كتب ياسين التميمي
المناسبات الطائفية تقوض السلام الاجتماعي في العاصمة اليمنية
نجح الحوثيون هذه السنة، كما في السنوات الثماني التي مضت من تاريخ سيطرتهم على العاصمة اليمنية صنعاء، في استدعاء حصتهم الجماهيرية في هذه المدينة وفي عدد من المدن الواقعة تحت سيطرتهم، للمشاركة في مسيرة عاشوراء السنوية التي لم يشهدها اليمن حتى في العهد الإمامي “الزيدي” البائد، لتتحول هذه التظاهرة إلى عنوان للعهد المظلم الذي أسدلَ ستاره على صنعاء والجزء الأكبر من شمال اليمن منذ الانقلاب على السلطة الشرعية في 21 أيلول/ سبتمبر 2014.
سنة بعد أخرى تشهد العاصمة صنعاء تراكماً في الممارسات ذات المسحة الطائفية المنفرة، التي تكاد تحول المدينة الموحدة والمنسجمة إلى نسخة بائسة أخرى من كربلاء، وتحول جزءا من سكانها إلى قطيع مستنفر يصارع طواحين الهواء، مدفوعين بثأر أسطوري بامتياز متصل بصراع غادرت أطرافه الحياة الدنيا قبل 1400 عاماً.
وقعُ مناسبةٍ طائفيةٍ كهذه على الغالبية المليونية من سكان صنعاء شديدٌ للغاية، فهم يرون المسيرات الطائفية للحوثيين تدمر حياتهم المبنية على التعايش والقبول بالآخر، وتحول مدينتهم المسالمة إلى بؤرة صراع مثقلة باستحقاقات “معركة الطف”، التي شهدت مقتل الحسين، سبط رسول الله، وهو في طريقه لتجريد ابن عمه يزيد من الخلافة؛ تلك المعركة التي لم يشهد لها التاريخ مثيلاً من حيث حجم المغامرة وسوء التقدير، والاتكاء على جيش غالبيته العظمى تخلت عن قائدها وتركته وحيداً يواجه قدره المحتوم.
يستغل الحوثيون فترة السلام المقترنة بحزمة امتيازات عززت اقتصاد حربهم ورسخت سلطتهم، في بناء النموذج الطائفي الخاص بهم، وهو أنموذج يقترب في هيكله الحركي وجوهره العقائدي الحاقد على تاريخ المسلمين من النموذج الاثني عشري
يستغل الحوثيون فترة السلام المقترنة بحزمة امتيازات عززت اقتصاد حربهم ورسخت سلطتهم، في بناء النموذج الطائفي الخاص بهم، وهو أنموذج يقترب في هيكله الحركي وجوهره العقائدي الحاقد على تاريخ المسلمين من النموذج الاثني عشري الذي يقف على هرمه في عصرنا هذا آية الله العظمى علي السيستاني من “حوزة النجف”، وآية الله العظمى وولي الفقيه علي خامنئي و”حوزة قم” في إيران.
وتكمن الخطورة اليوم في أن الأمر لم يعد يقتصر كما كان خلال العقود الماضية على جهود بعض البؤر الزيدية السلالية المتطرفة، بل يتكئ على نفوذ الدولة وسلطتها وإمكانياتها وعنفها وجبروتها وسجونها، مضافة إليها جميعاً الخديعة البصرية التي يتكئ عليها الحوثيون في جر جزء من الشعب اليمني إلى نموذجهم الطائفي، متخفين خلف شعارات محاربة الاستكبار والطغيان العالمي، حيث يمثل الحاكم المسلم “السني” النموذج الواضح للطاغية وللاستكبار، لأنه ببساطة أخذ ما ليس له من شأن الحكم الذي هو منحة إلهية لفئة محددة من الناس كما يزعمون.
يأتي ذلك في وقت فشلت هذه الفئة الطائفية والسلالة في إثبات صلتها العضوية بقيم الدين الإسلامي السمحة وبأهدافه وجوهره، بما هو دين عالمي يُعلي من قيمة الإنسان ويُذيب الفوارق بين الناس وينبذ الاستعلاء الطبقي، ويطلق العنان للناس في ابتكار الأسلوب الأمثل لإدارة شؤونهم في إطار من قيم العدل والحرية والمساواة.
طقوس عاشوراء تمس كرامة الشعب اليمني الشهم الكريم، الذي لا تليق به هذه الطقوس، فهي أسوأ مظهر من مظاهر فقدان الكرامة الإنسانية، حيث يتحول الإنسان إلى حاقد وبكاء ولطَّامْ ومازوخي، في مشهد مكثف تغذّيه سردية مليئة بالأكاذيب والادعاءات الباطلة التي تجرد النوايا الحسنة ذات الطابع السياسي والقيمي للإمام الحسين من مضمونها تماماً.
إن مشهد عاشوراء الصارخ في صنعاء، دليلٌ كاشفٌ على الطبيعة السيئة للتدخل الإقليمي في الشأن اليمني سياسياً ومن ثم عسكرياً، وهو التدخل الذي تأسس على نوايا مبيّتة بوضع هذا الفصيل الطائفي (الحوثيين) منذ البداية في قلب المشهد السياسي والأمني والعسكري اليمني، عبر تمكينه من الوصول إلى صنعاء تحت مظلة الرئيس المخلوع عبد ربه منصور هادي، واستثمار هذا الفصيل في تفكيك المشهد وإعادة صياغة مستقبل اليمن
إن مشهد عاشوراء الصارخ في صنعاء، دليلٌ كاشفٌ على الطبيعة السيئة للتدخل الإقليمي في الشأن اليمني سياسياً ومن ثم عسكرياً، وهو التدخل الذي تأسس على نوايا مبيّتة بوضع هذا الفصيل الطائفي (الحوثيين) منذ البداية في قلب المشهد السياسي والأمني والعسكري اليمني، عبر تمكينه من الوصول إلى صنعاء تحت مظلة الرئيس المخلوع عبد ربه منصور هادي، واستثمار هذا الفصيل في تفكيك المشهد وإعادة صياغة مستقبل اليمن، تأسيساً على عقدة الخوف من سيطرة الحوثيين وعودة الإمامة الزيدية شمالاً ومشروع المجلس الانتقالي للانفصال جنوباً.
ليس لديّ أدنى شك في حقيقة أن جماعة الحوثي باتت تمتلك، بعد هذه السنوات من الصراع، أكثر مما لدى خصومها من إمكانيات عسكرية ومادية ولوجستية ودعم إقليمي، ولكن أيضاً ليس لدي أدنى شك في حقيقة أن هذه الجماعة قد قربت إيران كثيراً من الحدود السعودية بل من العمق السعودي، وأعطتها الفرصة للتحكم الجيوسياسي في خارطة المنطقة ومواردها وفي طموحات دولها، وليس هناك أبلغ من الأدلة التي أنتجها مسار الحرب العابرة للحدود طيلة السنوات الماضية.
الهيمنة الطائفية، لن تكون فقط، سبباً في تفاقهم الصراع الذي يشل حركة دولة مثل اليمن ويعطل قواها، بقدر ما أنتجته وستنتجه من استحقاقات شديدة الخطورة على حاضر ومستقبل المنطقة، فليس هناك أسوأ من الحوافز الطائفية ولا أكثر استدامة منها في إنتاج العنف ونشر الخراب وتدمير منظومة القيم والبنى العلائقية والتعايش بين المجتمعات. ولنا في لبنان الشعب المتعلم والمستنير مثال صارخ على قدرة الطائفية على تحويل المجتمع إلى قطيع عنيف ومتعصب وكاره للحياة وعابر في خطورته للحدود، وعصابة “إمبراطورية” لصناعة وتصدير المخدرات.