسوله الله (صلى الله على آله وسلم) نصَّ فيه على الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام) وأوجب طاعتهم، فمن أنكر إمامة أي إمام منهم وجحدها، أي ردها، وقال: لا أؤمن بها من دون شبهة أو قصور، فهو كافر عند الله، لأنه راد على الله ما أنزله على رسول الله (صلى الله على آله وسلم) ولم يؤمن بما أمرنا الله به، وهو ضال مستحق الخلود في النار»!
ويقول الطوسي في كتابه «تلخيص الشافي»: «ودفع الإمامة كفر، كما أن دفع النبوة كفر، لأن الجهل بهما على حد واحد»!
فالإيمان بالنسبة إلى هؤلاء المعتمدين جميعا هو «الإيمان بولاية علي والأوصياء» كما يقول الكليني، وأن من جحد إماما «فهو كافر ودمه مباح» كما يقول الصدوق في الكتاب الشيعي الأهم «ما لا يحضره الفقيه»!
كان يفترض، منطقيا، من القائمين على الدولة، عدم الخوض في هكذا قضايا تعيد فتح باب السجال التاريخي والعقائدي السني الشيعي على مصراعيه، والإبقاء على عيد الغدير عيدا فئويا يحتفل به الشيعة العراقيون كما يشاؤون، فذلك حق أصيل لهم لا نقاش فيه. لكن محاولة فرضه «عيدا رسميا» رغم الحمولات المرتبطة به، فهو شأن لا علاقة له بالعبادة، بل بالسياسة! فتشريع قانون يتضمن تحويل هذا اليوم إلى عيد رسمي/ وطني هو عمليا دعوة إلى تبني الدولة للسردية الشيعية وفرضها على الآخرين قسرا، مع ما يتضمنه ذلك من فكر يكفّر نصف مواطنيها!
لا إشكال في أن تبقى هذه المرويات والسرديات التكفيرية الصريحة في بطون الكتب، ولا إشكال في أن تتم دراستها في الجامعات بوصفها جزءا من المدونات الدينية، لكن الإشكال الحقيقي هو إخراجها إلى المجال العام، ومحاولة فرضها على الآخرين ممن لا يؤمنون بها وما يترتب عن كل ذلك من إمعان في الطائفية وتكريس الانقسام المجتمعي، وهذه وصفة للخراب!
كاتب عراقي