مسلسل “رسالة الإمام”: لغة غير مكافئة واستخدام سياسي لحوح

مسلسل “رسالة الإمام”: لغة غير مكافئة واستخدام سياسي لحوح
بقلم: د.محمد شاويش

مسلسل “رسالة الإمام” الذي يعرض في رمضان هذا العام جلب كلاماً كثيراً في ما يسمى “وسائل التواصل الاجتماعي”. وأنا في هذا المقال لا أريد المشاركة في هذا الجدال بل أريد أن أبحث في مسألتين أراهما هامتين تخصان لغة “الأعمال التاريخية” وسياقها الثقافي السياسي الذي يفسر ظهورها ومضامينها، وربما حتى لغة الحوار فيها.

أولاً: في اللغة: عن “التكافؤ اللغوي” في الترجمة:

في الدراسات المعاصرة في علم الترجمة يهتمون بمفهوم “التكافؤ” equivalence وقد دارت حوله نقاشات كثيرة عن معناه ونشأت مدارس في تحديد أنواعه، وثمة نقاشات كثيرة حول إمكانية وجود الترجمة المكافئة أصلاً (للنص الأصلي) في لغة أخرى.
ومن هذه النقاشات نقاش حول ترجمة التنويعات اللغوية language varieties ويستطيع قراء اللغة الألمانية أن يجدوا عرضاً للموضوع في رسالة الدكتوراه التي قدمتها إلى قسم اللغات السامية في جامعة برلين FU حول مشكلة إنجاز ترجمة مكافئة للأدب العربي إلى الألمانية، ويتعلق الأمر في الجزء الذي يهمنا في هذا المقال بإمكانية تحقيق ترجمة مكافئة في اللغة-الهدف لنص يحتوي إلى جانب اللغة المعيارية standard language تنويعات لهجية ضمن اللغة-المصدر.
في “رسالة الإمام” نجد (لأول مرة في المسلسلات التاريخية) ظهوراً للعامية المصرية أثار سخط كثير جداً من المشاهدين، وقد برر صانعو العمل استعمال العامية بأنه محاولة لإظهار الفارق بين لغة السكان القبطية ولغة العرب، بحيث جعل العرب يتكلمون الفصحى والأقباط يتكلمون العامية المصرية.
لأقل في البداية أنني شخصياً لا أنظر إلى أي استعمال للعامية في مجالات كانت حتى الآن محجوزة للغة الفصحى على أنه عمل بريء، بل ينتابني الريب في أنه ربما يكون جزءاً من زحف لحوح مستمر هدفه النهائي إخراج اللغة الفصحى من الاستعمال وإحلال العاميات العربية محلها، وهذه خطة استعمارية قديمة تجد تأريخاً لها في مؤلفات عديدة من أشملها كتاب الدكتورة نفوسة زكريا “تاريخ الدعوة إلى العامية في مصر”. وفي مجال الدراما رأينا كيف أخرجت الفصحى من مجال كانت تستعمل فيه هو الاستعمال الأنسب، ومرة أخرى من منظور دراسات الترجمة، وهو المسلسلات الأجنبية المدبلجة (المكسيكية وغيرها) لتستعمل لهجة محلية مثل اللهجة الدمشقية، وهو ما يقضي على واحد من شروط الترجمة المتكافئة وهو إعطاء معلومة عن أن الأبطال ليسوا عرباً والأحداث لا تجري في بلد عربي (وإلا لتكلموا باللغة المحكية). حين تجعل مسلسلا\ً مكسيكياً أو تركياً ناطقاً باللهجة الدمشقية فستجعل المشاهد في اللاشعور يفقد الانتباه اللازم إلى كون جملة العلاقات الاجتماعية في المسلسل تخالف علاقات الناس في مدينة دمشق! ألا نجد هنا بالمناسبة مثالاً على الدور السياسي-الأيديولوجي لاستعمال اللغة؟ ألا يساهم هذا اللاتكافؤ في الترجمة في بث قيم متناقضة مع قيمنا الثقافية الخاصة والتطبيع معها؟
في “المسلسلات التاريخية” نجد أنفسنا حيال ظاهرة خاصة جديرة في اعتقادي أن تشملها دراسات الترجمة، وهو ما سأسميه “ترجمة نص تخيلي”، ذلك أن الكاتب يصوغ بلغة -هدف نصاً متخيلاً كتب بلغة -مصدر مختلفة بقدر معين يزيد أو ينقص. إن معظم “المسلسلات التاريخية” التي شاهدناها كانت تجعل الأبطال القدماء الذين كانوا ينطقون باللغة (العربية) التي كانت تنطق في زمن الأحداث ينطقون باللغة العربية الحالية، أي أن في الأمر “ترجمة من نص تخيلي”. ولنلاحظ هنا على كل حال أن كتّاب النصوص يتفاوتون في محاولتهم محاكاة اللغة الأصلية للنص التخيلي، ويبدو لي أن الكاتب الذي استطاع بالفعل تمثل لغة قريبة من لغة شخصياته أو لنقل:كانت نصوصه هي الأقرب إلى هذه اللغة كان الدكتور وليد سيف. وليس من السهل أن يحوز الكاتب على هذه اللغة لو أراد طبعاً، لكنْ ثمة عامل آخر له أثر في هذا المجال، وهو إيمان الكاتب بأهمية ذلك أو حتى تنبهه إلى اختلاف اللغة بين لغة شخصياته وهذه اللغة الحديثة التي يستعملها.
وفي مسلسل “رسالة الإمام” يتضح أن الكاتب هو من النوع الثاني، أي الذي لا ينتبه إلى اختلاف اللغة بين العصرين أو لا يرى الأمر مهماً، لذلك جاءت لغة الشافعي والمسلمين العرب الوافدين على مصر لغة حديثة بكل مواصفات هذه اللغة المتأثرة تأثراً كبيراً بالترجمة من اللغات الأوروبية ،وخصوصاً الفرنسية والإنجليزية، وفي شارة المسلسل مثلاً ينسب إلى الشافعي قوله لصديق له: “لا تكن مثالياً”!، وكلمة “مثالي” المشتقة من “مثالية” هي، شأنها شأن كثير من المصادر الصناعية والصفات المشتقة منها، ترجمات حرفية عن التعابير الأجنبية (مثل “الاشتراكية” و”الأنانية” إلى آخره..).
وهذا الافتراق في اللغة بين لغة النص الأصلي المتخيل الفصحى ولغة ترجمته هو بعد أقل إشكالية من ترجمة لغة النص المتخيل الذي قيل كما يفترضون بالقبطية، ولنا ان نبحث في طبيعة اللغة التي كان يستعملها المصريون في ذلك الزمان في بلد كان حكامه من الروم البيزنطيين (الناطقين باليونانية).
والحل الذي وجده مؤلف النص لترجمة النص التخيلي الذي كان بالقبطية وهو نقله إلى العامية المصرية الحديثة يمكن ان يوصف بأن نتيجته هي فقدان التكافؤ في الترجمة، لأن المصرية الحديثة هي تنويع من تنويعات اللغة العربية الحديثة (التي ينطق بها الابطال من أصل عربي وافد) بينما القبطية لغة مختلفة عن العربية التراثية، لغة الأبطال، ولم تكن تنويعاً من تنويعاتها، وكان الأفضل ببساطة أن يترك المؤلف الشخصيات القبطية تنطق بالعربية الفصحى التي ينطقها العرب، وجعل المشاهد باشكال غير مباشرة يحس بأن لغة هؤلاء مختلفة.
هذا إن أحسنٌا الظن طبعاً، ولم نر في الموضوع دساً خفياً لصالح العامية ضد الفصحى، وقد يكون من حقنا الشك في مسلسل لا شيء فيه عفوياً بل هو مصاغ بالكامل للدعاية إلى توجه سياسي-اجتماعي محدد.

ثانياً: في السياق الثقافي-السياسي لمسلسل “رسالة الإمام” و “المسلسلات التاريخية” عموماً:

نحن نذكر “المسلسلات التاريخية” التي كنا نشاهدها أيام السبعينات وبداية الثمانينات، ومنها مثلاً مسلسل عن قتيبة بن مسلم ومسلسل عن موسى بن نصير ومسلسل جميل افتتح به السيناريست المتميز وليد سيف سلسلته البديعة وهو مسلسل “شجرة الدر”. في ذلك الزمان ساد إلى حد كبير فيما أرى حسن النية إن جاز التعبير، فالمسلسل يعمل لأن الناس تحب أن تعود لترى تخيلياً أحداث زمن يرتبط عندها بالاعتزاز الديني والقومي بالنفس حين كان العرب والمسلمون في مواقع حضارية رائدة وقائدة للعالم. وكانت القوى السياسية والثقافية المتصارعة في بلادنا لا تتدخل في هذه المسلسلات، إذ كانت هذه المسلسلات لا تنطق بلسان المتصارعين أو تخضع لتوجيهاتهم بل هي لسان الإجماع الوطني، لأن التاريخ لم يكن أصلاً موضوعاً للنزاع.
ولو أردنا أن نحكم على تلك المسلسلات من معيار التطابق مع الحقيقة التاريخية لوجدنا بالتأكيد مجالاً للنقد. ولكن عدم التطابق مع التاريخ الذي يفترض بتلك الأعمال الفنية أن تعكسه وتعرضه لم يكن ناتجاً عن استعمال التاريخ سلاحاً في “الحرب الأهلية الثقافية” كما أسميها.
تحول التاريخ إلى سلاح في الحرب الأهلية الثقافية العربية منذ صعود “الخطر الإسلامي” كما يسمى (بدون اهتمام بالدقة، وباستهتار لا يغتفر في استعمال كلمة “إسلام” عشوائياً بلا شعور بالمسؤولية ومن قبل الطرفين المتصارعين معاً، أي طرف “الجماعات الإسلامية” وطرف خصومها المحليين والعالميين) التهديد الذي شكلته “الجماعات الإسلامية” للأنظمة العربية وللنظام الدولي أحياناً كما في حالة الثورة التي افتتحت عصر “الصحوة الإسلامية” وهي الثورة الإيرانية.
منذ ذلك الوقت ما عادت الأنظمة وحلفاؤها الموضوعيون في شريحة المثقفين ذوي الثقافة المتأثرة بالثقافة الغربية (بالتحديد: بالترجمة العربية لتلك الثقافة أو بما يفهمه منها المثقفون العرب المعجبون بها) يمكنهم أن يمروا مرور الكرام على نصوص درامية وغير درامية تتكلم عن التاريخ دون اهتمام بما يمكن أن تحمله تلك النصوص من إسقاطات على الصراع السياسي -الثقافي القائم.
لم يعد صلاح الدين مثلاً بطلاً تاريخياً هو موضع تقدير الإجماع الوطني، بل صار شخصية لا بد من إدخالها في صراع قام بعد موتها بألف سنة لتشهد لهذا الطرف ضد ذاك) لا بد من أن يتذكر العرب ما كانوا نسوه قروناً طويلة من انتماء صلاح الدين الإثني(قبل هذا الزمان من كان يتذكر أن صلاح الدين كردي؟).
ولم يعد من الممكن إذن أن يصوّر الشافعي كما كان من الممكن تصويره في الفترة “البريئة” التي وصفتها في مطلع هذه الفقرة، أي تعرض مقتطفاتومن أحداث حياته المعروفة، وتعرض سيرته العلمية بدون نية مسبقة في التوجيه الثقافي- السياسي، فلا بد أن يغمز من قناة تعصب “الجماعات الإسلامية” الطائفي فنقدم الشافعي نموذجاِ معاكساً يوبّخ هذه الحماعات ويقرّعها على تعصبها عندما يأخذ الإمام زوجته المريضة لتتداوى عند راهب قبطي يضع على صدره صليباً كبيراً، ويجيب من يستغرب ذلك من مرافقيه بالإجابة التي سمحت بها المعرفة (المتواضعة كما يتضح للمشاهد الخبير بالفقه الإسلامي) لصانعي المسلسل في مجال الفقه الإسلامي.أوكلت كتابة المسلسل وإخراجه إلى مثقفين حديثين ليست لهم علاقة قوية بالتراث ولا لغته، وتمتعوا بكس وإهمال يثير العجب من أن الطرف المنتج أنفق كل هذه النقود على نص لم يراجع لغوياٍ ولا تاريخياً، ولم يكلف أحد من صانعي المسلسل خاطره حتى باستشارة عالم من علماء المذهب الشافعي ليعرفهم مثلاً أن الشافعي كان يرى الجهر بالبسملة في الصلاة، ولم يخطر على بالهم حتى أن يتأكدوا من أن بعض الشعر الذي نسبوه إلى الشافعي هو من زمنه حقاً ولم يقله شاعر حديث لا يزال حياً يرزق!
يعبر المسلسل عن غربة ما أسميته “ثقافة النخبة” في كتابي الأخير “الثقافة العربية المعاصرة” عن الثقافة العربية المعيارية التي تتضمن كل المكونات المقبولة من الجماعة العربية، ومنها مكونات حديثة ومكونات تاريخية تنتمي إلى “الثقافة العالمة” القديمة ومنها علم الفقه كما هو مدون في كتب المذاهب المعتمدة إلى الآن في المجتمع الإسلامي.

لم يتطابق المسلسل مع الحقائق التاريخية ولا مع اللغة التي نطق بها الأبطال الأصليون،

بل كان سلاحاً من الأسلحة المستخدمة في الحرب الأهلية الثقافية، واحتوى على توجهات مريبة في شأن ترويج العامية

ومحاصرة الفصحى مزيداً من الحصار.

*جميع المقالات المذكورة في الموقع تعبر عن رأي أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي المنظمة