لماذا ترضخ بعض المجتمعات للغواية العنصرية؟

لماذا ترضخ بعض المجتمعات للغواية العنصرية؟

حسام شاكر

لماذا تنشأ العنصرية في المجتمعات والبيئات، أو كيف يمكن تفسيرها بالأحرى؟ تتعدّد بواعث الرُّضوخ للغواية العنصرية حسب كلِّ حالة وكلِّ سياق، وقد تتقاطع بعض البواعث وتتداخل في الحالة الواحدة، كما أنّ مسالك العنصرية ومظاهرها تتعدّد أو تتباين حسب البيئة والظرف والسِّياق.

يُغوي الموقفُ العنصريُّ أصحابَه بأن يرتشفوا من الإحساس المُضلِّل بالتفوّق والامتياز على آخرين، من خلال نظرة مُتعالية عليهم أو عبْر تصنيفهم ضمن فئاتٍ أقلّ شأناً أو أدنى مرتبة؛ وقد يُؤتَى بذلك بصفة صريحة أو إيحائية. إنّ تلبية الحاجة إلى التمايُز والتفاضُل بنزعة استعلاء سلالي أو إثني أو ثقافي كفيلة بأن تُوْقِع الأوساط المُستسلمة لإغراء النزعة في قبضة الغواية العنصرية. وقد يَصْعُب تشخيص الحالة أحياناً؛ بالنظر إلى حرص أُمَم الحاضر على إظهار امتثالها الشكلي لشعارات أخلاقية مرفوعة، فثمّة تعالٍ مُتذاكٍ تلجأ إليه خطابات لا يبدو من ظاهرها أنّها عنصرية أو فوْقية، كأنْ تُصادِر قيَماً نبيلة لأمّتها وتحتكر مبادئ سامية لثقافتها وتنزع هذا الامتياز بشكل ضمنيّ أو إيحائيّ عن مُكوِّنات مُحدّدة أو أُمم مُعيّنة، كما يجري مع مفاهيم “الحضارة” و”التقدُّم” و”حرية التعبير” مثلاً.

يتطلّب ذلك استدعاء “آخر” من نمط مُعيّن وتقديمه في قالب ذميم كي يكون نقيضاً للذات الجمعية النبيلة كما تُتصوّر، أي “نحن” المُكلّلة بهالة مجيدة، فازدراء فئة مُعيّنة، أي “هُم” الذين وقع انتقاؤهم من بين آخرين، يأتي كنايةً عن منْح “نحن” شعورَها برشفة التفوّق الحضاري والقيمي والأخلاقي والمبدئي. لا تنفكّ هذه الحيلة عن تزييف صفة “الآخر” أو حتى تلفيقه واختراعه على نحو يتواطأ مع مقاصد سرديّات مُتعالية أو مُتغطرسة.

ثمّ إنّ النزعات العنصرية وحمّى الكراهية تكون مرشّحة للتفشِّي عندما يتحسّس “الشعب” أو “المجتمع الأصلي” أو “مجتمع الأغلبية” من مظاهر تنوُّع إثني وثقافي يراها تتزايد من حوله. إنّ ذمّ مُكوِّن مُعيّن وتشديد النكير عليه قد يكون حيلة تلجأ إليها أوساط من “مجتمع الأغلبية” للتعبير عن إحساسها بفقدان السيطرة التي عهدتها من قبل على واقع يتغيّر من حولها. يَحدُث الإحساس الجمعي بفقدان السيطرة المعهودة على الواقع عندما يستشعر بعض “المواطنين التقليديين” انفلاتَ المشهد من بين أيديهم وخروج الموقف عن نطاق تحكّمهم لصالح تأثيرات وافدة. إنّ هذه الحالة الانطباعية ذات طبيعة ساذجة وغير عقلانية، وهي تتميّز بنزعة جامحة وبقابلية للتطرّف في الأحكام والمُغالاة في المواقف. يحدث هذا، مثلاً، في حواضر مدينية تستشعر تغيُّرات ديمغرافية تدفع بقاطني الأرياف والبوادي إليها أو تحسّ بتدفّق اللاجئين والنازحين نحوها مع ما يُلازم ذلك من تغيّرات في أنماط السُّلوك وأعراف المجتمع. يصير الإحساس باغتراب “الأصليِّين” عن الواقع الجديد، وهو موقف نفسي أساساً، مُحرِّضاً على ذمّ مكوِّنات جديدة وإظهار التعالي عليها. تتّخذ الحالة تجلِّيات أوضح، عادة، عندما يتعلّق الأمر بخلفيّات إثنية مُتباينة بوضوح، ما يُحَفِّز قلقاً هُويّاتياً تجد بعض النزعات العنصرية مرتعاً فيه.

عند التدقيق في هذا المشهد يتّضح أنّ التحفّظات تتّجه عادةً إلى بعض الآخرين وليس كلّهم، فيُنتقى مُكوِّن مُعيّن أو بعض مُنتسبيه ويُوْضَع في مرمى الذمّ والاتِّهام الرمزي، دون غيره من المُكوِّنات المُستجدّة على التركيبة السُّكانية. فمقولة “الأجانب” لا تشمل “الأجانب” جميعاً في الواقع وإنّما بعضهم على الأرجح، أو من “لا يشبهوننا” منهم في لوْن البشرة وبعض المظاهر الشكلية والطبقية مثلاً.

إنّ موقف “مجتمع الأغلبية” أو “الشعب الأصلي” من مُكوِّنات استجدّت على التركيبة السُّكّانية قد يُحاكي مشاعر الغيرة التي تنتاب الطِّفل الأوّل بعد ميلاد شقيقه، إذ يتحسّس مَن اعتادوا الاستئثار بالمشهد المجتمعي مِن وافدين “جُدد” إليه. تتدحرج الحالة مع الخشية من تقاسُم مكاسب مجتمع الرفاه مع مكوِّنات مجتمعية أخرى، وتكتسب بعض المزاعم والتلفيقات التي تنسجم مع هذه الخشية قبولاً ملحوظاً لدى جمهورها، من قبيل أنّ “أولئك يستفيدون من الخدمات الاجتماعية بغيْر وجه حقّ”، أو أنّهم “يحصلون على امتيازات في السكن والصِّحّة والتعليم على حسابنا”، وغالباً ما يتضخّم الوعي بحقوق يُزعَم أنّ هؤلاء يتلقّونها بينما تُغفَل واجباتٌ والتزاماتٌ وضرائب وخدماتٌ يؤدُّونها للبلاد والمجتمع.

وكي تكتمل الحبكة يُنظَر إلى هؤلاء على أنهم كمّ عددي ومُؤشِّر إحصائي وكتلة مُتجانِسة؛ ما يحجب الوعي بحقيقتهم الإنسانية وبمظاهر التنوُّع الكامن ضمنهم أيضاً. من شأن ذلك أن يُعزِّز الشعور بتهديد مزعوم تُمثِّله هذه “الكتلة” التي تُرى متماسكة على غير حقيقتها غالباً؛ وكأنها جيش جرّار من الغُزاة أو أسراب من الكائنات البرِّيّة سريعة التكاثُر؛ وليسوا بشراً وشركاء مواطنة أو مُساكنة كغيْرهم من السُّكّان.

وقد تَلقَى خطاباتٌ عنصرية رواجاً في مجتمع مُعيّن عندما تستشعر أوساطٌ تقليدية منه أنها لم تقتدر على منافسة مُكوِّن مُعيّن أو فئات مُستجدّة في مجالات معيّنة من الحضور الاجتماعي وسوق العمل والنجاحات الظاهرة مثلاً. إنّ الإحساس بخسارة المنافسة وفقدان المواقع لصالح مُكوِّن صاعد محسوب على “الأقلِّيّات” أو “المُهاجرين” يحمل معه خبرات واعدة؛ قد يُحَرِّك مشاعر غير سويّة لدى بعض مُنتسبي “مجتمع الأغلبية”، وقد تتدخّل نظريّات مُؤامرة مُعيّنة لتفسير هذا الحراك الاقتصادي – الاجتماعي بما يوافق أهواء ترضخ للغواية التأويلية السقيمة التي تُشجِّع ميولاً عنصرية كامنة. لا عجب أن تتفشّى نزعات عنصرية عندما تتجلّى بوادر حضور مشهود واندماج فعّال ومشاركة نشطة لمكوِّن من “الأقلِّيّات” أو “المهاجرين” في بيئة معيّنة؛ ما يستنفر استجاباتٍ مُنغلقة من جانب أوساط من مجتمع الأغلبية عندما لا ترى هذه التحوّلات من منظور عادِل. كانت تلك من خبرات الاجتماع الإنساني المُؤلمة في الماضي والحاضر، وقد تسبّبت في إحباط آمال مُكوِّنات إثنية مُعيّنة في تطوير حضورها وإنعاش اندماجها الفعّال في الواقع وتحفيز مشاركتها النشطة في بيئات كان يُفترض أن تضمن تكافؤ الفُرَص لجمهورها المتنوِّع عموماً. إنّ التأويل العنصري لبوادر الصُّعود ومؤشِّرات النجاح تلك؛ يمنح أوساطاً من “مجتمع الأغلبية” تتذرّع بهذا التأويل تفسيراً سهلاً ومرغوباً لما يجري؛ ينأى بها عن نقد الذات أو لوْمها، وهو قابل لأن يتطوّر في هيئة استراتيجية مُضادّة مُكرّسة للتضييق على المكوِّن المعنيّ وإحباط مساعيه لمواصلة الصُّعود الاقتصادي والاجتماعي وتحسين فرصه في الحضور في قلب المشهد المجتمعي، وقد تتمكّن هذه الاستراتيجية في الواقع وتصير مُعتمدة بشكل أو بآخر من جانب أنظمة وسُلطات ودوائر نفوذ فتصير العنصرية والتفرقة نهجاً مؤسسياً.

وإنْ غابت فرص المُعايشة بين بعض المُكوِّنات المجتمعية، لأسباب إثنية أو طبقية أو وظيفية، فإنّ الجهل والقطيعة يُحَفِّزان مخاوف مُتأصِّلة من ذلك “الآخر” الذي لم يُخالَط في الحياة اليومية ولم يحصُل الاقتراب الودِّي منه. فالمجتمعات التي تتنافر فيها المُكوِّنات أو تعيش جنباً إلى جنب دون معايشة مشتركة قد يستبدّ بها سوء الظنّ وتجمح بها تصوُّرات خُرافية أو مُغالية عن ذلك “الآخر”، فتُحجَب بالتالي فُرَص التواصل الودِّي والتماثُل الوجداني بين أفرادها من خلفيّات مُتنوِّعة؛ رغم ما ينطوي عليه المشهد من سمات تشابه إنساني وخصائص مُشتركة واهتمامات جامعة. لا عجب أن ترضخ بعض الأقاليم التي لم تجرِّب مظاهر التنوّع للغواية العنصرية أكثر من أقاليم أخرى تعيشه واقعاً، وهذا ضمن دولة واحدة. فتضاؤل خبرات المُعايشة مع مُكوِّنات أخرى يمنح الخطابات الساذجة فرصاً أعلى للقبول ويحفِّز نزعات بدائية ومخاوف تقليدية وخشيةً كامنة من شبح “الآخر” المُتصوّر ويفتح الباب على مصراعيْه لسوء الفهْم وإساءة التأويل. على أنّ العنصرية قد تجد فرصتها أيضاً في التقارب البشري الممزوج بالاحتكاك والتنافس بين بعض المُكوِّنات، خاصة في ظلّ معضلات معيشية مزمنة وأزمات اقتصادية واجتماعية تُذكي قابليّات النِّزاع والصِّراع. ثمّ إنّ بعض ما يجري من تفاعلات على هذا النحو في حيِّز محدود قابل لأن يحصُل بأبعاد مُتضخِّمة في حيِّز مُعَوْلَم؛ وإن لم يَكُن ملحوظاً أو مفهوماً. فالعدوى العنصرية قابلة، أكثر من أي وقت مضى، للعبور عبر الأقاليم وتناقُل المضامين والخبرات، وصارت لها صناعات ومنصّات ومُحفِّزات محبوكة، مع تسارع منحى الاستقطاب والتخندُق، كما يتجلّى في مضامين مواقع التواصل وبعض المبادرات العنصرية في الواقع وفي تفشِّي حمّى التطرِّف الطافحة بالأحقاد الإثنية من أنواع شتى.

مِن المُفارقات التي تنطوي عليها النزعات العنصرية وحمّى الكراهية بحقّ “المهاجرين” مثلاً أنها تصدر أحياناً حتى عن مكوِّنات محسوبة على خلفية هجرة، وقد يكون آباؤها أو أجدادها واجهوا رفضاً عنصرياً شبيهاً على هذا الأساس. وقد يُبدي بعض المُلتحقين بببئة مُعيّنة موقفاً مُتغطرساً أو “عنصرياً” في ظاهره ضدّ مَن جاؤوا بعدهم، تعبيراً عن نزعة مُزايدة مُكرّسة لإقناع الذات والمجتمع باستحقاق الانتماء إلى البيئة. من المُفارقات، أيضاً، أن تُسمَع نبرة خشية على “هُويّة البلد” أو “الثقافة الوطنية” بسبب الهجرة داخل دول اجتاحت أُمَماً أخرى وطمست بعضاً من هُويّاتها وثقافاتها وخصوصيّاتها خلال العهد الاستعماري مثلاً. وثمّة خطابات عنصرية تَعُدّ المهاجرين واللاجئين خطراً على البلد، رغم شكاوى البلد ذاته من عنصرية تستهدف مهاجريه إلى بلدان أخرى تُصوِّرهم في هيئة خطر عليها.

مِن مُلابسات الانزلاق التقليدية أنْ تُؤجِّج الأزمات الاقتصادية والاجتماعية حمّى الكراهية والنزعات العنصرية في المجتمعات، ويزداد احتمال ذلك عندما لا تقاوم صفوة المجتمع وقياداته إغراء هذا الانجراف ولا تتسلّح باليقظة المبدئية. فشعور “مجتمع الأغلبية” بضيق الأحوال يدفع أوساطاً منه إلى استسهال تحميل مُكوِّن مُعيّن المسؤولية عن صعوبات وأزمات في الواقع القائم، رغم أنّ أسبابها قد تكون بمنأى عنه. من شأن هذا أن يُفسِّر بروز مظاهر عنصرية في زمن الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، كما يفيد في استشراف تطوُّرات قد تترتّب على أيِّ أزمة اقتصادية محلِّيّة أو عالمية قد تطرأ. ممّا يُفاقم المنحى أنّ المُقاربة العنصرية تجود على جمهورها بتفسير سهل لمعضلات الواقع المُعقّدة من خلال تحميل طرف مجتمعي مُعيّن المسؤولية عن ذلك واتِّخاذ هذا الطرف مشجباً لتعليق الأوزار المتراكمة عليه. إنّها وصفة مثالية لخطابات شعبوية، فهي تُتيح حشد الجماهير خلفها واختزال الحلول المُقترحة في استهداف المكوِّن المعني والإضرار به.

تنزلق بعض المجتمعات إلى العنصرية وحمّى الكراهية في حالة الضِّيق، أي عند شحّ الموارد والتنافس عليها، وقد يكون هذا سبباً في اندلاع صراعات مناطقية أو قبلية في بيئات مُعيّنة لم تتطوّر فيها أنظمة تضبط التنافس وتحتوي الصِّراع، بينما يُذكي هذا المنحى استقطاباتٍ شعبوية في بيئات “حديثة” تصعد معها خطابات عنصرية حتى في فضاء الديمقراطيّات العريقة. من شأن تطوُّرات غير محسوبة، في هذه الحالة، أن تقدح شرارة الصِّدام وتدفع التوتّرات الكامنة إلى أتون الانفجار، كأن تقع جريمة قتل تُحسَب على فرد من مُكوِّن مُعيّن فيُحمّل ذلك المُكوِّن بحياله مسؤولية ضمنية عن الحدث ويُنادَى بالانتقام الأعمى أو بإجراءات “رادعة” من شأنها أن تمسّ المكوِّن في عمومه بشكل مُباشر أو غير مُباشر، رغم وفرة جرائم القتل التي يمارسها أفراد من المُكوِّنات جميعاً.

وإنْ استبدّت مشاعر الخوْف والقلق بالجماهير فإنّها تُبدي قابلية أعلى للتنازل عن التزامات مبدئية وتصير عُرضة للانسياق خلف خطابات عنصرية. ذلك أنّ مَوْقف الخوْف يُعطِّل فرص الإدراك الموضوعي للواقع ويمنح الجموح حظّاً أوفر. يتجلّى هذا المنحى عندما تقع جرائم مروِّعة أو اعتداءات دامية أو هجمات إرهابية أو أعمال شغب تُنسَب إلى المكوِّن الذي تستهدفه العنصرية رغم أنّ الضالعين في ذلك لا يتجاوزون أفراداً معدودين أو أوساطاً محدودة، بينما تُعزَل هذه الأحداث عن سياقها الواقعي غالباً.

تنتهز الخطابات الشعبوية الأزمات القائمة أو المُتوهّمة فتتصدّى لتشخيص “المشكلة” على طريقتها وتجترئ على تحديد “الحلّ” بخيارات سطحية وساذجة ومُتعسِّفة كما يطيب لها. تلجأ بعض هذه الخطابات إلى ثنائية “نحن” و”هُم”، فتُراهِن على شقّ صفوف المجتمع المُتنوِّع في واقعه على أمل فرض برنامجها الجامح أو تحسين مواقعها المجتمعية أو الصُّعود بأرصدتها الانتخابية. قد تُسدي بعض التطوُّرات خدمة جليلة لهذا الخطاب المُتشنِّج، خاصّة مع صعوبات اقتصادية واجتماعية وثقافية تواجهها مُكوِّنات مُجتمعية هشّة أو حديثة التشكُّل، ومنها مظاهر الجريمة أو الاضطرابات الشبابية مثلاً. وإنْ تفاقمت مشكلات أمنية وأعمال إجرامية من هذا الوجْه فإنها تضغط على المجتمع عموماً وعلى المُكوِّن المُستجدّ خصوصاً، أسوة بحالات شبيهة في بعض تجارب الهجرة؛ التي تتشكّل في ثناياها شبكات مُنظّمة تستند إلى روابط إثنية وعشائرية تدير “اقتصاد ظلّ” قائم على الجريمة المنظّمة وفرض الأتاوات وغسيل الأموال. يتيح النشاط الإجرامي فرصاً حالمة للإثراء وبسط النفوذ لأوساط لا تستشعر حظوة اقتصادية ومجتمعية، فيصير الكسْب غير المشروع طريقاً مُعبّدة لتجريب وعود مجتمع الرفاه المحيط بصاعدين يُعانون من ضعف القدرة الاقتصادية وتدنِّي المؤهِّلات التعليمية ولا يَحظون بتراكم الثروة عبر الأجيال أو بعمق تاريخي متجذِّر في البلاد. لن تتردّد الخطابات العنصرية والمُتطرِّفة في استغلال هذه التطوّرات والمُتلازمات في تصعيد نبرتها وتبرير مذهبها وتعزيز حضورها، مع تجاهُل أيِّ مظاهر عُنف وجريمة أخرى إنْ جاءت من “مجتمع الأغلبية” تحديداً.

على أنّ القلق والمخاوف لا يتوقّفان على أزمات قائمة؛ فهما يمتدّان إلى هواجس مُتخيّلة أو مُفترضة تستثيرها خطابات عنصرية تتعمّد إثارة الهلع ورسم صورة مُخيفة لما هو قادم. تتدخّل بعض المزاعم الاستشرافية والمقولات النظرية لإثارة القلق من الآتي، من قبيل الادعاء بأنّ البلاد “تنتحر ثقافياً”، مع ربط ذلك بمكوِّنات مجتمعية مُعيّنة يُصوّر حضورها على أنّه اجتياح وغزو أو نذير بتقويض الهُويّة الذاتية. جدير بالملاحظة أنّ الهُويّة الذاتية التي تُمجِّدها الخطابات العنصرية تتّسم بالجمود والتحجُّر أو تغلب عليها نزعة ماضوية حالمة وخطابات استئناف ماضٍ مُتخيّل، فهُويّة الأمّة أو البلاد تُصوّر في هيئة مُنغلقة على ذاتها ولا تحتمل التطوّر والانفتاح بالأحرى. وما يُغري باستساغة ذلك أنّ الهُويّة تبقى حالةً تصوُّرية أساساً، وما إنْ يقع تعريفُها وتحديدُها حتى تجري المجازفة برسم صورة مُفتَعلة لها أو وضعها في قالب جامد لا يطابق الواقع؛ كما فعلت نزعات قوميّة مُتطرِّفة في الماضي والحاضر.

وإزاء العنصرية المُلازِمة للشعور بضيق الأحوال؛ ثمّة عنصرية ترتبط بالسّعة. فبعض الخطابات العنصرية يُحفِّزها إغراء الرفاه ورشفة الشعور بالاقتدار والتقدُّم والإحساس الغامر بالتمكُّن والاستعلاء على آخرين لا يُرى أنّهم بلغوا هذا المبلغ من “الرِّيادة”، وهذا من صُوَر الطُّغيان المُترتِّب على استشعار الاستغناء. عرفت مجتمعاتٌ عدّة صعود تأويلات سُلالية وثقافية ذميمة أوحت لجماهيرها بعلوّ مرتبتها على فئات أخرى من البشر وافتُتِنت بمكتسبات علمية وتقنية واقتصادية ومعاشية ومدنية فاتّخذتها شواهد إثبات على هذه الحُجج الساذجة. بلغ الجموح ببعض هذه التأويلات أنْ قسّمت البشر إلى مراتب، حسب تصنيفات لونية وسُلالية وثقافية مُفتعلة، إلى حدّ أوحى بنزع الصِّفة الإنسانية عن بعض البشر الذين صُنِّفوا بيولوجياً وإثنولوجياً وثقافياً في مراتب وضيعة. ارتكزت خطابات عنصرية، في المقابل، إلى سرديّات تاريخانية أو قوميّة مُتطرِّفة أو أسانيد أسطوريّة أو تأويلات دينية، صار معها قلّة من البشر عِرقاً نبيلاً أو طبقة مُتعالية أو شعباً مُختاراً أو نحو ذلك، وعبّرت بعض هذه الخطابات في منشئها عن ردّ فعل على خبرات مُلاحقة واضطهاد واحتقار واجهتها جماعات بشرية مُعيّنة فاخترعت حكايتها الذاتية في السُّموّ المُزيّف والتعالي المُضلِّل.

ممّا يشجِّع العنصرية والانتقاص من المكانة الإنسانية أنّ استعمال هذه النزعات قد يبدو لجمهورها مُجدياً ويحقِّق له مكاسب استغلالية يَصعُب التفريط بها. فالعنصرية خدمت، ولا زالت تخدم، بعض وجوه الاستغلال الاقتصادي والاجتماعي، من قبيل التواطؤ على استعباد مُكوِّن مُعيّن، أو دفع فئات مُعيّنة دون غيرها إلى أعمال شاقّة ومُحتقرة، أو حرمان أجيالها من فرص صعود اجتماعي ومنافسة اقتصادية عادلة، أو الاستفادة من واقع إقصاء يمسّ وافدين جُدد إلى بيئات مُعيّنة على نحو يُنعش مسالك الاتِّجار بالبشر أو الاستغلال التشغيلي؛ نظراً لانعدام تكافؤ الفرص في سوق العمل أو انسداد منافذه في وجه بعض المُكوِّنات. تُحقِّق بعض الهوامش مكاسب استغلالية للمركز المجتمعي إذ تجود عليه بعمالة رخيصة تَشْغَل مواقع يأنف مجتمع المركز الانخراط فيها، علاوة على وجوه أخرى قد تشمل التسلية الهابطة والاستغلال الجنسي أيضاً.

وقد يُعثَر على خطابات عنصرية ضمن سرديّات تبرير العدوان والسيطرة على أراضٍ وديار وموارد بغيْر وَجْه حقّ، كما يتجلّى في العديد من مُمارسات التطهير العرقي والإجلاء السكاني والاستيطان الإحلالي في ماضي البشر وحاضرهم. فالذريعة العنصرية تمنح الذات العدوانية الجامحة وصفةً تبريرية للسّطْو والسّلْب؛ كأن تنزع أحقية المُكوِّن المُتضرِّر في البقاء أو الإقامة أو التملُّك أو الحيازة وتسوِّغ الفتك به والسيطرة على أرضه ودياره وموارده وتبديد خبراته وتقويض مكتسباته. تتدخّل قوانين ومراسيم وأنظمة وإجراءات لتنظِّم عملية السطْو والسلْب هذه؛ من قبيل التهجير القسري أو الحرمان من الإقامة أو التضييق على فرص العيش والتملّك والبناء والعمل، أو نزع المِلكيّة بمقولات محبوكة ومُسوِّغات مُلفّقة، مع تسخير قوانين وأنظمة وسياسات وإجراءات لتمكين مجتمع السيطرة أو الاستيطان الإحلالي من استغلال الأراضي والدِّيار والموارد المسلوبة.

قد يأتي سلوك القهْر والاحتقار الذي يتنزّل على مُكوِّن مجتمعي مُعيّن تفريغاً لكبْت واقع على المجتمع عموماً من سُلطة مُستبدّة و/أو من أوضاع اقتصادية واجتماعية قاهرة. لا عجب أن يلجأ بعضُهم إلى تفريغ ضغوط الواقع بازدراء آخرين والاستعلاء عليهم، أو أن تصير هذه ظاهرة مُتفشِّية تُوْقِع انتهاكاتٍ على أفراد من إثنيات مُعيّنة أو فئات فقيرة أو عاملين وافدين أو مُستخدَمين في أعمال مُستحقَرَة. قد يُخفي سلوك التفريغ إحساساً لدى الضالعين فيه بالدونية والقهر، أو يُوْحي بوجود سلسلة من مظاهر التعالي والاحتقار والاستغلال عبر طبقات المجتمع ومراتبه، وقد يكون بمثابة إعادة تجريب ما يُمارَس مع مُمارسيه. قد ينتهي المشهد، مثلاً، بربّة بيْت تتعامل باحتقار عنصري مع عاملة منزلية فقيرة من إثنية مُعيّنة؛ بينما تُعاني ربّة البيْت ذاتها من سطوة زوْج مُتغطرس لا يتوانى عن تعنيفها وإذلالها وازدرائها. وقد يتّخذ الزوْج من آصرته الزوجية هذه فرصة تفريغ كبت الحياة اليومية وما ينتابه فيها من كبت وإحباط ومن إحساس بسطوة الرئيس على المرؤوسين في مراتب العمل والإدارة والدولة من أعلى إلى أدنى. إنّها الحالة التي تصير فيها الغطرسة والتعالي، وربّما القمْع والقهر إلى حدّ السّاديّة أحياناً، ثقافةً مجتمعية تُترجَم بعض تعبيراتها في صِيَغ عنصرية وإثنية وسُلالية. وإنْ تهاوَن المجتمع مع بعض هذه التعبيرات في مُستوى من المُستويات أو وسط من الأوساط؛ فقد يشي ذلك بانطوائه على تعبيرات أخرى من هذا القبيل ظاهرة أو مُستترة في مستويات وأوساط تتخلّله.

لا تقتصر البواعث على ما سبق؛ فقد تكون النزعات العنصرية في جوهرها تغليفاً لموْقف طبقي يخشى صعود أجيال جديدة إلى مركز المشهد وفي مراتب الحياة العامّة ومستويات الإدارة والقيادة. هذا ما يُستشفّ من استئناف بعض مظاهر التعالي الطبقي التقليدية مع مُكوِّنات إثنية مُستجدّة، على منوال نزعات طبقية ذميمة استهدفت مُكوِّنات من مجتمع الأغلبية ذاته من قبل. ممّا يمنح هذا الاحتمال قدرة تفسيرية، نسبيّة على الأقلّ، أنّ بعض المُكوِّنات المُستجدّة من خلفية هجرة صارت تشغل مواقع عمل وأحياء سكنية تركّزت فيها “بروليتاريا” الأمس التي واجهت النبْذ وعانت من قوالب نمطية سلبية من طبقات تعلوها في السُلّم الاجتماعي سابقاً. تُستعاد بعض التقاليد الطبقية على هذا الأساس لكنّها تأتي مُشبّعة بموقفِ تَعالٍ إثني أيضاً، ما يزيد من وطأتها ومفعولها ويُخفي بعض جوهرها المُستتر أيضاً.

وفي زمن الصِّراع والاحتراب تُمارس التفسيرات العنصرية للأحداث غوايتها مع الجماهير كي تنزلق إلى خنادق الاستقطاب المُتبادل؛ ما يُهدِّد بتوفير عُمق مجتمعي غائر للمواجهة على أساس هُويّات إثنية أو انتماءات فرعية. من شأن ذلك أن يُذكي الصِّراع ويمنحه أفقاً زمنياً مديداً ويزيد من صعوبة رتق النسيج المجتمعي بعد اهترائه.

لا يَخفَى، هنا، أنّ الخطاب العنصري قابل لأن يُستعمَل وظيفياً من جانب سُلطات وقوى سياسية ومجتمعية، فهو خطاب مُضلِّل في حقيقته؛ إذ يصرف الأنظار عن معضلات الواقع أو يُعطِّل التفكير بأسبابها وملابساتها، كما أنّه يُتيح فرصاً مُثلى لحشد أنصار وتكتيل جماهير في الواقع المجتمعي على الأرض و/أو في مواقع التواصل التي تشجِّع الاستقطابات المُتطرِّفة. ينجح التكتيك العنصري في حَرْف النقاش العامّ في البيئة السياسية والإعلامية عن أولويّات مُعيّنة، فتلجأ إليه حكومات تخشى المُساءلة الشعبية أو الخسارة الانتخابية كي تستنفر المشاعر ضدّ طرف ثالث تُحَمِّله مسؤولية ما عن الإخفاقات أو تُوحي بأنّه مصدر تهديد، أو لعلّها تفعل لتشغل الجماهير، عبر هذه الحيلة، بأولويّات مُضلِّلة ببساطة. وقد تلجأ أنظمة سُلطوية إلى إيقاد نار الفتنة العنصرية بين مكوِّنات الشعب على أسس قبلية أو مناطقية أو طائفية، مثلاً، كي تضمن افتراق الإرادة الشعبية وتشظِّيها كي تبقى هذه الأنظمة ناظم الإيقاع في الدولة والمتحكِّم المُطلَق في المشهد.

وإذ تتعدّد بواعث الرُّضوخ للغواية العنصرية حسب كلِّ حالة وكلِّ سياق، فإنّ العِظات التي يََجدُر استخلاصُها من تجارب الماضي والحاضر تُلقي بمسؤوليّات مُؤكّدة على المجتمعات عموماً، وعلى صفوتها وقواها الحيّة خصوصاً؛ بأن تتحلّى باليقظة المبدئية والالتزام الأخلاقي وبشجاعة المكاشفة والإصلاح. تسقط أوساطٌ ومجتمعاتٌ وأُمَمٌ في فخاخ هذه الغواية من حيث احتسبت أو لم تحتسب؛ عندما تتهاون مع العنصرية في منابتها أو تتواطأ مع النزعة في مُقدِّماتها. تتكثّف الغواية إنْ تعاقبت على المشهد المجتمعي تغيُّراتٌ داهمة وتحوُّلاتٌ مُتسارعة، وخسر المواطنون أقساطاً من رفاههم، واستبدّت بهم مخاوف وهواجس، وتراكمت من حولهم أزمات ومتاعب، أو انزلق البلد إلى أتون توتُّرات وصراعات تُذكيها العنصرية وتستثمر فيها بلا هوادة.

*جميع المقالات المذكورة في الموقع تعبر عن رأي أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي المنظمة