منهج “لتعارفوا” في إدارة الاختلاف

كتبت الدكتورة رغداء زيدان

منهج “لتعارفوا” في إدارة الاختلاف

مقدمات لا بد منها

تنطلق الرؤية الإسلامية للكون والحياة من أن هناك غاية خلق الله تعالى لأجلها الكون وما فيه: ﴿وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَآءَ وَٱلْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَٰعِبِينَ﴾[الأنبياء: 16]، وأن الإنسان حُمّل أمانة التكليف وأُمر بإعمار الأرض: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾[الأحزاب: 72]، وأن هناك يوماً للحساب والجزاء أمام الله، فالإنسان مسؤول عن أعماله وسيحاسب عليها: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ﴾[المؤمنون: 115]، لذلك تدعونا الرؤية القرآنية إلى مقاربة المفاهيم القرآنية كلها مقاربة تستحضر مفهوم العمران والمهمة الاستخلافية التي جاء الإنسان ليؤديها في الكون([1]) ومسؤوليته أمام الله، فعندما نمعن النظر في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾[الحجرات: 13]، فإننا نقف على مجموعة من القيم القرآنية الأساسية اللازمة للعمران، وهي:

أ‌.             قيمة الإنسان كمخلوق مكرم،

ب‌.          قيمة المساواة والتكامل بين البشر ذكوراً وإناثاً،

ت‌.          قيمة الاختلاف والتنوع والغنى الحضاري،

ث‌.          قيمة التواصل والتفاعل الإنساني،

ج‌.           قيمة التقوى….

وعلى هذا فإن بحثنا في مفهوم “التعارف” وفق الرؤية القرآنية المستحضرة للمهمة الاستخلافية يستلزم تثبيت النقاط التالية:

  1. أعطى الله تعالى الإنسان ما يمكّنه من أداء مهمة الاستخلاف متعاوناً مع غيره، فخلق لكل فرد خصائصه وميزاته، التي لا تتطابق مع أي فرد آخر في هذا الكون، فالتفرد واختلاف البشر عن بعضهم سنّة من سنن الخلق الكونية وآية من آيات الله، يقول سبحانه: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ﴾[الروم: 22]. وإقرار الاسلام باختلاف الناس عن بعضهم يعني إقراراً بفردانية كل واحد منهم، ونصوص الإسلام تركّز على مساحة واسعة لحريّة الفرد واستقلاله داخل المجتمع، لكن بما لا يعني انفصاماً عن الجماعة التي يحيا ضمنها باستقلاليته. فالإنسان سيد في كون الله سبحانه، لكنه واحد من مجموع، عليه أن يتفاعل معهم وأن يعمل معهم لما يرضي الله سبحانه.
  2. الناس في اللغة: اسم للجمع من بني آدم، واحده: إِنْسَانٌ، وخطاب “يا أيها الناس” في القرآن جاء 21 مرة، أولها في سورة البقرة، إذ بدأ بأمرهم بعبادة الله، وهو ما سيجمعهم على مرجعية واحدة، مرجعية الايمان والقيم الواقية: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾[البقرة: 21]. وجاء آخراً في سورة الحجرات داعياً الناس ذوي الأصل المشترك “ذكر وأنثى” المختلفين خصائصاً وثقافة وأمكنة وفكراً واجتماعاً…. للتعارف، إذ لا تفاضل بينهم إلا بالتقوى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾[الحجرات: 13]، على اعتبار أن التعارف سيكون وسيلة للعمران وغاية للاجتماع البشري.
  3. بيّن الله تعالى في كتابه الكريم أن الأمة الإسلامية وُجدت من أجل أن تكون حاملة للخيرية الموجهة للناس جميعاً، يقول تعالى: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾[آل عمران: من الآية 110]. فقيم الإسلام العليا عملها الأساس مع الغير، وكلما كان المسلمون أنفع للناس كانوا أقرب إلى الله تعالى، وكلما ابتعدوا عن نفع الناس وكانوا أقرب لضررهم خسروا وحبطت أعمالهم حتى لو أكثروا من الصلاة والصيام، وهذا ما بينه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه: “أتدرون ما المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع فقال: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أُخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار” (رواه مسلم عن أبي هريرة).
  4. ذكر القرآن الكريم وحدات اجتماعية متعددة: كالأمة، والشعب، والقبيلة، والقوم، وفي خطابه لهذه الوحدات اعترافٌ بها، وبأهميتها في الاجتماع البشري. فالأمة كل جماعة يجمعهم أمر ما، إما دين واحد، أو زمان واحد، أو مكان واحد([2]). ويظهر من استخدام الآيات أن الأمة تعبر عن رباط فكري وهي متميزة عقيدة، وسلوكاً([3]). أما القوم فقد ورد في القرآن الكريم بما يشير إلى جماعة ذات مواقف سلوكية واحدة كتصنيف الناس إلى “قوم مجرمين” أو “قوم فاسقين” أو “قوم ظالمين” بقطع النظر عن أعراقهم. وورد ذكر القوم في مقابل الأمة بما يشير إلى جماعة ذات عرق مشترك، أو إقليم مشترك كما في قوله تعالى: ﴿ومِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ﴾[الأعراف: 159]. وقد يرد ذكر القوم ويقصد به جماعة جمعهم إقليم، فهم جماعة يقيمون معاً، وقد يكون بينهم اختلافات فكرية أو عرقية([4]).

أما الشعب فيقصد به مجموعة الأفراد الذين تتكون منهم الدولة، وهم الذين يقيمون على أرضها. فمفهوم الشعب مرتبط برقعة جغرافية معينة ومحددة، ولا يشترط فيه الانسجام المعنوي القائم على اللغة والجنس والدين وغيره. بينما القبيلة: هي جماعة من الناس تنتمي في الغالب إلى نسب واحد يرجع إلى جد أعلى أو اسم حلف قبلي يعدّ بمثابة جد، وتتكون من بطون وعشائر عدة. ويسكن أفرادها غالباً إقليماً مشتركًا يعدونه وطنًا لهم، ويتحدثون لهجة مميزة، ولهم ثقافة متجانسة وعصبية (تضامن) ضد العناصر الخارجية على الأقل([5]).

  1. لم يرد مصطلح العرق في القرآن، وهو مصطلح حديث یشیر إلى مجموعة من البشر الذین یتشاركون خصائص جسدیة متشابھة وممیزة، أما الاثنیة فھي مجموعة من البشر الذین یجمعھم اسم جامع، وأسطورة عن الأصل المشترك وتاریخ مشترك، وثقافة ممیزة، ویرتبطون بإقلیم محدد، إضافة إلى شعور عام بالتضامن بین أفرادھا. وقد ارتبط مصطلح العرق بالدراسات الوصفیة التي تقوم على تقسیم الجنس البشري إلى مجموعات عرقیة رئیسیة (أمریكي، آسیوي، أوروبي، أسترالي) قائمة بالأساس على افتراض اللا تكافؤ بین بني البشر بالاستناد إلى مبررات بیولوجیة. وكثير من الدراسات والأبحاث توثِّق فكرة أن العرق هي بنيةٌ اجتماعية تاريخيةثقافية؛ وهي منظومةٌ من الأفكار، والهُويَّات، والعلاقات المادية، التي انبثقَت ببطءٍ في سياق الاستعمار والتوسُّع الاستعماري الذي اعتمدته أوروبا الغربية في مستهلِّ القرن الخامس عشر وفي أوائل القرن السادس عشر، إذ كان الأوروبيون ينظرون إلى العالم على أنه مُنظَّم في هَرَميةٍ صارمة فرضها الله تبدأ به وتنتهي بأدنى المخلوقات، مرورًا بالملائكة والبشر. وعندما شرعوا في تصنيف شعوب العالَم إلى أعراق، في أوائل القرن السابع عشر، استمرَّت هذه الفكرة وساهمت في المفهوم القائل بأن الأعراق أيضًا ربما يمكن ترتيبها شأنها شأن جميع الكائنات الأخرى، وبدأ تصنيف الناس على أساسها بتفوق واضح للعرق الأبيض ([6]).

صورة يد تتفاعل مع الأشخاص في رسومات التروس على خلفية رمادية

التعارف معرفة ووعي

الجذر اللغوي للتعارف من عرف، الذي تدور معانيه حول العلم والوعي بالشيء، فالتعارف يبدأ من معرفة الذات والوعي بها والقدرة على التعريف بها، وينتهي بمعرفة الآخر ووعي الاختلاف عنه والقدرة على تعرّفه والتعريف والاعتراف به.

فالتعارف معرفة ومعروف يؤسس للقيم الإنسانية الكلية التي يقوم عليها العمران والاستخلاف الحضاري، ويحدد الإشكاليات التي تحتاج إلى حل ونظر، والتي قد تقف حجر عثرة أمام تحقيق مهمة عمارة الكون التي أمر بها الله تعالى الإنسان وكلّفه بها.

التعارف لإدارة الاختلاف

يحمل مفهوم “التعارف” مجموعة من المعاني التي تدور حول التفاعل بين الناس، فهو: فعل مشاركة، وهو اعتراف بالآخر يؤسس لعلاقات اجتماعية، وقبل كل ذلك هو منبع المعروف الذي يؤسس للتعاون بين الناس. وقد روي “أنهُ شهدَ عندَ عمرَ رضي الله عنه رجلٌ، فقالَ لهُ عمرُ: لستُ أعرفُك ولا يضرُّك أنْ لا أعرفَكَ، ائتِ بمنْ يعرفُكَ، فقالَ رجلٌ منَ القومِ: أنا أعرفُه، قالَ: بأيِّ شيءِ تعرفُه؟ قالَ: بالعدالةِ والفضلِ، فقالَ: هوَ جارُك الأَدْنى تعرفُ ليلَه ونهاره، ومدخلَه ومخرجَه؟ قالَ لا، قالَ فمعاملك بالدينارِ والدرهمِ اللذيْنِ يُسْتَدلُّ بهما على الورعِ، قالَ: لا، قالَ: فرفيقُكَ في السفرِ الذي يُسْتَدَلُ بهِ على مكارمِ الأخلاقِ، قالَ: لا، قالَ: لستَ تعرفُه، ثمَّ قالَ للرجلِ: ائتِ بمنْ يعرفُك”([7]).

لقد فهم عمر رضي الله عنه المعرفة على أنها تفاعل، وتعامل، وقرب، لذلك فإن “التعارف” هو أداة تواصل عمراني، وهو كما أشرنا سابقاً مقصد شرعي لازم لتحقيق الاستخلاف. إلا أن هذا المقصد لا يمكن أن يتحقق ويحقق الضروريات الخمس (حفظ النفس والعقل والنسل والمال والعرض) ويبني التقوى داخل المجتمع ما لم يكن قادراً على حفظ التجمعات والجماعات البشرية من التناحر والاقتتال، أي ما لم يكن قادراً على إدارة الاختلاف بين البشر والوصول بهم إلى اتفاق على أساس قانوني وتشريعي ينظم علاقاتهم، ويحفظ حقوقهم، فدخول الأفراد والمجتمعات في علاقات لا يمكن أن يترتب عنه التآلف والانسجام إلا إذا انتظمت هذه العلاقات في قوانين وأنظمة تحفظ حقوق الجميع وتحترم اختلافاتهم، وهو ما قام به النبي الكريم صلى الله عليه وسلم عندما بدأ مسيرته في المدينة المنورة بكتابة دستور الإسلام الأول الذي نظم العلاقات بين المسلمين أنفسهم أنصاراً ومهاجرين من جهة، وبينهم وبين اليهود الذي يختلفون عنهم في الدين من جهة أخرى، وكذلك حدد من خلال وثائق أخرى علاقات المسلمين مع غيرهم من القبائل والأمم الأخرى([8]).

فعل التعارف مليء بمعاني الاتصال والمعرفة والعرفان والمعروف ووروده في القرآن على صيغة “لتعارفوا” يعطيه معنى إضافياً هو الإقبال الدائم([9])، لذلك فإن الخطاب القرآني في آية التعارف كان خطاباً إنسانياً عاماً (يا أيها الناس)، لم ينحصر في مكان محدد، كما أنه غير محدد بزمان، وكان خطاباً عقلياً، يستند إلى أصول جامعة للبشر (ذكر وأنثى)، وأنماط متعددة للاجتماع (شعوباً وقبائل)، وكان خطاباً منفتحاً، مرتبطاً بتحقيق المقاصد والغايات الأساسية للإسلام، خطاباً تفاعلياً حركياً، يدعو للعمل والتعارف والبحث والنظر، ويحفز على الإبداع والتزكية وتقديم الأفضل للبشرية جميعاً.

ارتباط التعارف بالعدل:

دعا الإسلام إلى العفو والصفح عند المقدرة مع الناس جميعاً، مما يؤسس إلى تعارف بنّاء بينهم، فقال تعالى: ﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ*وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾[فصلت: 34، 35]. وعلى هذا يرتبط التعارف ارتباطاً وثيقاً بالعدل، فينتعش في دولة الحق والأخلاق، وينزوي في دولة الاستبداد والظلم. والدولة العادلة هي التي تحفظ حقوق الناس وتضمن حرياتهم، وتبعد عنهم سيف التسلط والإكراه، وتفتح لهم باب التعارف والتواصل والتفاعل والتعاون، وتخضعهم لقانون المساواة الذي لا يفرق بين إنسان وآخر أمام أحكام التشريع.

ـ ارتباط التعارف بالاعتراف بالآخر:

إن التعارف يعني الاعتراف بالآخر واحترامه وقبوله، ولا يعني التنازل أو التساهل بل يقوم على اتخاذ موقف إيجابي فيه إقرار بحق الآخرين في التمتع بحقوق الإنسان وحرياته الأساسية. كما يعني أن المرء حر في التمسك بمعتقداته وأنه يقبل أن يتمسك الآخرون بمعتقداتهم.

وارتباط التعارف بالاعتراف بالآخر في الإسلام يعني:

  • ـ أنه قائم على العقل، باعتبار مرجعية المصالح المشتركة، واحترام المواثيق بين الناس.
  • ـ أنه قائم على التآلف، الذي يحترم معتقدات الناس، ويدعَّم بالعفو والصفح.
  • ـ أن فيه اعتباراً للآخر المخالف، واعترافاً بقدرته على الإضافة للمجتمع الإسلامي، وهو ما يستدعي حفظ حريته وتأمين حقوقه.

مفهوم العمل الجماعي لعمال الأعمال

خاتمة: تعارف لا تعايش

إن مفهوم التعارف القائم على المعرفة والمعروف والاتصال والإقبال الدائم والتعامل المنضبط بالقوانين الحافظة للحقوق المنظمة للعلاقات يختلف اختلافاً بيّناً عن مفهوم التعايش الذي يقتصر على قبول العيش مع الآخر، وربما يكون هذا العيش مجرد قرب مكاني، يقتصر على الحد الأدنى من التعاطي والتعامل الذي تفرضه ضرورة العيش في مكان مشترك، كما يحصل اليوم في المدن الكبرى بين راكبي وسائل النقل العامة مثلاً، لذلك فإن التعارف هو المفهوم القرآني المؤسس للعلاقة مع الآخر المختلف، فالتعارف في الإسلام يقوم على حقيقة اختلاف الناس، وأن هذا الاختلاف باق بمشيئة الله، وأن التعارف هو وسيلة إدارة هذا الاختلاف، يقول تعالى: ﴿وَلَوۡ شَاۤءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ ٱلنَّاسَ أُمَّةࣰ وَٰحِدَةࣰۖ وَلَا یَزَالُونَ مُخۡتَلِفِینَ ۝١١٨ إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَۚ وَلِذَٰ⁠لِكَ خَلَقَهُمۡۗ﴾ [هود 118 ـ 119]. كما أن الإسلام لم يمنع المسلمين من البر بغير المسلمين ما داموا غير محاربين؛ فقال تعالى: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ*إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ﴾[الممتحنة: 8، ومن الآية 9].

وكذلك أمر الإسلام بالرفق في الدعوة، ومناقشة المخالفين بالحسنى؛ قال تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾[النحل: 125]، ومنع من الإكراه في الدين، وترك حرية الاختيار للناس، قال تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾[يونس: 99]. وخص أهل الكتاب بمنزلة خاصة في المعاملة والتشريع؛ فقد نهى القرآن عن مجادلتهم في دينهم إلا بالحسنى، يقول تعالى: ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾[العنكبوت: 46]، كما أباح الإسلام الأكل من ذبائحهم، ومصاهرتهم والتزوج من نسائهم المحصنات العفيفات. كما أن عقد الذمة يوجب على المسلمين حماية غير المسلمين المقيمين في أرضهم، ويعطي لهؤلاء حقوقاً ويوجب عليهم واجبات، والقاعدة الأساسية أن لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم.

 

 

[1] ـ شيماء فوخري، لغة القرآن ورؤيته للعالم أساس منهجي لبناء المفاهيم «مفهوم التعارف نموذجًا»، مجلة تجسير, مج1، العدد الأول، 2019، دار نشر جامعة قطر، 60.

[2] ـ  الراغب الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن الكريم، تحقيق: صفوى داوودي، دمشق، دار القلم، ط1، 1992، 86.

[3] ـ  عبد الله إبراهيم زيد الكيلاني، مفهوم (الشعب والأمة والجنسية) وأبعاده الحضارية في الإسلام، منشور على الرابط: https://cutt.us/32B3G

[4] ـ المرجع نفسه.

[5]  ـ عمر رضا كحالة، معجم القبائل العربية القديمة والحديثة، بيروت، مؤسسة الرسالة، ط8، 1997.

[6]  ـ انظر: آلان إتش جودمان ويولاندا تي موزس وجوزيف إل جونز، الأعراق البشرية هل نحن حقاً على هذا القدر من الاختلاف، ترجمة: شيماء طه الريدي وهبة عبد المولى أحمد، المملكة المتحدة، مؤسسة هنداوي سي آي سي.

[7]  ـ قالَ ابنُ كثيرِ: رواهُ البغويُّ بإسنادِ حسنٍ، انظر: محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني (ت 1182هـ)، سبل السلام الموصلة إلى بلوغ المرام، حققه وخرج أحاديثه وضبط نصه: محمد صبحي حسن حلاق، دار ابن الجوزي للنشر والتوزيع – السعودية، ط3، 1433هـ، ج8، 81.

[8] ـ هنادي عبيد، التعارف بين المسلمين وغيرهم، جامعة أم القرى، 2019، 6.

[9] ـ شيماء فوخري، لغة القرآن ورؤيته للعالم أساس منهجي لبناء المفاهيم «مفهوم التعارف نموذجًا»، 68.

*جميع المقالات المذكورة في الموقع تعبر عن رأي أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي المنظمة