“المصريون البيض”.. عن التمايز الطبقي في مصر

“المصريون البيض”.. عن التمايز الطبقي في مصر

 

تنطوي المجتمعات العربية على قدر عالٍ من الانقسامات المناطقية والعشائرية والجهوية والعرقية والثقافية والطائفية، إضافة إلى ثنائيات الريف/المدينة، البدو/الحضر، وسوى ذلك. وفي سياق المعرفة البسيطة والمتابعة غير المتخصصة لبعض المجتمعات العربية، كتبت  مرة عن المجتمع السوري وتنوعاته.

وفي تقديري، أن المجتمع المصري هو أقل المجتمعات العربية انقساماً، وأكثرها تجانساً. وعلى الرغم من حضور التنوع المجتمعي وفكرة المركز والأطراف، والريف والمدينة، وتقسيمات، مثل: صعيدي، نوبي، عرب “كبدو سيناء”، فلاحين، وسوى ذلك، لكنها لا تبدو انقسامات عميقة، والمجتمع المدني قادر على صهر معظم هذه التنوعات والتخفيف من حضورها والحد من خلق تراتبية اجتماعية بناءً عليها.

لكن المَلمَح الأهم – في تقديري – في المدينة المصرية، هو الانقسام الطبقي، وأحسب أن التفاوت والانقسام المرتبط بالوضع المادي/الثقافي الموجود في مصر هو الأعلى عربياً، وهناك مئات الإشارات والمعالجات له في الكتب والروايات والأفلام والمسلسلات والأغاني، ويمكن أن يلحظه حتى الزائر لأول مرة. هنا سأشير إلى مجموعة شواهد ومشاهدات شخصية تشير إلى هذا المعنى.

في كل مدن العالم الكبرى هناك أحياء فقيرة وأخرى غنية، حتى العشوائيات كتجمع سكاني بلا تخطيط – وغالبه تمدُّد غير مرخّص على أراضٍ زراعية – موجود في كثيرٍ من مدن الدول الفقيرة وبنسب متفاوتة. لكن اللافت في القاهرة ليس وجود أحياء تقليدية تُمثل طبقات وسطى عليا وغنية “مثل أحياء الزمالك والمعادي وجاردن ستي في بداية القرن العشرين، ثم مصر الجديدة ومدينة نصر في النصف الثاني من القرن ذاته، وأخيراً أحياء التجمع الخامس و6 أكتوبر، وسواها في العقود الأخيرة”، بل وجود المجمّعات السكنية “كمباوند” والمدن السكنية المغلقة “مجمّعات ضخمة”.

ذلك النوع من المجمّعات موجود أيضاً في مدن كثيرة في العالم، ولكنه في القاهرة يتميز بأمور، أهمها: كثرتها، وضخامتها، وارتباطها بمناطق طرفية بعيدة عن المناطق الفقيرة، وكون سكانها يمثلون طبقة اقتصادية محددة “وسطى عليا وغنية”، وغالبهم ينتمون إما إلى فئة رجال الأعمال، أو موظفين كبار في القطاع الخاص أو في أجهزة الدولة، أو ممن يعملون في الخليج، أو لهم مصادر دخل خارجية. وحتى هذه المجمّعات تتفاوت في مستواها الطبقي، بين مجمّعات باهظة الثمن وعالية الرفاهية وشديدة التأمين، وسكانها ينتمون إلى طبقة الأثرياء والمسؤولين “القطامية هايتس مثلاً” ومجمعات أخرى كثيرة أقل كلفة ورفاهية.

المَلمَح الأهم لهذه المجمّعات هي أنها تُشكل فكرة “الحماية”، وسط مدينة ضخمة ممتلئة بالعشوائيات والفقر. وتَكرّس هذا التصور أكثر بعد ثورة “25 يناير” وما تلاها من فترات فوضى واضطراب، والشعور بأنها قد تتكرر، فلا بد من وجود مساحة آمنة ومحميّة يعيش فيها أبناء هذه الطبقة بعيداً عن ثورة أو فوضى محتملة دوماً. وقد توّج النظام المصري هذه الفكرة بإنشاء العاصمة الإدارية الجديدة، مدينة كاملة مسوّرة ومحميّة وسط الصحراء، وبعيدة عن القاهرة المكتظّة، وتحوي أبرز أجهزة الدولة البيروقراطية والأمنية، ويسكن فيها نخبة المجتمع، وكبار موظفي الدولة ورجال الأعمال.

وعلى أطراف القاهرة، تكون – عادة – المجمّعات السكنية المتوسطة والصغيرة أكثر حماية وتجانساً طبقياً، ولا يدخلها سوى السكان وضيوفهم وبعض العاملين في المجمّع، كرجال الأمن والمزارعين المسؤولين عن المساحات الخضراء. أما المجمّعات الضخمة التي يُطلق عليها اسم مدينة “كمدينة الرحاب، ومدينتي”، فهي مُدن صغيرة مغلقة ولها بوابات خاصة، تضم عشرات آلاف الوحدات السكنية “في الرحاب قرابة الـ ٤٠ ألف وحدة سكنية، وفي مدينتي، وفق الخطة، أن تصل إلى ١٢٠ ألف وحدة سكنية” ويسكن فيها مئات الآلاف، وتحتوي على أسواق داخلية كبيرة، ومولات، وعدة مجمعات لمطاعم ومقاهٍ، وسلسلة بنوك، وعدة مدارس أجنبية لكل المراحل التعليمية، ونوادٍ، ومعاهد موسيقية، ودوائر حكومية مثل الشهر العقاري والسجل المدني، ومراكز شرطة. وبسبب ضخامتها والاحتياج إلى مرافقها، يرتادها يومياً آلاف العمال للعمل في المطاعم والمولات وبقية المرافق. ويأتون غالباً من أحياء فقيرة بعيدة للعمل داخل المدينة، ثم العودة مساءً إلى منازلهم.

“الناس كلها شبه بعض”

زرت عدة مجمّعات في القاهرة، منها مدينتا “الرحاب” و”مدينتي”، كذلك حرصت على متابعة صفحة السكان لأحد هذه المجمّعات “الرحاب” بفيسبوك، بهدف رؤية نوعية الموضوعات والنقاشات والمشاكل المطروحة، وكان بعضها لافتاً بالفعل. منها مثلاً، اعتياد تحميل مسؤولية أي تعديات أو سرقات تحصل في المجمع للعمال الذين يأتون من الخارج.

قبل فترة كتب أحد السكان منشوراً تكلم فيه أنه اشترى “عربية” جديدة بمليوني جنيه، وكان يوقفها بجوار مقر سكنه، وخرج ذات صباح وإذ به يجد أن هناك مَن خدَشَ السيارة بمسمار بشكل متعمَّد، وبعد أن أبدى استياءه من ذلك، ختم كلامه بعبارة لافتة، وهي أنه متأكد أن من فعل ذلك لا يمكن أن يكون من سكان الرحاب، في إشارة ضمنية إلى العمال، وأن دوافع هذا الفعل نِقمة طبقية.

أيضاً يلفت المتابع ظاهرة كثرة الكلاب في بيوت السكان – وهو مظهر طبقي مرتبط بمستوى اجتماعي متحرر – على الرغم من أنها شقق سكنية، وكثير من الشكاوى مرتبطة بكون الكلاب تنبح طوال الليل ولا يستطيع الجيران النوم، وهو مظهر لا تجده، بهذا الحجم، حتى في الأحياء الأوروبية الغنية أو في الأحياء البرجوازية العلمانية في مدينة إسطنبول مثلاً.

مظهر آخر تلمسه بوضوح في الصفحة، التمييز بين المالكين والمستأجرين باعتبارهما مستويين اجتماعيين مختلفين، فتجد أحياناً شكوى من أحدهم في الصفحة على سلوكٍ ما قام به أحد السكان، يختمه بـ: “وللأسف اتضح أنه مستأجر مش مالك”. ونتج من ذلك، نشوء صفحة خاصة للمالكين في مدينة “الرحاب” مختلفة عن صفحة السكان.

في أيار/مايو ٢٠٢٠ نُشر فيديو تسزيقي لمدينتي ، وتضمن صوراً ترويجية لمرافق المدينة والشوارع والمساحات الخضراء ومستوى الأمان، مع أحاديث لمجموعة – يُفترض أنهم من السكان – تُشيد بالمدينة ومستوى الخدمات والراحة فيها، وتضمّن كلامهم عبارات ذات دلالة تؤكد فكرة الخصوصية، والعزلة، والطبقية، مثل: “مش مضطرين كتير نطلع من مدينتي”، “ممكن أقعد سنة كاملة مطلعش منها”، “الناس كلها شبه بعض والـ community حلو أوي”، الأمر الذي أثار جدلاً واسعاً في المجتمع المصري.

وتتراجع علاقة كثيرٍ من سكان هذه المجمّعات والأحياء الحديثة ببقية القاهرة ومناطقها الداخلية، ولا غرابة في أن تسمع أحداً يتحدث عن أنه لم يزر وسط البلد منذ أعوام. الممثل أمير كرارة تحدث مرة في برنامج تلفزيوني أنه أخذ ابنه إلى داخل القاهرة – لزيارة جده – لأول مرة وعمره ثمانية أعوام، ووصف كيف كان مُندهشاً وهو يرى الأحياء الفقيرة وزحمة الشوارع والناس.

مرة، وفي أحد مساءات القاهرة، أوقفت تاكسي في وسط البلد وسألته إن أمكنه أن يأخذني إلى التجمع الخامس، قال لي: “ممكن، ولكنني لا أعرف الطريق إلى هناك ولم أذهب من قبل”. قلت له: “أنا أعرف الطريق، وركبت معه”. عندما وصلنا، تفاجأتُ من دهشة السائق مما رأى، فلل وعمائر حديثة وشوارع واسعة ومراكز تسوق وسيارات فخمة، قال لي: “مين دول يا باشا؟ دول مصريين؟”. قلت له: “معقول تكون سواق تاكسي وماجتش هنا قبل كده؟”. قال: “لا والله دي أول مرة، ومعرفش الحتت دي، بس الناس دول عايشين بعالم تاني، ومنعرفش عنهم حاجة”.

الفئات الآمنة في مصر

التمايز الطبقي في مصر ليس مجرد سلوك عفوي أو فرز اجتماعي طبيعي، بل نمط ممنهج ترعاه السلطة، وتكرسه الطبقة الغنية ذات النفوذ في البلد، أو “الفئات الآمنة” كما سمّاهم خالد صالح في فيلم ” فبراير الأسود”.

للرئيس المصري عبدالفتاح السيسي تصريح جوهري في هذه المسألة، يقول بأنه سيهتم بتطوير ١٠%؜ من المصريين وهم من سيقومون بسحب باقي فئات المجتمع، ما يشير بوضوح إلى أن الفرز والتمايز سلوك ممنهج وبرعاية الدولة وليس عفوياً. ولا يقتصر الأمر على تصريح، بل كثير من المشروعات والقرارات تؤكد هذا النهج وأنه قائم منذ أيام حكم حسني مبارك. فالمدن والمنتجعات الساحلية الحديثة مثل الغردقة والجونة على ساحل البحر الأحمر، والعين السخنة في رأس خليج السويس، ومارينا العلمين ومنتجعات عديدة على ساحل البحر المتوسط، وسواها، هي في الأساس منتجعات للمصريين الأثرياء لا الأجانب، ليس كمثل شرم الشيخ المخصص للسياح الأجانب والأوروبيين بشكل أساس. وليس أخيراً مشروع خط القطار السريع الذي سيكلف الخزينة المصرية قرابة الـ ١٥٠ مليار جنيه، ويبدأ بمنتجع العين السخنة الساحلي، مروراً بالعاصمة الإدارية الجديدة، وينتهي عند منتجعات العلمين على الساحل الشمالي، وعلى الرغم من مروره بجوار العاصمة القاهرة، إلا أن مسار الخط وُضِع بعيداً عنها نسبياً جنوب منطقة حلوان. هذا في الوقت الذي تعاني فيه شبكة القطارات المصرية تردّياً واهتراءً وانخفاضاً في مستويات الأمان، ولا يكاد يمر شهر من دون حوادث اصطدام فادحة ودموية.

وفي جانبٍ آخر، لو عملتَ بحثاً واستطلاعاً حول عائلات ضباط الشرطة والجيش، والمستشارين والقضاة، ووكلاء النيابة، ومجموعة من الفئات الوظيفية العليا في الدولة، ستجد أن آباءهم وعوائلهم تنتمي إلى فئات شبيهة. فلا يمكن أن تُقبَل في سلك النيابة أو القضاء أو أن تكون ضابطاً في الشرطة- مهما كنتَ مجتهداً ومتفوقاً- وأنت تنتمي إلى فئات اجتماعية فقيرة. ولا يخضع الأمر لتحليل وتقصٍّ، بل ثمة تصريحات عديدة تؤكد هذا الأمر، كتصريح وزير العدل التالي:

مظهر آخر للتمايز الطبقي لا أظنه موجوداً عربياً سوى في مصر، وهو فكرة “النادي”. النادي في مصر يتجاوز فكرة الاشتراك في نادي رياضي للتمرين والترفيه وتزجية الوقت، بل هو “تصنيف طبقي”، تحرص على الانتساب إليه الطبقات العليا والوسطى العليا، وينشده أفراد الطبقات الوسطى طمعاً في الترقي الطبقي.

عضوية النادي في مصر لا تتم عبر دفع اشتراك شهري أو سنوي كما في بقية دول العالم، بل عبر دفع مبلغ كبير لمرة واحدة- وأحياناً يمُكن تقسيطه وكأنك تشتري عقاراً- في سلوك ينطوي على ضمان الملاءة المالية للمشترك، وقيمة الاشتراك تعادل أحياناً قيمة وحدة سكنية في حيٍ حديث، فمثلاً قيمة الاشتراك في نادي الجزيرة مليونا جنيه “130 ألف دولار” مع وجوب تقديم لائحة طويلة من الأوراق والإثباتات، وكذلك اجتياز المقابلة الشخصية. أما قيمة الاشتراك في النادي الأهلي الفرع الرئيس فهي 750 ألف جنيه، وفي الفروع بين 500 ألف و250 ألف جنيه. هذه الأرقام تخص المُنتسب العادي، أما حَمَلة الشهادات العليا فتقل قيمة الاشتراك لهم بنسبة تصل إلى 30%؜. والأمر ذاته في نادي الصيد ونادي الزهور ونادي سموحة ونادي الزمالك وسواها. وهناك نوادٍ تُعبّر عن مستوى أقل نسبياً في التكلفة والشروط، مثل وادي دجلة، والمقاولون العرب، والشمس، وسواها؛ فالنادي في مصر يُعد “وسطاً اجتماعياً”، يمكن أن تتعرف فيه إلى “المشابهين لك” اقتصادياً وتعليمياً وطبقياً.

أما المدارس الخاصة الأجنبية في مصر فلها قصة مختلفة؛ فتسجيل طفلك في بعض هذه المدارس لا يرتبط فقط بقدرتك على دفع رسومها المرتفعة، بل لا بد من إجراء مقابلة شخصية للأب والأم للتأكد من مناسبتهما اجتماعياً: “طبيعة عملهما، والهندام والشكل، ومستوى الدخل، ومستوى تعليمهما، وهل يتحدثان لغات أخرى، وسوى ذلك”. فلو كنتَ حِرفياً وتعليمك متوسطاً، ولكنك تملك معامل وورشاً ولديك عقارات وفي حسابك عشرات الملايين، فقد لا تكون لائقاً اجتماعياً بضم طفلك إلى تلك المدارس.

أما الجامعات فمظهر آخر؛ فالمتفوقون من أبناء الطبقات الوسطى والفقيرة هدفهم الحصول على قبول في جامعة القاهرة أولاً ثم عين شمس، أما غير المتفوقين فخياراتهم تتجه إلى جامعات الأقاليم: حلوان، وطنطا، والزقازيق، وسواها. فيما يتجه أبناء الطبقات العليا إلى الجامعة الأمريكية أولاً، ثم إلى الجامعتين البريطانية والألمانية، ومقرات جميع هذه الجامعات الخاصة، باهظة التكاليف، في التجمع الخامس.

التميُّز.. النقد الاجتماعي للحكم

في شتاء ٢٠١٦، وبينما كنت أتجول في حي الزمالك، إذ بملصقات تملأ عدداً من الحوائط والأعمدة في شارع 15 مايو، تحذر سكان الحي من بناء محطة مترو في منطقتهم، وتدعوهم إلى الاحتجاج ورفع اعتراضات. وعلى الرغم من أن العزم على افتتاح محطة مترو عادة ما يكون خبراً ساراً لأهالي أي منطقة، إلا أنه لم يكن كذلك بالنسبة إلى كثيرٍ من سكان حي الزمالك. وقد بدأت القصة منذ 2014، وربما قبل ذلك، بعد الإعلان عن أن خط المترو الجديد ستكون له محطة توقف في الزمالك.

والزمالك هو أحد أشهر أحياء البرجوازية المصرية القديمة، وهو حي قديم وجميل، شوارعه واسعة، وأشجاره كثيفة، وفيه فلل ومبانٍ كثيرة مبنية على الطراز الأوروبي، ويسكنه حالياً كثير من الأجانب، إضافة إلى مقرات عدد من السفارات، ومراكز ثقافية، ومسارح، ومعاهد موسيقية، وصالات عرض للأعمال الفنية، وفي جنوبه يقع مقر الأوبرا، ونادي الجزيرة، وبرج القاهرة. والحي يقع في جزيرة وسط النيل؛ حيث يحيط به فرعا النيل من الجانبين، ولا تصل إليه سوى بالعبور على الجسور المشيّدة فوق فرعيّ النهر، وهو ما أضفى على المكان شيئاً من الخصوصية والعزلة النسبية عن بقية أحياء وسط القاهرة، فلا يأتي إلى الزمالك سوى من يقصدها، فهي ليست محطة عبور، ولا ملاصقة لأحياء أخرى.

الاعتراض العلني المكتوب في المنشورات المُلصقة يتمثّل في أن بناء محطة مترو في الزمالك سيُضعف من تماسك طبقات التربة أسفل الحي، الأمر الذي قد يعرِّض مباني الحي للخطر. وعلى الرغم من وجاهة هذا الاعتراض – مع أنه ينطبق على أحياء كثيرة في القاهرة – إلا أن السبب الحقيقي لدى كثيرٍ من المعترضين، هو أن محطة الزمالك ستكون نقطة وصل بين محطتين تقع كلتاهما في منطقة شعبية “بين الكيت كات ومثلث ماسبيرو قبل هدمه”، الأمر الذي سيجعل من هذا الحي، الخاص والهادئ والمعزول، محطة عبور لآلاف الناس من الأحياء الشعبية، وهو ما سيُغيّر من طبيعة الحي، وخصوصيته، وتركيبته السكانية، وطبقته الاجتماعية.

وفي قصة أخرى، روى لي صديق، أن أحد معارفه وهو من سكان إمبابة – وهو حي شعبي ضخم ومكتظ – يسكن بجوار شارع السودان الذي يفصل بين “إمبابة” وحي “المهندسين” المعروف بكونه أحد أحياء الطبقات الميسورة، والمُفضّل لدى فئات من الخليجيين. فاستطاع عبر واسطات وعلاقات ومبالغ مالية أن يُسجل موقع سكنه على الضفة الأخرى من شارع السودان “على ضفة المهندسين بدل إمبابة”. وعندما سألته عن السبب، قال: “عندما تدخل مصلحة حكومية أو يوقفك كمين شرطة (نقطة تفتيش)، فغالباً سيكون هناك فرق في التعامل معك بين أن يكون مكتوباً على بطاقتك أنك من سكان المهندسين أو إمبابة”.

iStock/ عيد الحب في مصر

في عام 2003 صدر “الميثاق العالمي للحق في المدينة”، وهو تتويج لجهود ونضالات وعمل جمعيات ومفكرين من أجل لفت الانتباه إلى حجم التفاوت في المدينة الحديثة، التي صارت تُنتج الفقر، وتكرس اللامساواة، وينعزل فيها الأثرياء وسط قلاع محمية ومرفهة. وكان من رواد هذه النضالات، الفيلسوف الفرنسي الماركسي هنري لوفيفر الذي أصدر عام 1968 كتابه الشهير “الحق في المدينة”، وأطلق فيه مقولته التي صارت شعاراً يتردد وسط الجموع: لماذا نُحرم من العيش في مدينة مُصممة على هوى قلوبنا؟ وفي 2012 أصدر تلميذه ديفيد هارفي كتابه “مُدن مُتمردة.. من الحق في المدينة، إلى ثورة الحضر” الذي ترجمته الشبكة العربية للأبحاث والنشر عام 2017.

أما بيير بورديو، عالم الاجتماع الفرنسي الشهير، ففي كتابه الضخم “التميُّز.. النقد الاجتماعي للحكم”، الذي صنفته الجمعية العالمية للسوسيولوجيا أحد أفضل عشرة كتب في علم الاجتماع في القرن العشرين، تحدث بتحليلٍ موسع عن ظاهرة تمايز الطبقات الاجتماعية، وهو يختلف مع المنظور الماركسي للطبقات الذي يتكئ فقط على التفسير الاقتصادي، ويقدم قراءة جديدة لماكس فيبر، يرى فيها أن صراع الأفراد داخل المجتمع يرتكز على فرز ثقافي، إضافة إلى الفرز الاقتصادي، وأنهم يتصارعون ضمن حقول وفضاءات ثقافية مجتمعية مختلفة حول مواقع السيطرة والحظوة والتميز الاجتماعي والطبقي، من خلال ما يملكونه من رأس مال ثقافي واقتصادي، لذلك كي يصنع الإنسان حضوره في المجتمع، فلا بد من أن يتميز عن الآخرين اجتماعياً وثقافياً واقتصادياً ولغوياً ورمزياً. مثل مستوى ونوع التعليم، وطريقة الحديث والمفردات المستخدمة ودمج لغتين أو أكثر في أثناء الكلام، وطريقة اللباس والاهتمام بالموضة، ونوعية الأكل، ونوع الموسيقى، وسوى ذلك من صراع مستمر حول شروط إعادة إنتاج التراتبيات الاجتماعية؛ حيث تؤدي الموارد الثقافية المتنوعة التي يملكها الفاعلون الاجتماعيون دوراً أساسياً في تحديد مواقعهم الاجتماعية وأوضاعهم.

توربينات ضخمة، أهلية ورسمية، تعمل في مصر على تكريس طبقة “المصريين البيض”. خاصة مع ارتفاع نسب الفقر، واتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء، وتقلص مساحة الطبقة الوسطى، والنزوح المتزايد للفقراء من الريف إلى المدينة، ورغبة الطبقات العليا بالانعزال، والعيش في جيتو يمنحهم الشعور بالأمان والرفاهية، وسط مستقبل لا يمكن ضمان استقراره.

*جميع المقالات المذكورة في الموقع تعبر عن رأي أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي المنظمة