مفاهيم مضلِّلة ومقاربات خاطئة في مواجهة العنصرية والتفرقة

مفاهيم مضلِّلة ومقاربات خاطئة في مواجهة العنصرية والتفرقة

حسام شاكر

إنْ اتفقت الجمهرة على مخاطر العنصرية والتفرقة والتحريض والتشويه؛ فإنّ ذلك وحده لا يمنع هيمنة مفاهيم مُضلِّلة وطغيان مُقاربات خاطئة على خيارات التصرُّف والمعالجة. ما يزيد من وطأة هذا القصور أنّ بعض هذه المفاهيم والمقاربات تبدو مألوفة ومُسلّماً بها أحياناً أو تُعَدّ عقلانية ومنطقية ببساطة، فتتمكّن من الأذهان إلى درجة ترتفع بها فوق منسوب الشكّ بها أو دواعي التمحيص الذي تستأهله.

في ما يلي حشد من المفاهيم المضلِّلة والمقاربات الخاطئة التي تشيع في التعامل مع العنصرية والتفرقة، ولا شكّ أنّ بعضها، على الأقل، جسيم الأثر ووخيم العاقبة.

 

تحميل الضحايا مسؤولية المعالجة:

من المفاهيم المضلِّلة والمقاربات الخاطئة أن يقع تحميل ضحايا العنصرية والتفرقة والتشويه والتحريض مسؤولية معالجة هذه النزعات؛ بدل مكاشفة الوسط المجتمعي العريض أو الأوساط الموبوءة بهذه الآفات بمسؤولياتها المؤكّدة في مكافحتها.

على الأوساط والمجتمعات الموبوءة بآفات العنصرية والتفرقة أن تمتثل لالتزاماتها المبدئية والقيمية وتباشر مراجعة أحوالها في هذا الشأن، وعلى الأوساط والمجتمعات عموماً أن تحذر من تسلُّل هذه الآفات إليها إن تهاونت مع مقدِّماتها وتراخت مع بوادرها.

لا ينفي هذا أهمية تفعيل أدوار ضحايا هذه النزعات في مواجهة ما يستهدفها من حملات وانتهاكات؛ لكنّ مواجهة العنصرية والتفرقة والتشويه والتحريض هي في الأساس مسؤولية جماعية مشتركة. ولاشكّ أنّ مسؤولية “مجتمع الأغلبية” أو الوسط المجتمعي العريض، بقياداته ومسؤوليه وقواه ومؤسّساته أو دولته؛ تتقدّم في هذا الشأن بمراحل على مسؤولية أقلِّيّة مُستهدفة أو مُكوّن مجتمعي مهمّش.

 

افتراض المعالجة عبر “تحسين السلوك الذاتي”:

من وجوه الخلل المنهجي الشائعة اعتبار أنّ تحسين سلوك الضحايا، أو أداء المكوِّن المجتمعي أو الإنساني الذي تستهدفه العنصرية والتفرقة؛ يؤدِّي إلى إطفاء هذه النزعات أو تهدئتها. إنّه رهان خاطئ على أيّ حال، لأنّ هذه النزعات لا تتأسّس على نظرة موضوعية أو على منطق صائب؛ وهي في أصلها ليست مجرّد ردّ فعل على سلوك أو أداء معيّن من جانب ضحاياها أو المُكوِّن الذي تستهدفه وإن أوْحَى المشهد الأوّلي بذلك. ثمّ إنّ هذا الرِّهان يُخاطر بتحميل المكوِّن المُستهدَف مسؤولية شاملة أو جزئية عن العنصرية والتفرقة اللتيْن تستهدفانه، على نحو يمثِّل ضرباً من “لَوْم الضحية” وإنْ لم يكن مقصوداً.

بالوسع اختبار الدلالة الجسيمة لهذا الرِّهان مع تجارب العنصرية النازية والفاشية والقومية المتطرفة، أو مع عنصرية الاستعمار والصهيونية والأبارتايد والتطهير العرقي وغيرها، عندما يُفهَم بمقتضى هذا الرِّهان أنّ ضحايا هذه الاتِّجاهات والأيديولوجيات والتجارب والمشروعات يتحمّلون أقساطاً من المسؤولية عن المآسي الجسيمة التي أُنزِلت بهم، ما يعني في الوقت عينه إعفاء أرباب هذه التوجّهات والممارسات، بصفة شاملة أو نسبية، من المسؤولية عمّا اقترفوه. ثمّة اقتباسات غير أمينة يُدفَع بها على غير هُدى لخدمة هذا المنطق من قبيل اقتطاع مجتزأ من آية قرآنية كريمة (قُلْ هُوَ مِن عِنْدِ أنفُسِكُم)، أو من فهم قاصر لمقولات مثل “القابلية للاستعمار”.

من أخطر وجوه الفهم المُتوقّعة التي يستثيرها هذا الرِّهان؛ أن ينطوي على تبرير ضمني للعنصرية والتفرقة؛ من خلال تصوّر أنها مجرّد ردّ فعل على سلوك ضحاياها أو أداء المكوِّن المجتمعي المُستهدَف بها. لا عجب أن تُسمَع في لَحْن القوْل نبرةٌ شبيهة من منصّات عنصرية وأبواق تفرقة عندما تبرِّر التحامُل على مكوِّن معيّن بسلوك كريه يُرمَى به أو بأداء ذميم يُسبَغ عليه.

ثمّ إنّ الرِّهان من هذا الوجه تحديداً يبقى، في النهاية، خياراً خاسراً، لأنّه يغفل عن المسؤولية الأساسية في المعالجة التي يُفترَض أن تُلقى على عاتق الأنظمة والبيئات والمجتمعات التي تصدر عنها العنصرية والتفرقة. إنّ الموقف العنصري هو في الأساس نتاج خلل مفاهيمي وإشكال قيمي لدى من يصدُر عنهم، فلا يُعالَج من خلال سلوك ضحاياه أو أداء مَن يستهدفهم بالتشويه والتحريض.

إنّ تحسين السلوك أو الأداء ضمن مجتمع الضحايا أو المُكوِّن المُستهدَف يبقى مطلوباً بصفة مبدئية على نحو دائم؛ بصرف النظر عن أي استهداف محبوك أو تشويه مُسدّد أو تحريض خارجي. على أنّ هذا التحسين ليس من شأنه أن يُفضي إلى النتيجة المرغوبة في كبح العنصرية ووأدها، لأنّ منطق العنصرية والتفرقة والتشويه والتحريض يقوم على تأويل انتقائي متحيِّز يعزل السلوك الحسَن أو التصرّف النجيب أو الأداء البنّاء عن النسق المجتمعي أو الإنساني المُستهدَف، فيقع تجاهل ذلك أو يُدرَك في نطاق محدود؛ ممّا يحدّ من سريان أي انطباعات إيجابية على المُكوِّن المُستهدَف عموماً. وقد يُساء تأويل الجوانب التي يُشاد بها لصالح تأويلات مُتحيِّزة؛ كأن تُعَدّ مثالاً على الفكاك من ثقافة هذا المُكوِّن، أو من تجلِّيات التأثُّر بثقافة أخرى أو بمقتضى تجارب مغايرة قد يُعنَى بها، تصريحاً أو تلميحاً، ثقافة البيئات والمجتمعات عيْنها التي تصدر عنها العنصرية والتفرقة.

كثيراً ما يأتي الوقوع في هذا الخلل، أي افتراض أنّ معالجة العنصرية والتفرقة تكون في الأساس من خلال تحسين السلوك الذاتي للمُكوِّن المُستهدف بهذه النزعات الذميمة، من خلال الخلط بين خطاب الترشيد والاستنهاض، الذي لا غنى عنه في الأحوال جميعاً، ومقاربات التصرّف والمعالجة في مواجهة العنصرية والتفرقة، فيطغى الخطاب الأوّل على هذه المقاربات بغير وجه حقّ، ما يتسّبب بانحراف التحليل واضطراب التقدير وزيْغ الاستجابة المترتِّبة عليهما.

 

التزام الصمت إزاء مقدِّمات العنصرية والتفرقة:

يحسب بعضهم أنّ السكوت عن الأذى العنصري والتهاون مع توجّهات التفرقة هو من “الإعراض عن الجاهلين” أو من فضائل “إماتة الشرّ بالسكوت عنه”، دون أن يُدركوا أنّ القعود عن التصرّف يُغري النزعات الذميمة بالتفاقُم ويُساهم في إفساح المجال أمامها كي تتقدّم وتتفشّى وتتعزّز وقد تصير ثقافة عامّة في بيئتها ثمّ يَصعُب التصدِّي لها من بعد.

ذلك أنّ تزجية الوقت بالسكوت عن الأذى والقعود عن التصرّف لا تُساهِم في قرع الأسماع وتنبيه الغافلين ومعالجة العلل قبل اتِّساع الخرق على الراقع. ومن شأن التهاون مع المُقدِّمات والتراخي مع البدايات أن يُفضي إلى تفاقُم جسيم في التطوّرات والعواقب، فالعنصرية والتفرقة والتشويه والتحريض تصير حالة مألوفة وقد تؤول إلى ثقافة عامّة إن لم تُقرع النواقيس مُبكِّراً للتحذير منها والتنبيه إلى عواقبها.

لا غنى عن التصرّف وإن جاء متأخِّراً، على أنّ محاولة المُعالجة المتأخِّرة إزاء بعض آفات المجتمع قد تشبه نظيرتها إزاء بعض آفات الجسد التي قد تتمكّن منه وتُجهِز عليه. ذلك أنّ حظوظ المعالجة تتضاءل مع نزعات العنصرية والتفرقة قياساً باليقظة المبكرة في التعامل مع الحالة قبل تراكمها وتفاقمها. ومن مشكلات التدخّل المتأخِّر أنه قد يُضطرّ إلى محاولة احتواء بعض المظاهر والأعراض وإغفال ما تأسّست عليه من البواعث والملابسات والمُقدِّمات التحريضية. لا غنى، في الأحوال جميعاً، عن السعي إلى معالجات جذرية لا تقف عند حدود تصحيح مُضاعفات لاحقة أو الاستدراك على إجراءات جزئية تفرّعت عن توجّهات العنصرية والتفرقة والتحريض والتشويه.

 

التماس “الحوار والتفاهم” مع غلاة الكراهية والتحريض والعنصرية:

ليس أرباب الكراهية والتحريض والعنصرية شركاء حوار مُحتَملين في الأساس، وهم لا ينطلقون في هذا من موقف مبدئي أو التزام أخلاقي كي يُسعَى إلى الوصول معهم إلى تفاهُم على أرضية مبدئية سويّة. إنّ الرِّهان على الحوار والتفاهم مع هؤلاء، قبل أن تبرُّئهم ممّا هم عليه، يمثِّل تنازُلاً مبدئياً أو تذاكياً ساذجاً وقد يكون في هذا الشأن مجاراةً انتهازية أيضاً لتحسين المواقع السياسية والحظوظ المجتمعية.

إنّ السلوك الواجب مع غُلاة الكراهية والتحريض والعنصرية هو التحذير من نزعاتهم ومسالكهم، والسعي إلى إنضاج حالة مجتمعية وإنسانية تنبذهم وتعزلهم، أمّا التماس الحوار وإبرام التفاهمات معهم فيأتي على النقيض من ذلك.

على أولوية الحوار والتفاهم أن تتوجّه إلى شركاء المجتمع العريض أو الفضاء الإنساني العام لضمان الامتثال لمقتضيات المبادئ العامّة الجامعة والقيم المرجعية المشتركة والنهوض بمسؤوليات التصدِّي لنزعات الكراهية والتحريض والعنصرية؛ كلّ من موقعه.

 

استدعاء قيم ومبادئ في غير مواضعها:

يدفع بعضهم، بحُسن نيّة أحياناً، بتوصيات تتذرّع بمبادئ وقيَم معيّنة في كيفية التعامل مع العنصرية والتفرقة والتشويه والتحريض. يأتي الخلل في هذا الشأن لدى استدعاء قيمة معيّنة أو مبدأ محدّد وإغفال غيره، على نحو يُؤدِّي إلى اضطراب ميزان القيم في الموقف المعنيّ. أو قد يتمثّل الخطأ في كيفية تأويل القيمة المُستدعاة أو المبدأ المُستذكَر بصفة لا تنسجم مع مقتضيات المقاربة الصحيحة أو الموقف الصائب. أو قد يكمن الإشكال في اضطراب فهم الجمهور لمفهوم القيمة أو المبدأ اللذيْن يقع استحضارهما في هذا الشأن.

فعندما يتحدّث بعضهم، مثلاً، عن أهمية التعامل “بحكمة” مع العنصرية والتفرقة؛ قد يُحمَل هذا على مفاهيم أو تأويلات شتّى؛ منها القعود عن المبادرة إلى التصرّف رغم أهميّتها وضرورتها، أو الإحجام والتعطُّل في موقف يستدعي الإقدام والتدخُّل. وعندما يُوصي بعضُهم بـ”الصبر”، مثلاً، قد يكون المقصود أو المفهوم من ذلك احتمال مكاره العنصرية والتفرقة دون التصرّف إزاءها؛ بدل الصبر المطلوب على مشاقّ التصدِّي لهذه النزعات الذميمة التي لا ينبغي التهاون معها.

ما ينبغي تأكيده في هذا المقام أنّ بعض التوصيات القيمية والمبدئية قد تكون وخيمة العاقبة إنْ جاءت في غير مواضعها، وأنّ بعض القيَم قد يضرب قيماً أخرى في سبيله على نحو غير رشيد؛ وقد تكون الثانية أوْلى بالامتثال لمقتضاها في مواقف معيّنة. ثمّ إنّ أفهام الجمهور المُخاطب قد تذهب بمغزى التوصيات القيمية إلى غير المقصود منها أحياناً، على أنّ بعض هذه التوصيات قد تكون مُضلِّلة في الأساس، سواء أكان ذلك مقصوداً أم غير مقصود.

 

المبالغة في التعويل على الأدوات القانونية دون غيرها:

يتصوّر بعضهم أنّ تحسين الوضعية القانونية للمكوِّن المُستهدف أو مجرّد سنّ قوانين معيّنة؛ كفيلان بمعالجة العنصرية والتفرقة والتحريض والتشويه على نحو شامل.

رغم أهمية تحسين الوضعية القانونية للمُكوِّن المستهدف، وتمكينه من استيفاء مواصفات معيّنة على صعيد المواطنة والاعتراف الرسمي ونحو ذلك؛ إلاّ أنّ ذلك لا يكفي وحده لاجتثاث العنصرية والتفرقة والتحريض والتشويه. ذلك أنّ استيفاء الشرعية القانونية أو الاعتراف الرسمي، رغم أهميّتهما، لا يقضيان من تلقائهما بتحقّق حالة القبول المجتمعي وتكافؤ الفرص وانفتاح الآفاق على قدم المساواة أمام المكوِّنات جميعاً.

كما أنّ سنّ قوانين معيّنة خيار لا غنى عنه في مواجهة العنصرية والتفرقة والتحريض والتشويه؛ لكنّه لا يتأهّل وحده للمعالجة اللازمة التي تقتضي التصرّف المجتمعي المشترك عبر مسارات أخرى رديفة أيضاً؛ على مستوى العمل السياسي ونشاط المجتمع المدني وحملات التوعية والمدوّنات التوجيهية، وفي حقول التعليم والثقافة والإعلام والشبكات.

ممّا يُغفَل عنه في هذا الصدد أنّ بعض المضامين قد تمرِّر رسائل مشبّعة بالعنصرية والتشويه والتحريض بصفة إيحائية غير صريحة، كأن تأتي بذلك عبر تعبيرات مرمّزة تبتغي منها تجاوز قيود قانونية مفروضة أو التحايل على النقد الذي يوجّه إليها. ثمّ إنّ بعض المنخرطين في حمّى العنصرية والتفرقة والتشويه والتحريض لا يمانعون في انتهاك قوانين مفروضة لأجل تسديد سهامهم، وقد يحتملون العقوبات المترتبة على ذلك خاصة إن ضمنوا مساندة مادية ومعنوية من أوساط تدعمهم في هذا. وقد يُعدّ هؤلاء الغلاة فرسانَ “حرية التعبير” وروّاد “نداء الضمير”؛ وقد يُصفّق لهم وإنْ أدانتهم المحاكم.

 

افتراض أنّ تطوير المشاركة يُنهي العنصرية والتفرقة:

تفترض بعض المُقاربات أنّ السعي إلى تطوير المشاركة المجتمعية و/أو السياسية للمكوِّن المعني كفيل بإنهاء نزعات العنصرية والتفرقة والتشويه والتحريض. الإشكال الأوّل في هذه المقاربة أنّها تتوجّه، في العادة، إلى المُكوِّن المجتمعي الذي تستهدفه العنصرية والتفرقة والتشويه والتحريض، ولا تلحظ أنّ المشاركة هي في واقعها عملية تفاعلية متبادلة بين المكوِّنات والبيئة المجتمعية والسياسية، وقد تقصُر هذه البيئة عن استيعاب بعض المكوِّنات أو تقيِّد فرص حضورها في الفضاء العام والواقع السياسي والمؤسسي.

ثمّ إنّ تطوّر هذه المشاركة، وإن كان مأمولاً بلا ريب، لا يضمن من تلقائه اجتثاث نزعات العنصرية والتفرقة والتشويه والتحريض أو حتى تقليصها، بل إنّ مزيداً من الحضور الفاعل للمكوِّن المعني من شأنه في حالات معيّنة أن يستثير ردود فعل مناوئة للتنوّع الثقافي والاجتماعي أو يحرِّك استجابات مناهضة للتفاهم المُتبادل وتكافؤ الفُرَص في البيئات المعنيّة؛ دون أن يقضي هذا التنبيه بتحميل هذا الحضور أو المشاركة مسؤولية ما عن هذه المضاعفات غير المرغوبة.

أظهرت تجارب شتّى في الواقع الإنساني أنّ بلوغ مُكوِّن مُعيّن مستويات مُتقدِّمة نسبياً من المشاركة والتأثير استدعى في بعض البيئات ردود فعل مُناوئة من أوساط في “مجتمع الأغلبية”؛ وحرّك نزعات كراهية وذمّ وتحريض، وأطلق اتِّهامات جسيمة ونظريّات مُؤامرة تَعتبر ما يجري بمثابة “غزو واجتياح” أو “استهداف للهُويّة والتقاليد” أو “مؤامرة مُوجّهة” أو غير ذلك. عِلّة الأمْر أنّ التصوّرات المجتمعية المُنغلقة لا يروق لها الانفتاح على المكوِّنات المتعدِّدة ولا يطيب لها الإحساس بفقدان الاستئثار بالوطن والسيطرة الشاملة على الواقع؛ رغم أنّ ذلك لا ينبغي أن يكون مُحتكراً لفئة دون أخرى في مجتمع مُتعدِّد المكوِّنات. وقد تُعبِّر هذه المشاعر غير السويّة عن تعالٍ طبقي أو فوقية إثنية أو تحيُّز ثقافي أو تكتُّل مناطقي أو غير ذلك.

 

اتِّكاء المرافعات على حجج ومقولات خاطئة:

يعتمد بعضهم خطابات خاطئة في مسعى الإقناع، من قبيل الاحتجاج بأنّ نسبة المُكوٍّن المستهدف بالعنصرية في المجتمع المُباشر أو في الفضاء الإنساني العريض هي نسبة كبيرة، أو الاحتجاج بخدمات جليلة ومساهمات إيجابية يُقدِّمها المكوِّن المجتمعي أو الإثني أو الثقافي أو الديني المُستهدف بالعنصرية والتفرقة والتشويه والتحريض. يكمن الخطأ في أنّ أي فئة معيّنة من البشر وإن بدت نسبتها ضئيلة ضمن مجتمعها أو الإنسانية عموماً؛ لا ينبغي أن يُسمح بتجاوز حقوقها، كما أنّ ارتفاع هذه النسبة لا يمنح امتيازاً إضافياً لها فوق غيرها، فالأصل هو نبذ العنصرية والتفرقة والتشويه والتحريض من حيث المبدأ عندما يُستهدَف أي مكوِّن مجتمعي أو إنساني. إنّ الاحتجاج بنسبة “مُعتبرة” للمُكوِّن المعني في المجتمع قد يعني في المقابل، من حيث لا يُقصَد، أنّ ضآلة هذه النسبة تبرِّر الإجهاز المعنوي عليها أو التراخي في استهدافها بالعنصرية والتفرقة والتشويه والتحريض.

كما أنّ نبذ هذه النزعات الذميمة ينبغي أن يقع بصرف النظر عن منسوب الخدمات أو المُساهمات التي يُقدِّمها هذا المكوِّن المجتمعي أو الإنساني الذي تستهدفه هذه النزعات. ينبغي الحذر في هذا المقام من الانزلاق إلى مجاراة خطابات عنصرية وتفرقة على نحو غير واعٍ؛ من خلال التركيز على خدمات ساطعة ومساهمات جليلة كحُجّة داعمة لنبذ هذه الآفات؛ وكأنّ الافتقار إلى هذه الخدمات والمساهمات أو ندرة المتخصِّصين والكفاءات يبرّر التهاوُن مع الموقف العنصري وتوجّهات التفرقة.

 

عقد مُقارنات خاطئة:

يذهب بعضهم إزاء نزعات العنصرية والتفرقة إلى عقد مُقارنات عابثة مع بيئات معيّنة، على نحو قد يُفضي إلى تبرير واقع خاطئ من حيث أدركوا ذلك أو لم يدركوه. من أمثلة ذلك؛ أن يعتبر بعضُهم أنّ وقائع العنصرية والتفرقة التي تواجه بعض اللاجئين الذين وفدوا إلى بيئات ديمقراطية معيّنة تبقى هيِّنة بالمقارنة مع ما شهده هؤلاء من تهديدات وجودية ومساس جسيم بحقوقهم وحريّاتهم وكرامتهم في بيئات منشئهم. تنتهي هذه المُقارنة المُتعسِّفة بالتهوين من أمر العنصرية والتفرقة والحضّ على السكوت إزاءها والتراخي معها، وإن لم يكن ذلك مقصوداً.

وقد تأتي هذه المقارنات من خلال اعتبار أيِّ تدهوُر قيمي حاصل في بيئة معيّنة تجتاحها العنصرية “نعيماً مُقيماً” إنْ قيس بما تشهده بيئة أخرى قد تنطوي على ما هو أشدّ من ذلك وطأة. وإذ يتفاوت منسوب التجاوز والانتهاك عبر بيئات البشر؛ يصير الرُّكون إلى هذه المفاضلة الساذجة تملُّصاً جسيماً من مسؤولية نقد أي منها أو التصرّف معها بما تستأهله؛ طالما أنّه ما من انتهاك إلاّ ويُوجَد ما قد يفوقه في بيئة أخرى مُفترَضة.

وقد تُنسَج المُقارنات من خلال نزعة تقابلية تعتبر أنّ حصول انتهاك بحقّ أقلية معيّنة في بيئة ما؛ ينبغي أن يُقبَل ببساطة بسبب ما يجري من انتهاك مفترض بحقّ أقلية مُغايرة في بيئة أخرى. ممّا يزيد من إغراء هذه المقارنة تحديداً؛ أن تكون الأقلية المضطهدة في كلّ جانب متماثلة إثنياً أو ثقافياً مع الأغلبية في الجانب الآخر، فيبدو ما يجري في كلّ منها جزاءً وفاقاً. تتجرّد هذه المُقارنات من المنطق السويّ لاجتراح الأحكام، كأن تُقارن السماح بانتهاك جسيم في بيئة تحتكم إلى قيَم ومبادئ وإلى نظام دستوري ودولة قانون مع بيئة لا تُلقي اعتباراً لهذا كلِّه. ومن نافلة القول أنّ وجود مظالم في بيئة مُعيّنة لا يقضي بتبرير أيِّ انتهاك حاصل في بيئة أخرى، فكلّ مظلمة بحيالها تستحقّ العناية وتستأهل المُعالَجة بصرف النظر عن حصول ما قد يفوقها أو يتضاءل إزاءها في بيئات أخرى. ولاشكّ أنّ الغفلة عن الحقوق في بيئة معيّنة لا يُبرِّر القعود عن التصرّف في غيرها.

لا ريْب أنّ هذه المُقارنات ضرب من العبث؛ وإن لم تَسْتَوِ مقاصدُ عقدِها عند جميع من يحتجّون بها. فقد يُؤتَى بذلك على سبيل تبرير القصور وتسويغ الانتهاك، أو يُدفع به في مقام “القبول بالمتاح” واستساغة الواقع على ما فيه من ضيْم، أو يُقدّم في ثوب “الحكمة” و”التعقُّل”، أو هو كناية عن ضعف في منسوب الوعي بالحقوق والمكتسبات التي ينبغي أن تكون مكفولة للناس جميعاً في بيئة معيّنة أو على المستوى الإنساني عموماً.

وقد تأتي المُقارنات بدافع التملّص من النقد والمساءلة، كما في تقاليد المُرواغة الحجاجية التي تعتمد أسلوب “وماذا عن تلك الحالة” المعروفة بمصطلح Whataboutism حيث يتهرّب المُراوِغ من أيِّ نقد موجّه إلى حالة معيّنة بمحاولة صرف النقاش إلى حالات أخرى يعدّها مسكوتاً عنها بغير حقّ، على نحو قد يؤدِّي إلى تفريغ أي مرافعة نقدية من فرصة المُساءلة.

 

“لهم أن يفعلوا في بلادهم ما يشاؤون!”:

يتطوّع بعض الغافلين عن خطورة التجاوزات أو المتواطئين معها أحياناً، بالقيام بمرافعات تعتبر أنّ من حقّ أي قوم القيام بما يحلو لهم من تجاوزات بلا انضباط أو نقد، طالما “أنّها بلادهم .. ولهم أن يفعلوا فيها ما يشاؤون!”.

تُسمَع هذه الحجّة الساذجة في بيئات لم تتطوّر فيها ثقافة المواطنة التي هي من مقتضيات مشاركة الجمهور في الدولة الحديثة. يستسهل أولئك المعلِّقين الحكم على تجاوزات تقع في بيئات أخرى قد تكون محكومة بأنظمة دستورية وبدولة قانون وبمدوّنات وأعراف قد لا تجيز هذه التجاوزات أساساً.

عادة ما تتفرّع هذه الأحكام الساذجة عن تصوّر ينزع الحقوق عن غير المواطنين، أو لا يتصوّر هذه الحقوق أساساً لمن لا ينتسبون في أصولهم أو ثقافاتهم إلى البلد المعني وإنْ حملوا جنسيّته. هكذا يتجلّى الخلل الجسيم في مقولة “بلادهم” ابتداءً إذ تحجب مفهوم المواطنة أو الحقوق عن أوساط وفئات ومكوِّنات معيّنة لصالح المكوِّن الأصلي أو الوسط المجتمعي التقليدي حصراً. ثمّ يتفاقم الخلل من خلال ادِّعاء الحقّ في الإقدام على أيِّ انتهاك أو مظلمة بمقتضى الانتماء الإثني الأصلي للبلد المعنيّ.

ينبغي في هذا المقام الحذر، كلّ الحذر، من مُقاربات ومُرافعات ينبري لها بعض مَن لم يفهموا الواقع الذي يتصدّون للتعليق عليه، أو لم يُدرِكوا مفاهيم الحقوق والعدالة والمواطنة، أو لم يقتنعوا أو يتشرّبوا بها بالأحرى.

 

ثقافة الشكر والامتنان على حيازة الحقوق:

رغم أنّ حيازة المُكتسبات المشروعة أو المُقرّرة يُفترض أن تكون حقّاً مكفولاً وليست منحّة أو مِنّة من أحد؛ فإنّ بعضهم لا ينفكّ عن تقاليد الشُّكر والتقدير والامتنان والعرفان في هذا المقام على غير بصيرة.

قد يُظهر هذا السلوكَ بعضُ المُلتحقين الجُدُد ببيئات معيّنة رغم أنّها تضمن لجمهورها هذه المكتسبات على أساس أنها حقوق لهم جميعاً. يُعثَر على هذا السلوك متفشِّياً في بيئات يُجزِل الناس فيها الثناء لمسؤول عندما يقوم بواجبه المقرّر عليه أو يضطرون فيها لدفع رشى لضمان الحصول على حقوقهم أو إجراء معاملاتهم، وقد يُعدَ قيام المسؤولين البارزين بما يتعيّن عليهم القيام به من فرصة علاج مريض من الشعب أو ضمان مقعد جامعي لمواطن مجتهد؛ بمثابة “مكرمة سامية” أو “لفتة كريمة” منه؛ مع إغفال أنها حقّ للمواطنين يتعيّن على المسؤولين والمؤسّسات الحكومية والإدارات المعنية الوفاء بها على أتمّ وجه دون أن ينتظروا جزاءً ولا شُكوراً.

إن تمكّنت ثقافة الشكر والامتنان هذه من وسط مجتمعي معيّن فإنها تُعرقِل مساعي التصرّف اللازم في مواجهة بوادر التفرقة، لأنها لا تعبِّر بالأحرى عن وعي بالحقوق ولا تشي بتشرّب مبدأ المساواة، فيقع التهاون مع انتهاك حقوق والتعدِّي على مبادئ كنتيجة منطقية لذلك. وإذ لا يُدرِك وسطٌ مجتمعي مُعيّن أنّ ما يحصل عليه هو حقوق ينبغي أن تكون مكفولة له، وليس تفضُّلاً من أحد عليه؛ فإنّ حرمان فئات معيّنة في المجتمع من حقوقها لن يستنهض الناس لمناوأته والتصدِّي له بالتالي؛ كما قد يحدث في حالات الوعي الأمثل بحقوق الناس والتزامات المسؤولين.

ثمّ إنّ ثقافة الشكر والتقدير والعرفان والامتنان تُغوي المسؤولين والإدارات باقتراف تجاوزات أو القصور في أداء الواجب كما ينبغي؛ طالما أنّ الجمهور يتعامل مع القيام بالمسؤولية على أنّه مكرمة ومنّة؛ وليس واجباً والتزاماً.

 

الردّ بخطاب يقوم على المنطق العنصري ذاته:

قد تنزلق الاستجابة للتحدِّي العنصري إلى اعتماد المنطق العنصري ذاته أو ما يشبهه. فإنْ اعتدّ الخطابُ العنصري بالأصول السُّلالية والخصوصيّات الإثنية الخاصّة بقوْمه؛ قد تُباشر بعض الردود عليه بخطاب مُناهِض له ظاهرياً لكنّه يدفع بالحجّة ذاتها على طريقته الخاصّة.

إنّ محاولة دعم الموقف المناهض للعنصرية والتفرقة والتحريض والتشويه بالتعبير عن نزعة مشابهة في الاتجاه العكسي؛ إنّما هو في جوهره تكريس للمنطق العنصري أو هو رضوخ له بالأحرى.

من شواهد ذلك أن يدّعى متحدِّثون من جماعة بشرية معيّنة أنّهم أحقّ بالاستيلاء على بلاد احتلّوها عنوة، بناء على “حقّ تاريخي” يزعمون حيازته “منذ آلاف السنين”. إنّ الردّ على هذا الخطاب العنصري التاريخاني لا ينبغي له أن يُستدرَج إلى حبكة تاريخانية مشابهة تُستعمَل في الاتجاه العكسي؛ حتى عندما يبدو من المُبرّر نقض الدعوى العنصرية التاريخانية إيّاها وتفكيكها والتصدِّي لها. ذلك أنّ ادِّعاء “الحقّ التاريخي” على أساس عنصري تاريخاني محبوك على هذا النحو، وقد يستعمل الأيديولوجيا الآثارية أحياناً، هو مسلك جائر وساذج ويُفترَض أن لا يُتسامَح معه في العالم؛ لأنه قد يُتّخذ مبرِّراً للتطهير العرقي وحملات الغزو الاستيطاني الاحلالي المتذرِّعة بقراءة أيديولوجية لتاريخ سحيق مزعوم. ومن شأن السماح بهذا المنطق أن لا يُبقي حجراً على حجر في بنيان أمم الحاضر التي تعاقبت أقوام وجماعات بشرية على أقاليمها الجغرافية عبر الأحقاب. يتجلّى الخطاب العنصري التاريخاني مثالاً على نزعة الاستجابة غير الواعية لتحدِّي خطابات العنصرية والتفرقة؛ إلى حدّ يُغري بتقمّص سذاجتها ومحاكاة تهافتها من حيث لا يُدرََك ذلك أحياناً. ولهذا الضرب من المنطق الخاطئ في الاستجابة شواهد أخرى تتجاوز الجانب التاريخاني.

وإذ تقوم وفرة من الخطابات العنصرية على ذمّ آخرين بمقصد يُراد منه تمجيد الذات وإثبات تفوّقها أو استعلائها؛ فإنّ اعتماد هذه الحيلة عكسياً هو استجابة عابثة للتحدِّي العنصري؛ فهي ترضخ لمنطقه من جانب ولا تُعين على تفكيكه جوهرياً ودحضه موضوعياً من جانب آخر.

وإنْ باشَر منتسبون إلى جماعة بشرية معيّنة شَتْم جماعة بشرية أخرى بدوافع عنصرية؛ فإنّ الردّ بالمثل يُفضي إلى التخندُق والتراشُق على أساس تعميمي عنصري متقابل، ما يعني تكريس العنصرية وإشاعتها وخسارة الموقف المبدئي والأخلاقي في آن، علاوة على إضعاف الجهود الجادّة التي تروم معالجة العنصرية والتفرقة وحشد المواقف والجهود المشتركة في التصدِّي لهذه الآفات.

 

الوقوع في فخاخ الاستدراج المحبوك:

تراهن بعض مسالك العنصرية والكراهية والتحريض على استدراج المكوِّن المجتمعي أو الإنساني المستهدف إلى ردود أفعال مُبرمجة تأتي استجابة لاستفزازات محبوكة أو مُثيرات معيّنة.

ينبغي في هذا الصدد التفريق بين مسؤوليات التصرّف وكيفيّاته، إذ لا غنى عن التصرّف الجادّ إزاء استفزازات العنصريِّين والمُحرِّضين؛ سوى أنّ ذلك التصرّف ينبغي أن يتكيّف مع طبيعة الموقف وأولويات الاستجابة ووجوه التأثير العكسي المنشودة، وأن يحذر في الوقت عينه من الوقوع في فخاخ قد تكون منصوبة ابتداء كي تستدرج المكوِّن المُستهدَف بالعنصرية والكراهية والتحريض إلى ردود أفعال معيّنة قد تُفاقم المأزق بدل الوعي بأهمية تلافيه.

ومن نافلة القول أنّ الاستجابة للتحدِّي العنصري يتعيّن عليها أن لا تخسر موقفها المبدئي والتزامها القيمي، وأن لا تتورّط في مسعى العنصريين والمحرِّضين الذين يحاولون عبر حِيَل الاستفزاز المحبوك استدراج منتسبي أقلٍّية أو مكوِّن مجتمعي معيّن إلى سلوك غاضب يُحسَب أنه مُناهِض للمجتمع عموماً وقد لا تُفهَم ملابساتُه الحقيقية أو لا تٍستوعب كما يُرجَى.

 

الاكتفاء بمُطالَبات نمطية عامّة دون تحديد:

من فقه التحرّك في مناصرة الحقوق وحشد التأييد للإنصاف والعدالة؛ أن تُحدّد الاستجابات المُثلى المُنتظرة من الجهات والأطراف المعنيّة على نحو تفصيلي، بصفة تضمن وضوح المسؤوليّات بمقتضى الأدوار المتعددة لكل لجهة أو طرف في الواقع. تكتفي بعض المرافعات التي تُناهِض العنصرية والتفرقة والتحريض والتشويه بمُطالبات نمطية عامّة لا تتحدّد فيها الأدوار ولا تتبيّن فيها المسؤوليّات على نحو تفصيلي؛ سواء أكانت مباشرة أم غير مباشرة. من شأن هذا المنحى أن يُفرغ النداءات التصحيحية والخطابات المطلبية من فحواها، وأن يحرِّر الجهات المُخاطَبة من المسؤوليّات والواجبات المحدّدة التي يُفترَض أن تنهض بها.

تندرج هذه العلّة ضمن قصور الخطاب، فقد تتضخّم الشكوى من مشكلة معيّنة دون بيان الحلول المقترحة، أو قد يتجلّى التحدِّي القائم دون بيان الاستجابات المنشودة من الأطراف المعنيّة بها، وقد تصير المرافعة بالتالي صيْحة في واد أو نفخة في رماد؛ حتى عندما تنجح في كسب تعاطف مع متضرِّرين من واقع معيّن أو تجاوزات قائمة، لأنّ التعاطف قد لا يتطوّر إلى استجابة عملية تسعى إلى إصلاح الخلل ومعالجة القصور.

*جميع المقالات المذكورة في الموقع تعبر عن رأي أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي المنظمة