ما وراء “العنصرية” التركية
في شارع 1218 في منطقة باغلارشيشمي بحي إسنيورت وتحديداً الساعة السابعة؛ والنصف مساءً وقع شجار بين أسرة تركية وأسرة سورية، على إثر شجار بين طفلين من الأسرتين، عنف الأب التركي الطفل السوري بشدة، فخرج على إثر ذلك والد الطفل السوري من بيته مستلاً سكيناً، وحدثت مشادة مع الأب التركي، وطعن الأب السوري الأب التركي في قلبه فأرداه قتيلاً، ورغم تدخلات الفرق الطبية في مكان الحادث، فارق الرجل الحياة، وتمكنت الشرطة من القبض على الجاني رغم فراره.. هكذا نقلت الصحف التركية الحادثة، لكن اللافت أن يتجمهر العشرات بعد الحادث وينددون بوجود السوريين في بلادهم ويطالبون بطردهم.
يومياً وفي نشرات الأخبار الساعة السادسة في معظم القنوات، هناك فقرة ليست بالقصيرة عن حوادث إجرامية حدثت في طول البلاد وعرضها، ومنها حوادث قتل أو مشاجرات بين المواطنين، ومن يتابعها يشعر أن تركيا عبارة عن غابة يأكل فيها القوي الضعيف، في حالة توحي بغياب القانون ومنفذيه، أو على الأقل تأخرهم في تنفيذه. وهو أمر طبيعي، فلا تستطيع أكثر الدول تقدماً منع جريمة، وفي ذلك أبحاث كثيرة، تحاول فيها البلاد المتقدمة الوصول إلى محل الواقعة في أقصر مدة، لكن الأبحاث لم تذهب إلى منع الجريمة، إلا فيما يتعلق بأمن الدولة. هذه الفقرة، فقرة الحوادث الجنائية، انزلق فيها التلفزيون الرسمي، كشكل من أشكال المواكبة وعدم التخلف. هذا النهج وما تبثه من برامج يُخلف أثراً نفسياً بلا شك على السلوك الجمعي للشعب، لكن مع ذلك لم نر تجمهراً ما حدث على إثر جريمة وقعت، ولم نر تحطيما للمحلات والعقارات والسيارات، وهو ما يجعلنا نتوقف عند الحوادث التي تقع مع السوريين في الفترة الأخيرة.
بملاحظة الحوادث التي كان أحد أطرافها سوريا، أو حتى عرباً، نجد إما تجمهراً من عشرات الأتراك أو تدخل العشرات في الشجار لإحداث أكبر فوضى ممكنة مستغلين الحادث، كحادثة الشاب اليمني في مجمع “برستيج” في حي إسنيورت أيضاً. ولعل لهذه البلدية خاصية خاصة، إذ أن أغلب قاطنيه من أحد الأعراق المؤيدة بعضها لفصيل إرهابي يتخذ من العراق وسوريا ملاذاً له، وهو ما قد يفهمنا أبعاداً أخرى لحوادث العنصرية التي تقع في الأيام الأخيرة، وتتزايد كلما زاد الضغط الحكومي على هذا الفصيل الإرهابي، كما هو واقع الآن في دير الزور بسوريا.
في اتصالين مختلفين لصديقين يعيشان في دولتين مختلفتين في أوروبا، أحدهما عراقي والآخر سوري، تحدثا معي عن العنصرية في تركيا، وكان أحدهما يريد زيارة تركيا، ويخشى الحضور لتزايد أحداث العنصرية، فقال الرجلان إن السوريين في موطنيهما يحدثون المشاكل حتى باتوا عبئا على البلدان المضيفة وشعوبها.
وهنا يجب التوقف ملياً والتأمل، إذ إن الأمر لا يقتصر على تركيا، فكراهية السوريين خارج بلادهم تتزايد، وهناك من يغذيها، وإذا راجعنا خطاب بشار الأسد في مؤتمر اللاجئين السوريين الذي انعقد يومي 11 و12 تشرين الثاني/ نوفمبر عام 2020 نجد أنه طالب بعودة اللاجئين، وهو يهدف من ذلك إلى إعادة قبضته على شعبه الذي أفلت منه واستخدامه في إعادة البناء، والاستحواذ على المساعدات الدولية على ذمة اللاجئين، وفي ظل الرفض الأمريكي والأوروبي لعودة اللاجئين في الظروف التي تعيشها سوريا، فإن النظام يلعب بورقة اللاجئين مخابراتياً للضغط على المجتمع الدولي ليحصل على ما يريد.
بالعودة إلى جريمة إسنيورت الأخيرة، نجد أن الأب السوري استل سكيناً بمجرد حدوث المشاجرة، بحسب رواية الصحافة التركية، ثم نجد أن الرجل طعن التركي في قلبه، ما يجعل الجريمة محمّلة بسبق إصرار، وهي حالة نفسية وقع فيها الجاني دفعته لارتكاب الجريمة، إذ لو كان الجاني يريد تخويف المجني عليه فقط لأصابه بجرح قطعي، وليس بجرح نافذ يحدثه الطعن، وهو ما يؤكد أن الجو العام الذي يعيشه السوريون خاصة، واللاجئون عامة، مليء بالخوف ومشبع بمظنة العنصرية المشاعة، وينفخ أحدهم فيها.
ولو عدنا لحادثة أضنة المشابهة مع عكس الأدوار، حيث قتل التركي السوري، نجد أن هناك من تحرك وسافر مئات الكيلومترات كي يصور الحادث وينشره بين السوريين ويسلط الضوء عليه، ومن يراجع اللقاء يجد تخبطاً في كلام أولياء الضحية، وكأن أحدهم أملى عليهم رواية لنسج قصة يمكن الاستفادة منها، وهو ما يجعلنا نقف كثيراً عند ما توصلنا إليه من استنتاجات، وإذ ربطنا موقف هذه الجهة بالمعارضة تتأكد تلك الاستنتاجات.
الأيام حبلى بالأحداث وإن لم تتحرك الحكومة التركية بشكل أكبر، وعلى مستوى تخصصي أدق، فإن الأمور ستذهب إلى ما لا يحمد عقباه، فلا يكفي خطاب من رئيس الجمهورية يتوعد فيه ويطمئن، في وقت وأجهزته التنفيذية لا تقدر الخطر بقدره.