حملة إحراق المصاحف في السويد استفزاز محبوك يتحرّى مكاسب سياسية وإشعال فتائل التفجير المجتمعي، ووصم الأحياء السكنية ذات الكثافة المسلمة بالعنف والشغب، وعزلها عن المجتمع وإشعار قاطنيها بالاستبعاد من المواطنة الجامعة.
الكاتب أ. حسام شاكر.
صنع الناشط المتطرف الذي يُنادي بالتطهير العرقي ضد المسلمين الحدث بعناية، فأراده صادماً ومستفزّاً إلى أقصى حدّ. أقدم على إحراق نسخ من القرآن الكريم في ميادين عامّة، واقترف فعلته في شهر رمضان تحديداً، وتخيّر أحياء ذات كثافة سكانية مسلمة لتكون مسرحاً للكراهية والتحريض المباشر.
شرع الدانمركي – السويدي راسموس بالودان في إحراق المصاحف في الأماكن العامة في الدانمرك في سنة 2019 ضمن حملته الانتخابية وقتها. ثمّ امتدّت محاولاته الاستفزازية إلى السويد، فمنعته السلطات سنة 2020 من تنظيم فعاليات فيها لأنه يمثِّل “تهديداً للمصالح الأساسية للمجتمع” السويدي.
حظي بالودان بترخيص رسمي هذه المرّة، ووضع السلطات السويدية في موقف حرج، فحملة الاستفزاز المحبوك والتحريض السافر التي قادها في إبريل/ نيسان 2022 حظيت بحماية الشرطة التي عدّها فتية الأحياء المُستهدفة بالتحريض واقفة في خندق مشعلي النيران العنصرية. أوقد بالودان النار في بيئات سريعة الاشتعال، ومنحته السلطات فرصة ممارسة هوايته الشعبوية المفضّلة في نشر الأحقاد في مناطق شهدت من قبل توتّرات وصراعات بين عصابات الجريمة المنظّمة، ضمن مظاهر تعثُّر السياسات الثقافية والاجتماعية السويدية.
لم يهبط راسموس من كوكب آخر، فالحزب الذي يقوده “سترام كورس” أي “النهج المتشدد” حالة متفاقمة من مدرسة الاستفزاز المحبوك التي تتحرّى برمجة ردود أفعال مأمولة من خصومها، ويتحرّك في بيئة سياسية ترسّخت فيها أحزاب أقصى اليمين العنصري في الدانمرك ثم في السويد مشفوعة بالاستقطاب الشبكي.
ألهمت أزمة رسوم الكراهية في الدانمرك (2005) الشعبويين والعنصريين عبر أوروبا، عندما اكتشفوا أنّ ريشة رسّام مغمور قادرة على إشعال حرائق ثقافية عابرة للحدود، وأنّ المحرِّض سيحظى بعدها بالتمجيد والحماية، وأنّ الوصفة المثالية لتغطية خطاب الكراهية والمضامين العنصرية هي التذرّع بحرية التعبير.
تدقّ أعمال الاستفزاز المحبوكة أسافين داخل المجتمعات الأوروبية على أساس ديني وإثني، وتستثير ردود أفعال شبابية غاضبة محسوبة على المسلمين في الداخل والخارج لن تبدو لعموم المجتمع مفهومة.
تعدّدت التطبيقات التي استلهمت هذا النموذج، وانخرط فيها طامحون إلى الصعود السياسي؛ كما فعل الهولندي المتطرف خيرت فيلدرز الذي تبوّأ مقعده من البرلمان عبر محاولات دؤوبة لصناعة أحداث تستفزّ المسلمين وحصد شهرة عالمية من خلال ذلك.
تطوّرت خبرة مسلمي أوروبا في التعامل مع هذا المنحى وتفويت الفرصة عليها، بعد أن أدركوا أنها محاولات محبوكة لاستثارة استجابات معيّنة منهم.
لكنّ الأمور لا تسير دوماً مع الأجيال الجديدة حسب تقاليد الانضباط المدني والاعتراض القانوني التي تنادي بها مؤسسات المسلمين، خاصة أنّ راسموس بالودان اختار تصعيد الاستفزاز إلى منسوب غير مسبوق وأقدم على نقله من منابر السياسة والإعلام إلى الميادين العامة المفتوحة، حاملاً في رأسه أفكار التطهير العرقي.
يبقى بالودان عنصراً هامشياً في الحياة السياسية رغم اقتداره على صناعة أحداث مدوِّية تتجاوز حزبه الصغير. لكنّ حملة الكراهية التي يؤجِّجها تُسدي خدمة جليلة لأحزاب اليمين وأقصى اليمين، دون أن تتشكّل جبهة سياسية تتصدّى لهذا العبث بجرأة.
إنّ محاولة شقّ صفوف المجتمع وبرمجة ردود أفعال هوجاء في أحياء محسوبة على التنوّع الثقافي، هو تماماً ما تحتاجه الأحزاب التي تستثمر في الأزمات لأهداف انتخابية.
يُشعِل بالودان فتائل التفجير المجتمعي مع سبق الإصرار، ويسعى إلى وصم الأحياء السكنية التي يستهدفها بدمغة العنف والشغب بصفة تعميمية جائرة، وعزلها عن المجتمع العريض وإشعار قاطنيها بأنهم لا ينتمون إلى الهوية الوطنية الجامعة. تمّت المهمة بنجاح، أو بتعبير وزير المالية السويدي ميكايل دامبيري فإنّ “المستفزين من اليمين المتطرف حققوا ما يريدون بالضبط ونجحوا في خلق جوّ من أعمال الشغب”.
تضغط هذه التطوّرات على المجتمع المسلم المحلي في الدول الاسكندنافية بصفة مضاعفة، فحملة التحريض والاستفزاز تفعل فعلها في إلحاق الأذى المعنوي وتعقيد مسألة الهوية عند الأجيال المسلمة الصاعدة وإذكاء نزعات التمرّد والتطرّف في صفوفهم.
وتشجِّع اضطرابات الشوارع انطباعات تعميمية سلبية عن أحياء التنوّع الثقافي، وتؤدِّي إلى تغليب منطق الأزمة في علاقة السلطات مع قاطني تلك المناطق، علاوة على الاستغلال السياسي والحزبي الفجّ لهذا الملف في المواسم الانتخابية.
صنع بالودان الحدث في غفلة من حياة سياسية منشغلة بالجدل بشأن التضخّم المتصاعد وانعكاسات الحرب الأوكرانية وخيار الانضمام إلى حلف الأطلسي، بينما يغطّ المجتمع المدني السويدي في سبات عيد الفصح. كما لا يُنتظَر من حكومة الأقلية (يسار الوسط) التي تترقّب بقلق انتخابات سبتمبر/ أيلول المقبل أن تبدي جرأة في مواجهة اللعب السافر بالنار في الفضاء المجتمعي.
تورّطت الشرطة السويدية هذه المرّة في موقف أظهرها في صورة من يحمي السلوك العنصري المتطرف، وكشف الحدث أنّ لدى فتية الأحياء المستهدفة بحملة الكراهية أزمة ثقة حادّة مع الشرطة التي صارت هدفاً لغضبهم.
رأى هؤلاء ناراً عنصرية تُضرَم في الميادين العامّة بحماية الشرطة وترخيص منها، واستشعروا الإهانة الشديدة التي تستهدفهم مباشرة عبر حرق المصاحف على مرأى منهم، فاستنفر ذلك ردوداً عارمة أتت فيها النيران على سيارات الشرطة ومركبات عمومية. إنها الاضطرابات التي برمجها بالودان بعناية وبرز فيها في موقع ناظم الإيقاع دون أن يعترضه أحد في الدولة السويدية هذه المرّة.
ثمّ تنصّل متحدثو الشرطة من المسؤولية عمّا جرى. تقول الشرطة إنها سمحت بتظاهرات الكراهية تلك وما تخلّلها من إحراق المصاحف لأنها تندرج ضمن “حرية التعبير”، وأنها لا تملك سوى حماية تلك الحملة من “مثيري الشغب”. دفعت الشرطة باللائمة عن نفسها متذرِّعة بأنها لا تملك حقّ حجب الترخيص عن هذه التظاهرات العنصرية لأنّ القانون السويدي “لا يجرِّم إحراق الكتب الدينية”، وأنّ من يعترض على ذلك عليه أن يتوجّه إلى المشرِّعين وليس إلى الشرطة.
يتجاوز هذا الخطاب أولوية حماية السلم الأهلي عند منح التراخيص، وأهمية التفاهم مع المجتمع المحلي الحانق من الاستفزازات، وضرورة معالجة غضب فتية في سنّ المدرسة. تمسّكت قيادة الشرطة بمنطق إجرائي مجرّد يتعامى عن “النهج المتشدد” الذي يعتمده مُشعلو الحرائق العنصرية في المجتمع، ويتغافل عن أنّ السويد لم تشهد إحراق أي كتب دينية أخرى في الميادين سوى المصاحف. صرفت الشرطة النظر عن مغزى تسديد إهانة جسيمة على هذا النحو إلى مكوِّنات سكانية عبر المسّ الصارخ بمقدّساتها ومعتقداتها بأفعال تحريضية وخطابات كراهية فجّة.
إنها ليست السويد التي كانت، فدولة الشمال هذه اشتهرت بالتزامها القيمي وانفتاحها السياسي وترحيبها بالتنوّع وبحيوية مجتمعها المدني. نجحت الحكمة السويدية في تجاوز اختبارات حرجة في السابق، كما جرى عندما تسلّلت رسوم الكراهية المناهضة للإسلام إلى وسائل إعلام سويدية في سنة 2006 بعد نشرها في الدانمرك المجاورة. تمكّنت حكومة السويد يومها بمعيّة المؤسسات الإسلامية من عزل الإساءات وقطع دابر التأزيم وتجاوز الاختبار باقتدار.
ثمّ انقلب المشهد السياسي السويدي، فأحزاب الوسط السياسي اضمحلّت، وصعد أقصى اليمين باطراد وتكاثرت عناوينه ولافتاته وتسيّدت خطاباته المشهد بعد أن أعادت الجماعات النازية التقليدية إنتاج ذاتها. كان لمخاوف الجمهور وهواجسه من التحوّلات المتعددة في الواقع والمجتمع تأثيرها في إذكاء الحالة التي تستبدّ بها خطابات شعبوية ما كان بالوسع تصوّر مثيلها في السويد.
صارت المواسم الديمقراطية الكبرى محطات للشحن العنصري المتذاكي وتأجيج خطاب الكراهية المُستتر، ثمّ بلغ الأمر أن دشّن حزب متشدِّد حملته الانتخابية في الميادين العامة بإحراق نسخ من القرآن الكريم وإشعال حرائق مجتمعية قد لا يسهُل إخمادها، مع ترخيص من الشرطة وتحت حراستها.
المصدر: موقع TRT عربي. https://2u.pw/ms4Ar