تحوّلات العنصرية من قياس الجماجم إلى التصنيف الثقافي

كتب حسام شاكر

تحوّلات العنصرية من قياس الجماجم إلى التصنيف الثقافي

كانوا يقطعون الرؤوس، ويُلقون بالجماجم في قدور كبيرة، ويباشرون سلقها، ثمّ يأمرون النساء المكلومات بنزع الجلود عن جماجم ذويهنّ وإزالة الأحشاء اللحمية منها، تمهيداً لشحن الجماجم إلى ألمانيا عبر مسارات طويلة لا تكترث بالكرامة الإنسانية. كانت هذه الفظاعة ممارسة اعتيادية خلال وقائع الإبادة الجماعية التي مارستها ألمانيا القيصرية في ناميبيا بحقّ شعبيْ هيريرو وناما بين سنتيْ 1904 و1908. لم تعترف الحكومة الألمانية بهذه الفظائع الاستعمارية إلاّ بعد قرن من اقترافها؛ عندما أقرّت بذلك سنة 2004 في صيغة مُخفّفة، حتّى أنّها لم تصفها بأنّها إبادة جماعية إلاّ في سنة 2015. امتنعت برلين عن تحمُّل أي مسؤوليات لجبر الأضرار التي لحقت بضحايا هذا التوحُّش أو دفع تعويضات لذويهم، فهذا هو التقليد الذي التزمت به العواصم الاستعمارية الأوروبية السابقة عموماً حتى اليوم، وما زالت فظائع تلك الإبادة معزولة عن الاكتراث اللائق ببشاعتها وبكرامة الشعوب المنكوبة بها، رغم التقديرات بأنّ عدد ضحايا الإبادة التي لحقت بشعبيْ هيرورو وناما على أيدي المستعمرين الألمان تجاوز مائة ألف في هذه المنطقة وحدها.

تشبّع السلوك الاستعماري بعنصرية حفّزت استباحة شعوب المُستعمرات واستغلالها واضطهادها والفتك بأعداد غفيرة منها إلى حدّ اقتراف جرائم إبادة جماعية. كانت العنصرية، أيضاً، كلمة سرّ وراء تفشِّي ظاهرة جمع الجماجم البشرية من المُستعمرات في نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، لإرواء ظمأ علماء البيولوجيا والإثنولوجيا العنصريِّين عبر أوروبا الذين جمعوا آلافاً مُؤلّفة منها في محاولة لدعم فرضيّاتهم عن تفاوت “الأعراق” في المكانة، علاوة على سلوك الاستيلاء على جماجم الثوّار وشحنها إلى المراكز الاستعمارية كي يشفي كبار القادة غليلهم برؤيتها؛ وقد تنتهي إلى أيدي “علماء” عابثين أو تُودَع في رفوف وصناديق تتزاحم فيها الجماجم والعظام في معاهد ومتاحف وأقبية إلى اليوم. شُحنت أعداد هائلة من الجماجم والعظام من أنحاء المُستعمرات، ووفّرت جرائم القتل الجماعي فرصة لاستلابها من الضحايا. كان من التقاليد التي راجت في تلك المرحلة السطو على مقابر التجمّعات السكانية للشعوب والقبائل الواقعة تحت الهيمنة الاستعمارية ونبْش قبور الموتى المدفونين فيها لانتزاع جماجم وعِظام، قبل شحنها إلى معاهد الأبحاث العنصرية في بلدان أوروبية عدّة.

كان القرن السابع عشر محطّة انطلاق في هذا الصدد، فقد وجد مصطلح “أعراق البشر” Races d’hommes سبيله إلى الخطاب العلمي مع الفرنسي فرانسوا برنيه François Bernier (1620-1688) الذي دشّن حقبة العنصرية العلمية أو البيولوجية. وكان لعالم الطبيعيات الفرنسي جورج-لويس لوكلير دو بوفون Georges-Louis Leclerc de Buffon (1707-1788) دوره في إقحام مصطلح “العرق” في اللغة العلمية عندما أدرج ذلك في عمله “التاريخ الطبيعي” (Histoire naturelle) الصادر سنة 1749.

لم تكن التصنيفات العنصرية والاستعلائية غائبة من قبل ومن بعد، لكنّها صارت تقليداً متكرِّساً خلال “عصر الأنوار” وما بعده. لم يتورّع بعض رموز “التنوير” عن الانخراط في ذلك والتنظير له كما فعل فولتير Voltaire (1694-1778) في حديثه عن الأفارقة مثلاً، رغم أنّه صاحب رسالة “التسامح”، وحرّض موقفه هذا على تلطيخ تمثال له في حي سان جيرمان بباريس بالأصباغ في صيف 2020 ضمن موجة تصحيحية عالمية.

ثمّ إنّ إيمانويل كانت Immanuel Kant (1724-1804) الذي يُعدّ هو الآخر من أبرز “فلاسفة التنوير”، وضع تصنيفه للبشر إلى أعراق تتوزّع على مراتب عُلوية ودونية بزعم تبايُنهم في قابلية التعلُّم، ولا مفاجأة في أنّه جعل الأوروبيين البيض في القمّة. على أنّ ما تورّط فيه أولئك الفلاسفة كان تقليداً رائجاً في أدبيّات عصرهم ومنظور أممهم، فأعادت تناقضات “التنوير” هذه تقديمه في قوالب “علمية” و”فلسفية” على نحو شجّع الأنظمة الاستعمارية على استعباد شعوب أخرى واستغلالها بلا هوادة؛ بما في ذلك “شحن” قرابة 29 مليون إنسان من أفريقيا إلى أمريكا كأنّهم مجرّد بضاعة، من القرن السادس عشر حتى القرن التاسع عشر.

من روّاد العنصرية العلمية عالم الأحياء السويدي البارز كارل لينيوس Carl Linnaeus المعروف بلقبه اللاحق كارل فون لينِّي Carl von Linné (1707-1778) فهو من أوائل من تذرّعوا بالعلم في تصنيف “أعراق البشر” على أساس خصائص معيّنة، حتى أنّه وصف “العرق الأبيض” بالابتكار و”العرق الأسود” بالكسَل، فعُدّ من هذا الوجه من آباء النظريّات العنصرية المتذرِّعة بالبيولوجيا. ترك فون لينِّي بصمته في مسار علم الأحياء وأثّرت استنتاجاته على أجيال متعاقبة من بعده، حتى أنّ أعماله ألهمت تشارلز داروين. وكان لمُساهمات الأنثروبولوجي الألماني يوهان فريدريش بلومنباخ Johann Friedrich Blumenbach (1752-1840) في تصنيف البشر على أساس معايير منها لون البشرة؛ أثرها في تطوُّر نظريّات عنصرية من بعد، رغم التبايُن في اتِّجاهات الحُكم على أعماله. ضمّت مقتنيات بلومنباخ “العلمية” في مدينة غوتنغن الألمانية 240 جمجمة جُمعت من أنحاء العالم بأساليب شائنة من بينها نبْش قبور الموتى وسَلْب رؤوس أشخاص بعد تنفيذ أحكام إعدام بحقِّهم، فأسّست هذه الممارسات لتقاليد متذرِّعة بالعلم تشمل التمثيل بالجثث وإهانة رفات الموتى وشحن جماجم وعظام عبر مسالك طويلة عبر قارّات العالم إلى معاقل البحث السُّلالي؛ التي لم تُظهِر أي تساؤلات نقدية أو تحفّظات أخلاقية على كيفية انتزاع هذه القطع البشرية والإتيان بها إليها.

تلازمت العنصرية البيولوجية مع علمنة العلوم، وقد ورثت من هذا الوجه تصوُّرات استعلائية وسُلالية تقليدية مثل مفهوم “ليمبيزا دي سانجري” Limpieza de sangre أي “نقاء الدم”، بمعنى نقاء الأصل، والممارسات التي جرت باسم هذا المفهوم بعد ما عُرِف بحروب “الاسترداد” في شبه الجزيرة الإيبيرية وفي الفضاء الاستعماري الإسباني من القرن الخامس عشر حتى القرن التاسع عشر. أتاح العهد الاستعماري احتكاك الأوروبيين بشعوب أخرى وهيمنتهم عليها، فظهرت مساعي التصنيف العلموية التي تواطأت مع مقاصد الاستعمار التوسُّعية وطبيعته الاستغلالية وثقافته الاستعلائية، فوفّرت له “أسانيد علمية” مزعومة تمنح المُستعمِرين (بكسر الميم الثانية) رشفة التفوُّق الموهوم على المستعمَرين (بفتحها).

انهمكت فرق العلوم العنصرية في قياس الجماجم والتدقيق في تفاصيلها وفحص أبعادها على أساس تصنيفات عنصرية للبشر ربطت قياسات الجماجم ومواصفاتها الظاهرية بمنسوب الذكاء والقدرات العقلية للأمم والشعوب، وجُعل لبعض الأوروبيين أرفع مكانة فوق البشر على هذا الأساس، وعُدّت أقوام أخرى من غير “الإنسان الأبيض” دون المرتبة الإنسانية تقريباً. تأسّس هذا النمط من عنصرية ذلك الزمان على أوهام التفاضُل البيولوجي بين النّاس على أساس الأصول السُّلالية وألوان البشرة ومواصفات الجماجم والداروينية الاجتماعية، فكانت عنصريةً صريحة يتيسّر رصدُها من ظاهر الخطاب وواقع الممارسة.

استبدّ الهوس العنصري بمنصّات علمية وكانت له تفريعات ومتلازمات أخرى في تصنيف البشر على أسس شكلية وجمالية وثقافية، وصعدت على هذا الأساس خطابات التحذير من الاختلاط مع “أعراق أخرى” أو التزاوج معها، وقاد ذلك إلى ظهور أنظمة وسياسات وإجراءات وممارسات كُرِّسَت للتفرقة والإقصاء والإبادة؛ بلغت ذروتها مع النازية والفاشية حتى أواسط القرن العشرين، فانكشف المآل الكارثي لهذا الهوس العنصري.

اجترأ العلماء من بعدُ على إسقاط النظريّات البيولوجية العنصرية التي تمكّنت من بعض منصّات العلوم، وصدر عن منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلم “يونيسكو” سنة 1950 أوّل بيان علمي عالمي من نوعه عن “مسألة العِرق” (The Race Question) أعلن مناهضة العنصرية، وتلاحقت سلسلة من البيانات والمواقف العلمية الصادرة عن “اليونيسكو”، ومنها الإعلان الصادر سنة 1978 الذي نفى وجود أي أساس علمي لتقسيم البشر على أساس عنصري.

حفّزت خبرات الحرب العالمية الثانية وهزيمة النازية والفاشية نبذ الأيديولوجيّات العنصرية السُّلالية، وتعزّز ذلك مع تصفية الاستعمار الذي أخضع شعوباً وقبائل لسياسات الاستعباد والاستغلال، وكذلك مع إنهاء أنظمة الفصل العنصري بعد نضال مديد. ودّعت البشرية عهد الاستعمار التقليدي وإن بقيت بعض ذيوله حاضرة، وبدا أنّ العالم تجاوز العنصريّات التقليدية التي صرّحت بالتفوُّق العرقي والاستعلاء السُّلالي ونقاء الدم وأظهرت التعالي على مُكوِّنات أخرى من الأسرة الإنسانية أو شركاء الأوطان، فالإعلانات والمواثيق والالتزامات المُقرّرة على المستوى الأممي أعلنت الفكاك من هذه النزعات ونبذتها بوضوح. لكنّ العنصرية لم تعجز عن مواصلة الحضور في الاجتماع الإنساني الحديث، واستدعى الأمر، مثلاً، أن يقرِّر مجلس حقوق الإنسان، التابع للأمم المتحدة، في سنة 2008 تعيين مقرِّر خاصّ معنيّ بـ”الأشكال المعاصرة للعنصرية والتمييز العنصري وكُره الأجانب وما يتّصل بذلك من تعصُّب”. فالعنصرية مقتدرة على إعادة إنتاج ذاتها باستخدام تعبيرات مُتعدِّدة وباستعمال إيحاءات واستعارات شتّى تتكيّف مع الأحوال والمُتغيِّرات.

انتهى زمن التصريح بتصنيف البشر حسب مراتب نبيلة وأخرى وضيعة على أساس بيولوجي مزعوم، وضيّقت حقائق العلم وخبرات الواقع الخناق على ادِّعاءات التعالي العرقي والتفاضُل السُّلالي والاعتداد بمواصفات الجماجم وألوان البشرة. ضمرت العنصرية الظاهرة أو توارت نسبياً؛ فتتسلّلت عُنصريّات مُستترة وُمراوِغة إلى المشهد المجتمعي أو تفشّت فيه عبر تعبيرات إيحائية أو غير ملحوظة، وتجدّدت وجوه الاستغلال في الاجتماع الإنساني الحديث وعبر علاقات ما بعد الاستعمار أيضاً. انتقل تقليد التصنيف من الذرائع البيولوجية إلى نسج تبريرات ثقافية وادِّعاءات قيمية على نحو صريح أو إيحائي. وحتى أحزاب اليمين المتطرِّف، ذات المشرب العنصري، تتحاشى اليوم استعمال تعبير “الأعراق” فتلجأ إلى انتقاء مفردات بديلة من قبيل تصنيف البشر أو تقسيم المجتمع حسب “أنماط” أو “مجتمعات مُوازية” أو غير ذلك.

إنْ تمكّن الخطاب الاستعلائي من مواقع قرار ومنصّات رسمية ومجتمعية وإعلامية وثقافية معيّنة في الواقع الإنساني الحديث؛ فإنّ ذلك لا يقضي بإفصاحه عن منزعه هذا بوضوح. ذلك أنّ النزعات والخطابات والمُمارسات المدفوعة بالعنصرية والكراهية والتحريض ضدّ شركاء المجتمع أو الإنسانية لن تجد سبيلها في واقع مُكلّل بشعارات والتزامات وأنظمة تنبذ العنصرية الواضحة إلاّ بمُراوغات ذرائعية مُعيّنة تُعفيها من اللوْم والمُساءلة، ما يقتضي ملاحظة أنّ الحضور العنصري في المجتمعات “الحديثة” غالباً ما يأتي مشفوعاً بمقدِّمات ذرائعية منسوجة وسرديّات تبريرية محبوكة بعد انقشاع أوهام التفاضُل البيولوجي بين البشر على مشرحة العلم الحديث وانهيار رهاناتها الأيديولوجية في الواقع أيضاً.

ثمّ إنّ خطابات العنصرية والتشويه والتحريض والتفرقة تقتدر على استغلال المُتغيِّرات من حولها، إلى حدّ التكيُّف مع شعارات مبدئية سائدة وارتداء عباءة القيَم أحياناً، فهي تتستّر أحياناً خلف مقولات محبوكة وذرائع منسوجة وأقنعة مُضلِّلة؛ تُمكِّنها من إعادة إنتاج ذاتها في زمن الشِّعارات المبدئية والالتزامات الأخلاقية؛ فتتعالى بهذه الحيلة على قابلية التشخيص أو تُعَطِّل فُرَص التعقُّب والمُساءلة.

وفي عالم يُعلِن الامتثال لمقولات قيمية وشعارات مبدئية يصير التذرّع الانتقائي بهذه المرجعيّات القيمية والمبدئية حيلةً مألوفة لتغليف التعالي المُراوِغ أو لتبرير وجوه معيّنة من التفرقة على أساس الإيحاء بالتفاضل القيمي بين المكوِّنات الإنسانية. وقد تلحظ العيْن الفاحصة، على هذا الأساس، أنّ بعض الذرائع انتقلت من التفرقة بين البشر وفق جماجمهم وألوان بشرتهم إلى التفرقة بينهم حسب تصنيفات ثقافية أو مجتمعية بمقتضى تعبيرات خارجية حول رؤوسهم مثلاً، أو جرّاء تصنيفهم على أساس مزاعم ثقافية معيّنة، أو من خلال ربطهم ببواعث قلق ومكامن تهديد بصفة صريحة أو رمزية. وإذ تحتفي البشرية اليوم بقيمة التنوّع فإنّ أنظمة الحاضر لا تعجز، حسب ما يبدو من بعض تجارب الواقع، عن افتعال مشهد تنوُّع زائف يُخفي واقعاً مُغايراً في خلفيّته؛ قد يكون مشبّعاً بالعنصرية والتفرقة.

إنّ المُراوغات التي تتستّر خلفها بعض نزعات العنصرية والكراهية والتحريض والتفرقة في الواقع الإنساني الحديث تنتصب تحدِّياً في مواجهة جهود الرصْد والتحليل والبحث الاختصاصي في هذا الحقْل. وممّا يزيد من تعقيد المهمّة على راصدي العنصرية وحُمّى الكراهية والتحريض والتفرقة؛ أنّ مظاهرها لا تقتصر على الأقوال والأفعال والأنظمة والسِّياسات والإجراءات ونحوها؛ فهي تمتدّ إلى تعبيرات رمزية أو إيحائية وأخرى غير لفظية أيضاً؛ لكنّها قد تكتسب دلالة واضحة ضمن سياقات معيّنة تتّضح عند التدقيق والتحليل.

هكذا تسلّلت خطابات كراهية وعنصرية تقليدية إلى مجتمعات حديثة تحت عباءة التنوير والعصرنة والمبادئ أحياناً، وأتاحت هذه المُراوغة لأصحابها استدراج أذهان الغافلين واستمالة وجدانهم وتعطيل روح التمحيص والحسّ النقدي لديهم. لا تستغني بعض خطابات الكراهية والتشويه والتحريض والعنصرية عن توطئات مبدئية أو ذرائع أخلاقية لدقّ الأسافين وتبرير دعاوى الافتراق وتشييد أسوار معنوية مُتعالية بين المُكوِّنات المتعدِّدة في نطاق مُعيّن أو ضمن عالم واحد.

*جميع المقالات المذكورة في الموقع تعبر عن رأي أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي المنظمة