شرطة “الصوابية السياسية” كيف أصبحت داعشية في ثوب مدني؟

الكاتب: شريف مراد

أغلب الظن أنك تعيش في إحدى المدن العربية أو على الأقل عشت فيها خلال العقدين السابقين على الربيع العربي مثلا، إذا كنت كذلك، فلعلك تذكر جيدا الصعود الضخم للحركات السلفية في المدن العربية المختلفة، والذي انعكس بدوره على حجم الانتشار الواسع لأنماط التديّن السلفية في المُجتمعات العربية باختلاف شرائحها وطبقاتها، أحد هذه المظاهر كان الانتشار الواسع للمُلصقات السلفية الشهيرة التي تم لصقها على الجدران في الشوارع وفي المواصلات العامة وفي الجامعات وفي الهيئات الحكومية بل حتى بعض الأقسام الشرطية، والتي أتت على طريقة قل ولا تقل، أو احذر هذة الأقوال تخالف العقيدة، والتي لا يخرج محتواها عن محاولة ضبط العديد من التعبيرات والأمثال الدارجة والمستخدمة في التواصل اليومي، وفصلها عن سياقها وتجريمها لعزلها عن اللغة اليومية، طبقا للتأويلات السلفية للعقيدة والثقافة، وما ينبغي قوله وما لا ينبغي.

في سياق أوسع، دائما ما وُصفت العقود القليلة السابقة على الربيع العربي من قِبل العديد من المُحللين بحقبة الهيمنة الأيديولوجية للإسلاميين على المجال العام العربي وعلى قطاعات واسعة داخل المجتمعات العربية(1)، نقصد بالهيمنة هنا، الرضوخ المجتمعي للمرجعية الأيديولوجية كمعيار للحكم الأخلاقي، حيث تم اعتبار نمط التديّن الإخواني أو السلفي في فترة لاحقة -حسب العديد من الباحثين- إحدى أدوات الضبط الاجتماعي داخل المجتمع وفي المجال العام بالتبعية، وهو ما انعكس على غالبية أشكال التواصل العام وصولا إلى المستوى اليومي، تلك الهيمنة التي تراجعت كثيرا مع انكسار الربيع العربي نفسه والفشل الواضح لتجارب التيار الإسلامي في الحفاظ على مكتسبات ربيع الثورات كما في مصر وسوريا واليمن، الأمر الذي أدى إلى خلق حالة من السيولة والفراغ ليس على المستوى السياسي وهو الذي تحاول الدولة العربية الاستبدادية ملئه بالقمع والعنف المادي فقط، بل على مستوى الاجتماع الأيديولوجي والمعرفي نفسه للمجتمعات العربية(2) خاصة التي شهدت مدنها حراكا سياسيا وثورات وثورات مضادة.

وفي وسط هذا الجو المُتخم بالأوصياء والهيمنة والاستبداد تنامت مؤخرا ظاهرة سياسية وأيديولوجية عالمية سُرعان ما وُجدت لها أصداء داخل الفضاء العربي وهي ظاهرة الصوابية السياسية (Political Correctness)، لتزيد الفضاء العربي اختناقا وتُضاف إلى رصيد الهيمنات التي تتصارع في الفضاء العام.

يروي المُدوّن وصانع الأفلام التسجيلية أسعد طه ذكرياته عن بدايات الصحوة الإسلامية في مصر(3)، حيث شهدت الجامعات المصرية وأيضا بعض المدن ما اصطلح على تسميته بالقوافل الدعوية كتعبير عن رغبة مُلحة لدى تيارات الصحوة الإسلامية الصاعدة حينها في ضبط المجال العام وأشكال الظهور والتحقق والتعاطي معه، وهي عبارة عن مجموعات من شباب الإسلاميين يتحركون بشكل جماعي يحاولون -طبقا لرؤيتهم- هداية الناس عن طريق التنبيه على بعض المُمارسات الاجتماعية، كضرورة الحجاب للفتيات مثلا وعدم الاختلاط بين الجنسين أو عدم المُجاهرة بشرب المُنكرات في المقاهي والأماكن العامة، بل إنه في بعض الحالات كانت بعض الممارسات في الجامعة أو في الشارع يتم منعها بالعنف المادي من قِبل تلك المجموعات، يروي أسعد هذا في مذكراته كواحد من أولئك الشباب المُتحمسين الحالمين بإصلاح العالم، إلا أن تلك المُمارسات لم ترق له ولم يستطع أسعد الشاب حينها أن يُحدد لماذا، فانصرف عنها(4).

اللغة والرموز والمصطلحات وغالبية وسائل التواصل اليومي تعد جزءا رئيسا في الاجتماع المعرفي والأيديولوجي لأي مجتمع، إذ هي بحسب بندكت أندرسن إحدى مراحل تحوّل الجماعات المُتخيلة إلى جماعات مادية لها فاعليتها التاريخية الواعية بذاتها(5)، إلا أنها بالكيفية نفسها مساحات صراع وتنافس بين الفاعلين الأيديولوجيين داخل الجماعة والمجتمع نفسه، فاللغة -والرموز والمصطلحات المستخدمة داخلها- كما هي وسيلة للتواصل هي أيضا وسيلة أساسية في الهيمنة والضبط الاجتماعي وتشكيل الخيال الاجتماعي(6).

 ومع هيمنة الأيديولوجيا الليبرالية الفردانية عالميا منذ نهاية الحرب الباردة ومع انتشار عقيدة الحرب على الإرهاب تم استيعاب الخطاب السياسي العالمي داخل القاموس الأيديولوجي لليبرالية، ومع استمرار تصاعد النزعة الليبرالية والفردانية عبر العالم تم احتواء العديد من الأيديولوجيات المنافسة بالفعل داخل الليبرالية، فظهر ما تم تسميته باليسار الليبرالي والإسلام الليبرالي كدليل واضح على الهيمنة الليبرالية على العالم اليوم.

في هذا السياق التاريخي، تأتي ظاهرة الصوابية السياسية كإحدى المراحل المُتقدمة للهيمنة الليبرالية، حيث تمارس العديد من التيارات الليبرالية من اليسار واليمين المراقبة الأيديولوجية نفسها على اللغة السياسية وحتى اليومية والقيام بعملية عزل للكلمات والمصطلحات التي ترى تلك التيارات أنها تخالف قاموسها الخاص بالكلمات الصحيحة حسب الرؤية الليبرالية الفردانية للعالم، ويؤكد هذا الكاتب الشاب عمرو صبحي(7) مردفا: “يمارس اليسار الليبرالي الحقوقي عبر العالم، الظاهرة اللغوية نفسها للتيارت الأصولية، ولكن في شكل الصوابية السياسية (Political correctness) القائمة على مُراقبة المصطلحات وتعديلها وضبطها باعتبارها ميراثا جاهليا، والتحسس الشديد تجاه كل ما قد يُفهم أنه تكريس للرجعية المتوارثة، فتصبح كلمات مثل “عادي” محاولة احتكار مفهوم ما وتطبيعه، ونبذ كل ما هو مختلف عنه، وتتحول أي دعابة ساخرة إلى تَنَمُّر (Bullying)، وأي مجاملة إلى تحرش، وأي نقد للنسويات إلى ذكورية وتسلط، وأي نكتة إلى تصالح مع أفكار غير تقدمية من خلال جعلها مادة للفكاهة”.

فالصوابية السياسية، بحسب تحليلات، هي حزمة من المقولات المعيارية، تُشكّل الرؤية العامة للحياة المؤسساتية وحتى الاجتماعية واليومية باعتبارها تعبيرا عن الثقافة الأسمى أو نمط الحياة الأكثر رُقيا، وهي مقولات ذات سطوة أيديولوجية وجاذبية صالحة للاستخدام في كل نقاش سياسي أو اجتماعي أو حقوقي، ومن يخالفها أو يتحفظ عليها يكون عرضة للاتهام بكونه رجعيا أو ذكوريا أو عنصريا أو يعاني من “رهاب المثلية” مثلا أو خلاف ذلك من وسائل التكفير العلماني الليبرالي.

نشطاء ومنظمات من أجل الإنسانية وحسب

بحسب الباحث السوري سامي الكيال(8) تعد المنظمات غير الحكومية وحشودها من النشطاء الحقوقيين الليبراليين أحد الأجهزة الأيديولوجية التي تعمل على فرض قاموس الصوابية السياسية في العديد من دول العالم، إلا أنها على الرغم من أنها غير حكومية وتطرح خطابا أخلاقيا وغير سياسي فإنها تقوم بدور سُلطوي بالغ الخطورة، فهي “لا تطرح نفسها بوصفها جمعيات سياسية أو أيديولوجية، رغم الدور السياسي الكبير الذي تمارسه، بل تقدم ذاتها من خلال مفاهيم حقوقية وإنسانية وخيرية بحتة، بريئة من الهوى الأيديولوجي، تطرح فيها قاموسها الحقوقي الليبرالي الفرداني بشكل تقني غير قابل للنقاش السياسي، ما ينفي إمكانية وجود رأي آخر من الأساس، فالاعتراض على هذه المفاهيم يعني الجهل الحقوقي، وانعدام الكفاءة الفكرية والاجتماعية.

هكذا تلعب هذه المنظمات دورا تربويا، يعمل على إعادة تأهيل البشر، وتوعيتهم بقيم جاهزة وصحيحة تعريفا، وبما أنه لا يوجد نقاش، بل اكتساب للأفكار والمفاهيم، فلا داعي لاستفتاء قبول هذه الأفكار لدى المواطنين بالطرق الديمقراطية الاعتيادية، مثل التصويت العام، والانتخابات الحزبية والنقابية”. وبحسب الفيلسوف النمساوي روبرت بافلر(9) فإن الصوابية السياسية تحوّل المواطنين إلى أطفال عن طريق “سحب الأهلية منهم، واعتبارهم غير مُؤهلين لمواجهة ظروف الحياة ولا يستطيعون التعبير عن أنفسهم، ولا بد دوما من حمايتهم وفرض الوصاية عليهم عن طريق مراقبة اللغة وحتى الفنون المختلفة وأساليب السلوك”.

وفي استشراف ثاقب، تخيل الأناركي الروسي ميخائيل باكونين قبل ما يزيد على قرنين مصير المجتمعات في الديمقراطيات الليبرالية بخضوعها تحت رحمة التقنيين والخبراء الذين يحكمون باسم العلم والعقل والتسامح الإنساني، وهو مجتمع تنتفي فيه الحريات الاجتماعية والسياسية بالضرورة، “فقضايا المجتمع والسياسة ليست مسائل علمية ورياضية بسيطة، وما يُطرح بوصفه الحل التكنوقراطي أو الحل العلمي أو حتى الحل الأخلاقي غالبا ما يكون نتيجة لتحيزات أيديولوجية ما، تدفعها مصالح اجتماعية وطبقية محددة” (10) كما يؤكد الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس(11)، فالمجال العام ليس حكرا على فئة شبه كهنوتية من الخبراء، وهذا يعني اعتبار المواطنين ذواتا حرة وعقلانية، وليسوا مجموعة من القُصّر الذين يجب إعادة تأهيلهم ليرتقوا إلى مستوى الأيديولوجيا السائدة.

ويشبّه الباحث سامي الكيال(12) الدور الأيديولوجي السلطوي للمُنظمات غير الحكومية الحقوقية ولموظّفيها من النشطاء الحقوقيين الليبراليين بالدور الذي كانت تقوم به مكاتب التثقيف وإرشاد الجماهير في الأنظمة الشمولية في القرن الماضي كما في روسيا الستالينية مثلا أو ديكتاتوريات شرق آسيا، فبحسب ميشيل فوكو(13) لا تعمل السلطة السياسية فقط من خلال أجهزتها القمعية وحسب، بل من خلال دورها في إنتاج الذوات، بوصفها سياسة تهدف إلى التحكّم في حياة الأفراد وتنظيمها وهندستها وحذف ما لا يُلائم منها ليصبح الأفراد مواطنين صالحين ومندمجين بشكل كامل في سياسات الدولة، بهذا المعنى؛ يمكن لنا أن نستخدم نفس آليات السلطة والضبط الحيوية كمنظمات حقوقية ونشطاء ليبراليين للوصول إلى هدفنا التاريخي من خلال الخلق السلطوي لذوات جديدة تتفق مع السياسة الوحيدة الصحيحة!

من بعيد تبدو نزعة الصوابية السياسية نزعة أخلاقية بالفعل مهمومة بالدفاع عن الأقليات والفئات المضطهدة والهويات المحرومة من الفرص العادلة والتمثيل الثقافي والسياسي، لكن في التحليل الأدق فالصوابية السياسية لا تخلو من تحيزات أيديولوجية بل وطبقية تفرضها الثقافة الليبرالية والفردانية المهيمنة، التي تحاول تسكين الصراعات السياسية بحصر الصوابية السياسية داخل الحيز الحقوقي والأخلاقي فحسب، دون العمل على خلق حراك سياسي نضالي مُنظم لخلق تغيير مادي وملموس في الظروف التي أدّت إلى بروز تلك الأشكال من الهيمنة والاستغلال والإقصاء التي تدّعي نزعة الصوابية السياسية ويدّعي القائمون عليها أنهم يحاربونها بالفعل.

المصدر: موقع الجزيرة نت https://www.aljazeera.net/

*جميع المقالات المذكورة في الموقع تعبر عن رأي أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي المنظمة