العنصريّة والطّائفيّة عاصفةٌ تدمّر البلاد بصمتٍ

بقلم: أميرة عليّان تبلو

في كلِّ مجتمعٍ يبحث عن نهوضه، تقف العنصريّة والطائفيّة كجدارٍ صلبٍ يعيق العبور إلى المستقبل. هما منظومتان فكريّتان خطيرتان تنبتان في العقول قبل أن تظهر في السّلوك، وتتحوّلان مع الوقت إلى عاصفةٍ صامتةٍ قادرةٍ على تمزيق أيّ مجتمع مهما كان قويّاً.

تبدأ العنصريّة من فكرةٍ صغيرة يزرعها خطابٌ متشنّج أو تربية منحازة، ثمّ تكبر لتصبح نظرةً دونيّةً تجاه الآخر المختلف لوناً أو لغةً أو أصلاً أو ثقافة. أمّا الطّائفيّة فتولد حين تتحوّل العقيدة الدينية أو المذهبية من مساحةٍ للسّلام والرّوحانيّة، إلى سلاحٍ حادّ يُقسّم أبناء الوطن الواحد إلى كتلٍ متصارعة. كلاهما—العنصرية والطائفية—يستندان إلى الإقصاء، إلى فكرة «نحن» مقابل «هم»، وهي فكرة إذا سكنت العقول أطفأت فيها نور العقل والإدراك.

لا يوجد مجتمع في التّاريخ صعد إلى الحضارة وهو محاصر بالكراهيّة. فالتّنوع كان دائماً وقود الإبداع، والاختلاط مصدر القوّة. المدن الّتي ازدهرت عبر القرون لم تزدهر لأنّها كانت بلون واحد، إنّما لأنّها احتضنت اختلافات النّاس، وحوّلتها إلى فسيفساء إنسانيّة جميلة. على العكس تماماً، فإنّ الدّول الّتي سقطت في وحل النّزاعات الطّائفيّة كانت نهاياتها مأساويّة: اقتصاد منهك، هجرة جماعيّة، انهيار مؤسّسات، وانتشار خطاب الثأر والانتقام.

إنّ أخطر ما في العنصريّة والطائفيّة أنهما، تؤذيان المختلف، وتهدمان المجتمع من الدّاخل؛ فالمواطن الّذي يشعر أنّه غير مرغوب فيه أو مهدّد بسبب هويّته لن يشعر بالانتماء، بل سيبحث عن الهروب. تتفكّك الوحدة الوطنية، وتتحوّل البلاد إلى جزرٍ متباعدة. ويبدأ المجتمع بخسارة طاقاته وخبراته، لأنّ الكفاءات لا تنمو في بيئة الخوف والتمييز.

خسائر العنصريّة اقتصاديّة وفكريّة أيضاً. فالشّركات والمجتمعات الّتي تسمح بالتّمييز تفقد قدرتها على الإبداع، إذ إنّ الإبداع يحتاج إلى بيئة آمنة تحترم الاختلاف وتشجّع على النّقاش. الطّائفيّة أيضاً تُغلق أبواب الحوار، وتجعل الحقيقة حكراً على فئةٍ واحدة، ما يحوّل المجتمع إلى قوالب جامدة تمنع التّجديد وتخنق التّطوّر. مجتمعٌ منقسم لا يمكنه مواجهة أزماته، ولا يمكنه بناء مستقبل متعافٍ.

ومن المؤسف أنّ الكثير من الصّراعات في عالمنا العربيّ نابعةٌ من هذه الأمراض. نعيش اليوم نتائج عقودٍ من التّجييش الطّائفيّ والتّحريض العنصريّ، الّذي حوّل أبناء البلد الواحد إلى خصوم، رغم أنّهم يتشاركون الأرض واللّغة والتّاريخ والآلام والأحلام ذاتها. لقد استطاعت قوى خارجيّة وداخليّة استغلال هذه الفجوات لتفتيت المجتمعات، لأنّها تدرك أنّ الأمّة الموحّدة يصعب كسرها، بينما الأمّة المنقسمة تسقط بلمسة.

لكنّ العلاج ليس مستحيلاً، يبدأ الشّفاء من التّربية على قيم المواطنة، وتعليم الأطفال أنّ الاختلاف طبيعي وليس تهديداً. يجب أن تنفتح المدارس على قيم العدالة والتّسامح، وأن تخفّف وسائل الإعلام من خطاب الكراهيّة، وأن تتبنّى الدّول قوانين صارمة تمنع التّحريض وتعاقب كلّ من يزرع سموم التّفرقة. كما أنّ دور المجتمع المدنيّ أساسيٌّ في بناء جسور الثّقة بين المكوّنات المختلفة.

نحن في حاجة إلى الوعي بأنّ الانتماء الحقيقيّ ليس لطائفةٍ ولا لون ولا عائلة، إنّما للإنسان أوّلاً، وللوطن الّذي يجمعنا ثانياً. وكلّما توسّعت دائرة الانتماء ضاقت مساحة الكراهية، وكلّما تعلّم النّاس احترام اختلاف بعضهم ازدهرت المجتمعات وهدأت النفوس.

إنّ مستقبل أوطاننا يتوقّف على قدرتنا في محاربة هذه الآفات بوعي، وبخطابٍ إنسانيّ يرفع من قيمة الإنسان لا من قيمة الانقسام. فالمجتمع الّذي يتجاوز العنصريّة والطّائفيّة لا يربح وحدته فقط، وإنّما يربح كرامته، واستقراره، وحقّه في غدٍ يليق بأبنائه.

*جميع المقالات المذكورة في الموقع تعبر عن رأي أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي المنظمة