الكاتب: د. وائل نجم
قبل أيّام من انطلاق قطار الانتخابات النيابيّة اللبنانية، تصاعدت المواقف والتصريحات، سواء الداعية إلى المشاركة وتوجيه الناخبين نحو لوائح معيّنة، أو الداعية، ولو بشكل خجول، إلى مقاطعة الانتخابات بالنظر إلى قانون الانتخابات، وإلى عدم الثقة بأنّها ستحدث التغيير المنشود. غير أنّ اللافت، هذه المرّة، وفي هذا الاستحقاق، دخول رجال الدين على الخط الانتخابي بشكل مباشر أو شبه مباشر، من خلال إصدار فتاوى دينية أو مواقف منبرية، أُلبِسَت لباس الدين والدعوة إلى المشاركة أو إلى التصويت لمرشّحين أو جهات سياسية معيّنة، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر أيضاً.
وصف المفتي الجعفري الممتاز الشيخ أحمد قبلان، في خطبة عيد الفطر؛ المعركة الانتخابية بالمصيرية، وتوجّه إلى اللبنانيين بعامة، والشيعة بخاصة، بالقول: “الاستحقاق الانتخابي عبادة كبرى، وفريضة وطنية وأخلاقية ودينية حاسمة، والتردّد ممنوع؛ بل حرام، وترك المعركة الانتخابية حرام، والورقة البيضاء حرام؛ لأنّ البلد والسلطة أمانة الله، إياكم أن تضيعوها، ومن يعتزل المعركة الانتخابية إنما يعتزل أكبر فرائض الله”. وواضح أنّ هذا الكلام الذي ارتقى فيه المفتي قبلان إلى الحديث عن أنّ المشاركة فريضة دينية، هو بمثابة فتوى دينية لأتباعه بالتصويت، ومن ثمّ أتبع هذه الفتوى بتحديد الجهة التي يجب التصويت لها، وهي “الثنائي الشيعي” حركة أمل وحزب الله. وأمام هذه الفتوى، لم يترك المفتي قبلان لأتباعه المتدينين أيّ خيار لممارسة حقهم الديمقراطي بالمشاركة من عدمها، وبالتصويت لمن يرون فيه القدرة والمثال الصالح على إدارة أمور البلد والقيام بأعباء النيابة.
وإذا كانت صراحة المفتي قبلان قد جعلته يسبغ موقفه بلباس ديني واضح، فإنّ مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ عبد اللطيف دريان، في صلاة وخطبة عيد الفطر من مسجد محمد الأمين (وسط بيروت) لم يذهب إلى ما ذهب إليه المفتي قبلان، من إسباغ الفتوى الدينية على موقفه من الانتخابات، إلا أنّ مجرد إطلاق الموقف من على منبر أكبر مسجد في بيروت، وفي خطبة العيد، أضفى على الموقف بعداً دينياً، أو ما يمكن أنّ نسمّيه فتوى. فقد حذّر المفتي دريان في خطبة العيد من “خطورة الامتناع عن المشاركة في الانتخابات، ومن خطورة انتخاب الفاسدين”، معتبراً أنّ “الانتخابات هي الفرصة المتوافرة أمامنا لتحقيق التغيير”. هي إذاً دعوة لأتباعه أيضاً إلى الانخراط في المشهد الانتخابي، وعدم ترك أي خيارٍ أمامهم للتفكير في أي موقف آخر، سواء لناحية المقاطعة أو الاختيار، فالدعوة إلى المشاركة رافقتها أيضاً دعوة إلى غير الفاسدين. وللأسف، الفاسد في لبنان في نظر الناخب هو الذي ينتمي إلى غير شريحته أو طائفته ومذهبه. كذلك تجدر الإشارة هنا إلى أنّ هناك اتجاهاً عاماً لدى المسلمين السُنّة إلى مقاطعة الانتخابات، بالنظر إلى ظروفٍ ليس محل ذكرها في هذا المقام.
وفي المقلب المسيحي، لم تكن الصورة مختلفة، بل كانت مشابهة أو مطابقة إلى حدّ بعيد للموقف الذي أطلقه مفتي الجمهورية، إذ دعا البطريرك الماروني، بشارة الراعي، في عظته الأسبوعية التي ألقاها بحريصا بمناسبة عيد سيدة لبنان، دعا اللبنانيين إلى المشاركة بكثافة في التصويت في الانتخابات النيابية المرتقبة خلال شهر مايو/ أيار الجاري، لكي يستعيدوا مبادرة تقرير مصيرهم ممن وصفهم بـ “العابثين به الذين عرّضوا لبنان للانهيار، وهويته للتزوير، وتغاضوا عن وضع اليد على مؤسسات الدولة وقراراتها”. أيضاً هي ليست فتوى دينية صريحة بقدر ما هي موقف “استغلّ” المنبر الديني والمناسبة الدينية لإضفاء بـُعْد ديني على موقف سياسي في مناسبة وطنية واستحقاق وطني يعني كلّ اللبنانيين.
خلاصة القول، هذه المواقف الصادرة عن رجال دين، والتي أضفوا عليها صبغة دينية، أشبه بالفتوى التي أقفلت أمام أتباعهم ورعيتهم أي خيارٍ لمقاطعة الانتخابات، أو الذهاب نحو ممارسة حق ديمقراطي، سواء بالمقاطعة أو بالمشاركة والتصويت للمرشّح الذي يرى فيه الناخب الرجل الذي يستحقّ شغل المقعد النيابي. لقد بات هذا الناخب محاصَراً بالفتوى من ناحية، وبقناعته التي تدعوه إلى اتخاذ الموقف الذي يراه صحيحاً من ناحية ثانية. وأمام هذا المشهد الذي بات فيه مشلول الإرادة، سقط المسار الديمقراطي قبل أن ينطلق، وانعدمت أيّ فرصة حقيقية للتغيير قبل أن تبدأ.
المصدر: https://www.alaraby.co.uk/ العربي الجديد.