كتب عصام عبد الشافي:
العنصرية في تركيا.. الأسباب وآليات المواجهة
تنامت ظاهرة العنصرية في تركيا خلال السنوات الثلاث الأخيرة، ضد المهاجرين واللاجئين بصفة عامة والعرب بصفة خاصة، وأصبحت تشكل تهديدا حقيقيا ليس فقط للوجود العربي في تركيا ولكن لأمن واستقرار الدولة التركية مع تعدد الأسباب الدافعة لهذا التنامي، وتعدد الأطراف المتداخلة في هذه الظاهرة، الأمر الذي يتطلب البحث في خرائط الأسباب والأطراف، من ناحية، وتداعيات وأخطار ذلك من ناحية ثانية، ثم البحث عن آليات المواجهة وكيفية تفادي هذه التداعيات من ناحية ثالثة.
مع تعدد الأسباب الدافعة لتنامي العنصرية في تركيا تتعدد الأطراف المتفاعلة معها توجيها أو احتواء
إن بناء الاستقرار الإستراتيجي في هذه المنطقة، يرتبط في أحد جوانبه بالعلاقات العربية التركية، الرسمية والشعبية، وأي تراجع أو تدهور في هذه العلاقات سيصاحبه تراجع وتدهور في هذا الاستقرار.
في إطار خرائط الأسباب والأطراف، تتعدد العوامل والاعتبارات الدافعة لتنامي العنصرية في المجتمع التركي خلال السنوات الماضية، بعضها اجتماعي وبعضها اقتصادي، وبعضها سياسي داخلي، وكذلك سياسي خارجي، ومن بين هذه العوامل وتلك الاعتبارات:
- وجود فئات من المواطنين الأتراك عنصريين بطبيعتهم، في ظل تنامي النزعات القومية، ضد المهاجرين بشكل عام أيا كانت جنسياتهم.
- بروز فئات من المواطنين الأتراك عنصريين ضد السوريين بشكل خاص، أمام العدد الكبير للسوريين في البلاد بعد 2011، واستخدام المعارضة السياسية هذه الورقة للتصعيد في مواجهة النظام الحاكم.
- تدهور الأوضاع الاقتصادية، مع تراجع قيمة الليرة التركية، وارتفاع مستويات التضخم، وارتفاع أسعار السلع الاستهلاكية، وتوجيه بعضهم الاتهام للمهاجرين أنهم سبب هذا التدهور.
- ارتفاع أسعار إيجار العقارات بنسب تصل إلى 400% عما كانت عليه مقارنة بالعام 2019، على جميع المقيمين، مواطنين أو مهاجرين، وتوجيه الاتهام للعرب، مع ضخامة أعدادهم في تركيا، أنهم السبب وراء ذلك.
- تأزم الأوضاع السياسية في تركيا، ومركزية العملية الانتخابية سواء الرئاسية والبرلمانية 2023، أو البلدية في 2024، واستخدام المهاجرين ورقة انتخابية من جانب كل الأطراف السياسية.
- اهتزاز بل وتراجع السياسات الحكومية في مواجهة المد العنصري، والتوظيف السياسي لملف المهاجرين، في محاولة من الحكومة لاحتواء حالة الغضب سعيا نحو تأمين الفوز في الانتخابات.
- اضطراب السياسات الحكومية فيما يتعلق بالإجراءات القانونية والأمنية في التعامل مع ملف الإقامات والجنسيات وأنواعها، وضوابط تجديدها، مما ترتب عليه حالة من الغموض بين عشرات الآلاف من المقيمين في تركيا، حتى وصل الأمر لعدم قدرة البعض على تسجيل أبنائه في المدارس أو الجامعات بسبب عدم تجديد الإقامة، رغم وجوده في البلاد لسنوات ممتدة.
- وجود فجوة حقيقية بين المسؤولين الأتراك ومسؤولي الجاليات والكيانات الممثلة للمهاجرين واللاجئين في تركيا من كل الجنسيات وليس الجنسيات العربية فقط، هذه الفجوة أعطت الفرصة لخروج مزايدات من بعضهم، تم توظيفها في إطار الحملات التي تستهدف المهاجرين من ناحية، أو تستهدف النظام من ناحية ثانية، نظرا لغياب المعلومات الدقيقة، وبالتالي عدم وضوح الرؤية في التعامل مع الكثير من الملفات التي تخص المهاجرين واللاجئين.
- وجود لجان إلكترونية وقنوات إعلامية لأطراف خارجية تدفع باتجاه تأزيم الأوضاع، سعيا لضرب الاقتصاد التركي من ناحية، وإضعاف النظام القائم من ناحية ثانية، بعيدا عن الحديث عن سياسات التطبيع، والعلاقات الحميمية ولغة الخطاب الدبلوماسي التي تغلف لقاءات مسؤولي هذه الأطراف مع المسؤولين الأتراك، والتى لا أبني عليها كثيرا في تقييم مستويات علاقاتهم مع تركيا، لأن هذه العلاقات محكومة بممارسات تكتيكية وليست برؤى إستراتيجية جادة وموضوعية.
- سياسات التطبيع التركية مع عدد من النظم السياسية في المنطقة، ونكوص تركيا عن الكثير من الشعارات الشعبوية التي تم رفعها خلال السنوات العشر الأولى بعد الثورات الشعبية العربية، هذه الشعارات التي رفعت من سقف توقعات الكثير من المهاجرين العرب تجاه النظام التركي، ومع التراجع فيها والنكوص عن بعضها، تنامت حالة الإحباط وبالتبعية الاحتقان والغضب بين الكثيرين، الذين بدأ بعضهم فعليا في البحث عن بدائل للإقامة في تركيا.
- دخول عدد من “المحللين السياسيين” من العرب والأتراك، من ذوي الحضور الشعبي على شبكات التواصل الاجتماعي على خط الأزمة، مع غياب المعلومات الدقيقة عن حقيقة الأوضاع عند بعضهم، تحت ما يمكن تسميته الإدارة بالعواطف والرغبات، وليس الإدارة العملية الجادة المستندة على وقائع وممارسات على الأرض، وهذا الدخول للأسف أسهم من وجهة نظري في تعقيد الأمور وليس تسويتها.
في تداعيات الأزمة ومآلاتها، وكيفية مواجهتها
إن تنامي العنصرية في أي مجتمع من المجتمعات هو دليل خلل ليس فقط في السياسات ولكن في بنية هذه المجتمعات، ومع العجز عن التعاطي بفاعلية مع هذه الظاهرة، فإن التداعيات لن تقف عند حدود أمن واستقرار النظام السياسي الحاكم في هذه الدول، لكنها ستمتد إلى أمن واستقرار الدول والشعوب، وقدرتها على البقاء موحدة، والتاريخ مليئ بعشرات التجارب حول حالات الانهيار الاجتماعي أمام تنامي العنصرية والقومية وتطرف بعضها في بعض الدول.
لذلك يكون من المهم، سعيا نحو الحفاظ على وحدة الدولة التركية، وسلامة أراضيها، واستقرار أوضاعها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والحيلولة دون النيل من مقدراتها، ونزع كل ما من شأنه النيل من علاقاتها وامتداداتها العربية، تبني عدد من السياسات والإجراءات العاجلة، دون تهاون تحت ضغط انتظار نتائج الانتخابات البلدية المقررة في مارس 2024، وفي مقدمة هذه الإجراءات، تفعيل القانون بشكل واضح وحاسم في مواجهة الجميع دون استثناء، ممن يرفعون شعارات عنصرية أو يدعمونها أو يقفون خلفها، أو يقومون بأي ممارسات من شأنها تأجيج التوتر وعدم الاستقرار في الداخل التركي.
ومن ناحية ثانية، تعزيز الاتصالات المباشرة بين المؤسسات التركية الرسمية ومؤسسات وهيئات الجاليات الأجنبية من المهاجرين واللاجئين العاملة في تركيا، وتوفير البيانات والمعلومات التي من شأنها بناء جسور الثقة، والتعاون في مواجهة هذه الظاهرة، انطلاقا من كون الجميع شركاء في حماية أمن الدولة واستقرارها.
ومن ناحية ثالثة، تعزيز إمكانيات وقدرات الهيئات واللجان المعنية بالتعاطي مع ملفات الهجرة واللجوء والإقامات (بأنواعها) والجنسية والسياحة، وزيادة عدد الناطقين فيها باللغة العربية، استنادا لأن الجنسيات العربية هي الأكثر حضورا على مستوى الإقامات أو السياحة، خاصة أن كثيرا من التقارير الموثوقة تشير إلى تراجع عدد السائحين العرب هذا العام في تركيا، بل وتراجع عدد المسجلين في الجامعات التركية هذا العام من العرب.
وبعد …
إن بناء الاستقرار الإستراتيجي في هذه المنطقة، يرتبط في أحد جوانبه بالعلاقات العربية التركية، الرسمية والشعبية، وأي تراجع أو تدهور في هذه العلاقات سيصاحبه تراجع وتدهور في هذا الاستقرار.
من المؤكد أن تركيا لا يمكنها الاستغناء عن علاقاتها السياسية والاقتصادية مع العرب، وفي المقابل أيضا الكثير من العرب، شعوبا وحكومات في حاجة إلى علاقات فاعلة ومستقرة مع تركيا، ومع هذه الحاجة المتبادلة، يجب أن تكون هناك معالجات راشدة لكثير من قضايا وإشكاليات هذه العلاقات، وفي مقدمتها الآن قضية العنصرية.