سؤال الحبكة في خطابات الكراهية والتشويه والعنصرية
حسام شاكر
لخطاباب الكراهية والعنصرية حبكات نمطية تلجأ إليها عندما تنسج أحابيل التأثير والاستقطاب والاستهداف والتحامل.
تحتمي بعض خطابات الكراهية والعنصرية، مثلاً، بمظلة الهوية الوطنية والقومية، أو تتذرّع بالقيم والشعارات والتقاليد، وتسعى في هذا المقام إلى تصوير مكوِّنات أخرى من الفضاء المجتمعي أو الإنساني في هيئة الآخر الذميم أو في صورة النقيض أو التهديد. وإن عُدّ هذا مألوفاً من خطابات كراهية وعنصرية تقليدية؛ فإنّه يتسلّل إلى الفضاء العام بطرائق متذاكية عبر خطابات ترتدي عباءة التنوير والعصرنة والمبادئ. يجري هذا عندما تحتكر بعض الخطابات قيماً إنسانية لذاتها أو لمجتمعها بصفة رمزية؛ بينما توحي في الوقت ذاته باستبعاد مكوِّنات معيّنة من أن تكون مشمولة بفضائل هذه القيم؛ عبر التوسّع بالرمي التعميمي بنعوت الظلامية والتخلّف والتطرّف والانفصالية وعدم التوافق مع القيم والشعارات المرفوعة. تجود هذه الحيلة بفرصة إشعار الذات الجمعية (نحن) بامتياز التفوّق من خلال ممارسة التعالي على آخرين (هم) يُمارس الذمّ بحقِّهم.
تعتمد خطابات الكراهية والعنصرية، في هذا السياق، على تصنيف المجتمع أو الفضاء الإنساني إلى أخيار وأشرار، أو إلى “نحن” حميدة و”هم” ذميمة بالأحرى، بصفة صريحة أو إيحائية. تسعى هذه الخطابات إلى شقّ صفوف المجتمع الوطني أو الإنساني وإثارة الأحقاد وإغفال قواسم مشتركة وتجاهل انتماءات جامعة ومشتركات مجتمعية وثقافية وإنسانية. وهي إذ تسعى إلى عزل المكوِّن أو المكوِّنات المستهدفة بالكراهية والتحريض عن الوجدان الجمعي؛ فإنّها تعمد إلى إبراز تبايُنات مفترضة وتضخيم الوعي بفوارق متصوّرة قد تكون في الأساس من متلازمات التنوّع في الواقع الإنساني ضمن مستوياته المتعدِّدة. لا تستغني خطابات الكراهية والتشويه والتحريض والعنصرية عن هذه التوطئة لأجل تعظيم الإحساس بالمُغايرة ودقّ الأسافين وتبرير دعاوى الافتراق وتشييد أسوار معنوية متعالية بين المكوِّنات المتعدِّدة في نطاق معيّن أو ضمن عالم واحد.
تتجاهل الخطابات العنصرية، على هذا الأساس، مكاسب التنوّع في المجتمع، فتصوِّره بصفة سلبية أو تعتبره مبعث خطر وتهديد. يطيب لهذه الخطابات، بالتالي، أن تلجأ إلى تعميم الأوزار. فعندما يرتكب أفراد ممارسات سيِّئة أو يُتّهمون بالقيام بها؛ يجري إسقاطها على عموم المستهدفين بالكراهية والتشويه والتحريض والعنصرية وإسباغها على دينهم وثقافتهم وانتماءاتهم الإثنية وخصوصياتهم. أي أنها تنزلق إلى “تأويل ثقافي” أو “تفسير نسقي” بحقّ سلوك فردي لأجل استخلاص إدانة تعميمية لنسَق ينتمي إليه الفرد المعنيّ. تُمارَس هذه الحيلة بصفة انتقائية بطبيعة الحال؛ ذلك أنّ تسليط الأضواء يجري على ممارسات سيِّئة مع تجاهل ممارسات حميدة قد تكون أوفر، كما يغضّ هذا المسلك الطرف عن ممارسات قد تكون شبيهة تقع من غير الطرف المُستهدف بالكراهية والعنصرية، علاوة على أنّ الانتقائية حاضرة في تأويل هذه الممارسات الفردية بالنظر إلى الخلفيات الثقافية والسِّمات الجمعية دون أن يُمارس هذا التأويل مع ما يقع من عموم المجتمع. من شواهد هذا المنحى أن يقع التنقيب عن ثقافة فاعل معيّن ودينه وقومه في حالات معيّنة (هم)، وعزل سلوك فاعل شبيه في نطاقه الفردي وحسب في حالات أخرى؛ لأنّ تعميم الاشتباه والجرم والإدانة سيرتدّ في هذه الحالة على الذات الجمعية (نحن) ولن يخدم السردية المتحاملة. أمّا المساهمات الإيجابية المشهودة لمحسوبين على المكوِّن المستهدف، فقد لا يُعترف بها ببساطة، أو قد يقع تناولها ضمن نطاق الفرد وحسب كي لا تتجاوزه إلى نسقه المُتحامَل عليه. يبدو مفهوماً، إذن، كيف أنّ المساهمات الجليلة التي قدّمها طلائع من مسلمي أوروبا في مجالات العلوم والتقنية والفنون والاكتشافات والرياضة والعمارة وغيرها؛ لم تزعزع حمّى الإسلاموفوبيا والذمّ التعميمي المصاحب لها، حتى بعد أن ظهر مسلمون ومسلمات في صدارة “الجبهة الأمامية” لمجتمعاتهم الأوروبية خلال جائحة كورونا؛ على مستوى تضحيّات الطواقم الطبية ومختبرات البحث العلمي وتطوير اللقاحات.
ثمّ إنّ خطابات الكراهية والتشويه والتحريض والعنصرية تُسارِع إلى توظيف الأحداث والمتغيِّرات بشكل انتقائي واستغلال بعضها كذرائع لخدمة أحكامها المُسبقة، وتقديمها كبراهين مزعومة على صحّة مواقفها وأحكامها.
كما لا يكفّ أرباب الكراهية والشحن العنصري عن تضخيم القلق وإثارة الهلع لدى جماهيرهم، كأن يستثيروا الخوف على “الأمّة” والمجتمع بوسائل شتّى، فتوظيف ورقة الخوف فعّال للغاية في الاستقطاب والتوجيه، وهو يضمن انصياعاً جماهيرياً لخطابات تستغلّ هواجس وجودية تمسّ الإحساس بالأمان المستقبلي والمصالح المعيشية. فالجماهير التي يُمسك الخوف بخطامها تتضاءل قدرتها على الاختيار الواعي بين الألوان السياسية مثلاً، أو تكون أكثر تراخياً إزاء الانتقاص من حقوق وحريات للمجتمع من حولها بدعوى مقتضيات الأمن وضرورات المرحلة.
وقد تغترف خطابات الشحن والتعبئة وإثارة الهواجس والمخاوف ذرائعها من نظريات مؤامرة معيّنة، من قبيل نظرية “الاستبدال العظيم” (2012) أو من توطئات نظرية ومقولات محبوكة متوافقة معها في بيئات أوروبية وغربية. من شأن هذا أن يخدم مسعى الاستقطاب والتعبئة، وأن يساعد على تقديم تفسيرات جماهيرية مبسّطة وساذجة ضمن مناحٍ شعبوية رائجة، وإسقاط إدانات تعميمة جائرة على مكوِّنات مجتمعية وإنسانية مُستهدفة بالكراهية والتشويه والتحريض والعنصرية كي تُستعمَل هذه المكوٍّنات مشجباً لتعليق الأوزار عليه، مثل تفسير معضلات اقتصادية واجتماعية من خلالها. كما أنّها حبكة نمطية تقوم على اختزال عرض “المشكلة” تمهيداً لترويج “الحلّ” الذي يطيب لأرباب الكراهية والعنصرية أن يحتكروه لأنفسهم لتعظيم دورهم الذاتي وضمان مصالحهم في التصدُّر والبقاء في المشهد.