هل الطائفية مشكلة؟
بادئ ذي بدء انتقلت تهمة تفرقة الأمة من الحدود التي حددها الغرب باعتبارها السبب الرئيسي الذي فرق الأمة إلى اتهام الطائفية – أو الصراع الطائفي على وجه التحديد – باعتبارها فاعل يمزق الأمة والدولة على حد سواء، والإشكالية الأكثر غرابة هي كون أكثر الناس بغضا للطائفية وتوقا إلى وحدة المسلمين تحت راية واحدة هم أكثر الناس تمسكا والتزاماً بمذاهبهم وأكثرهم ولاء لطوائفهم وأقلهم تسامحاً مع المذاهب والطوائف الأخرى باعتبار الخلاف العقائدي الذي بينهم، والأكثر غرابة هي الحلول العلمانية الداعية إلى فصل الدين عن السياسة كحل لاستئصال الطائفية التي دمرت البلاد والعباد وهي نفسها تعتبر جماعة منغلقة على نفسها مثل الطوائف الدينية تماما، وتتخذ من أيدلوجيتها المستمدة من الغرب عقيدة تربط بين أفرادها مما يجعلها طائفة علمانية إلى جانب الطوائف الإسلامية والمسيحية.
قبل مناقشة المشكلة المطروحة هناك إشكالية في فهم ماهية الطائفة ومفهومها، إذ يستخدم مفهوم الطائفة في اللغة العربية بمعنى جزء من الكل، أي أن الطائفة هي جماعة متمايزة ومختلفة عن الكل – والمقصود هنا الأمة – لكنها في نفس الوقت تنتمي له ولا توجد إلا بوجود الكل، مما يولد تساؤل هل الطائفة عامل تفرقة؟؟ هل يوجد شخص طائفي لا يعتبر نفسه جزءا من الأمة الإسلامية بما في ذلك الطوائف المسيحية الموجودة في البلاد الإسلامية؟
وبما أن الطائفة هي جماعة من الناس التي يربطها رابط عقائدي ولا يعتقدون بأنهم مستقلون عن الأمة إنما مختلفين عن باقي الأمة مع الانتماء لها في نفس الوقت، ففي الغالب يكون لها بعدا سياسيا أو نشاطا سياسيا داخل هذه الأمة كالدفاع عن بقائهم ووجودهم ومصالحهم وكذلك السعي إلى السلطة والصراع مع الطوائف الأخرى وغيرها من المظاهر السياسية، والتي يميزها عن المذهب أن الأساس فيها هو الولاء للطائفة، بينما المذهب ليس معني بالناس والجماعة إنما بالموضوع نفسه.
إذ يكون أساس المذهب تفسير معين للدين وفق منهجية مختلفة عن المذاهب الأخرى بالإضافة – أحيانا – إلى رواية تاريخية مختلفة، وهذا كله يؤدي إلى اختلاف في الأحكام الفقهية وأسلوب التدين ودرجة الالتزام وأحيانا إلى اختلاف في العقائد، والأساس في المذهبية ليس الولاء للجماعة إنما الالتزام بالمذهب نفسه.
نرجع إلى السؤال الأساسي هل الطائفة عامل تفرقة؟ وهل الطائفية مشكلة بحد ذاتها؟
أساساً موضوع الدولة والحكم مواضيع سياسية ومشاكلها مشاكل سياسية بالدرجة الأولى إلا أن ارتباطها بثقافة المجتمع ووضعه الاجتماعي على علاقة وثيقة بالطوائف إذ أنها تتأثر بها وتؤثر فيها، فهل الصراع الطائفي كحالة اجتماعية أدت إلى مشكلة سياسية تهدد وجود الدول؟ أم أنها حدثت نتيجة للأزمة السياسية التي تعاني منها الدول؟ فما السبب وما النتيجة؟ فبدون تشخيص واضح للمشكلة والتفريق بين أسبابها وظواهرها، فإن الحديث عن حلول مجرد كلام فارغ.
وبعملية تحليلية بسيطة نستنتج أن الصراع الطائفي يظهر عند الأزمات السياسية الحادة ويصبح مشكلة مستفحلة عند فشل الدولة، نظرا لأن معظم الدول الإسلامية والعربية تضم مذاهب وطوائف عديدة ولا تعاني من أي صراع طائفي إلا تلك التي تعاني من أزمات سياسية حادة أو فشل الدولة إذ أن الطوائف تصبح البديل عن الدولة، وهذا ليس سلبي تماما، فباعتبارها سلطة اجتماعية هي أفضل من لا شيء – في حال انهيار الدولة – ومع ذلك لا ننكر كون الصراع الطائفي أصبح مشكلة اجتماعية – سياسية قائمة بالفعل مما أدى إلى شرخ اجتماعي وسياسي يمنع عملية بناء الدولة واستقرارها، إضافة إلى كون الطوائف عابرة للحدود مما يعطي الصراع طابعا إقليميا.
فالمشكلة هنا ليست الطوائف بحد ذاتها إنما الصراع الطائفي كمشكلة سياسية واجتماعية، ولكن السؤال : هل الصراع الطائفي موجود طالما الطوائف موجودة بالضرورة؟ أم أنه يحدث نتيجة لعوامل سياسية وثقافية تدفع الطوائف إلى الصراع، ففي الحالة الأولى تعتبر الدولة كابحة للصراع الطائفي القائم بالفعل مما يجعله مشكلة كامنة تختفي بوجود دولة قوية ومستقرة وتظهر بفشل الدولة في أداء مهامها، أما في الحالة الثانية يعني أن الصراع ليس العلاقة الطبيعية بين الطوائف، وإنما بسبب ظهور ثقافة جديدة من قيادات دينية جديدة أو نتيجة للاضطرابات الأمنية والسياسية والتي قد تتضمن عنصرية أو إقصاء أو حتى استهداف للطائفة معينة أو أكثر، مما يمهد للصراع الطائفي.
وبالرغم من تعبير الجميع عن كرههم للطائفية، إلا أنهم جميعا متمسكون بولائهم لطوائفهم، ويظهر ذلك من خلال تعاطفهم وشماتتهم ومواقفهم.
وعلى سبيل التوضيح نذكر المثال التالي حول القضية الفلسطينية، فالبعض يأخذ تصريحات تركيا ودعمها لغزة من قبيل الفخر والاعتزاز ويرى تصريحات إيران مجرد حشد واستغلال للقضية والبعض الآخر يرى العكس تماما بينما طرف ثالث يرى بأن القضية شأن عربي وأن تركيا وايران تستغل القضية لمد نفوذها، وهذه المواقف ليست قائمة على حسابات سياسية أو استراتيجية ولا على أدله واقعية وإنما من باب الولاء الطائفي لجماعاتهم.
وقبل مناقشة حلول مقترحة نحتاج لنقاش الحلول المطروحة أولا وعلى رأسها العلمانية بمعنى فصل الدين عن الدولة وعن السياسة، ولا أعرف الهدف من هذا الطرح هل هو تنزيه الدين من السياسة؟ أم وضع العمل السياسي على أسس واقعية وبراغماتية؟ أم مجرد محاولة لتجريد منافسيهم الإسلاميين من نفوذهم الديني والسياسي؟ والعلمانية مطروحة كحل على أساس أن الصراع الطائفي قائم بسبب خلافات عقائدية وثقافية وبالتالي فإن فصل الدين عن السياسة والدولة تحييد للخلاف العقائدي والثقافي القائم، متناسيين أن الصراع الطائفي هو صراع بالدرجة الأولى على السلطة وعلى مصالح الطائفة وهي عوامل سياسية وليست عقائدية ولن ترضى أي طائفة بأي حل يستثنيها من العملية السياسية ويهدد نفوذها ومصالحها، وفرض العلمانية بالقوة يشبه انتصار طائفة معينة وفرض مذهبها على الجميع بالقوة وهذا ليس حل للطائفية وإنما حسم للصراع الطائفي بمعنى انتصار طائفة.
والحل الآخر المطروح وهو ثقافة التسامح والقبول بالآخر وهناك رؤيتان الأولى ليبرالية وهي تطرح نموذج بعض الدول الغربية الليبرالية إذ أن الدولة علمانية ولكن فيها تنوع ثقافي لا الدولة تتدخل بمعتقدات الناس ولا حتى الناس والجميع يمارس السياسة وفق قواعد الديمقراطية الليبرالية ولا أحد يستغل نفوذه الديني لمكاسب سياسية، وتبدو هذه الرؤية مثالية إذ أن النفوذ الديني في الغرب ضعيف ولا يمكن استخدامه لتحقيق مكاسب سياسية عكسنا حيث أن نفوذ الدين والرموز الدينية بالغ القوة حتى على الساحة السياسية ومن الصعب إقناع جماعة أو شخص ما بعدم استخدام نفوذه حتى لو تم الإقرار بعلمانية الدولة في الدستور، أما الرؤية الثانية وهي الإسلامية والتي لم تتبين معالمها بعد فأحيانا نسمع عن طرح الإسلام المعتدل هو الحل وأحيانا طرح ضرورة التوافق في العقيدة لا مانع من الاختلاف في ما دون ذلك أو ديمقراطية إسلامية والكثير من الأطروحات مثل هذه والتي لا تحتوي أي آليات مقترحة أو قواعد تنظم اللعبة السياسية.
وبخصوص حل لمشكلة الصراع الطائفي فلا يمكن حلها بدون مناقشتها مع المشاكل المرتبطة بها والتي تتضمن جوانب سياسية واجتماعية وثقافية، ولكن على العموم احتكار الدولة لكل أدوات العنف واستقرارها أمنيا واقتصاديا عامل حاسم في كبح – وليس حل – الصراع الطائفي والإشكالية هي في حالة كان الصراع الطائفي عائقا أمام بناء الدولة واستقرارها والتي هي بدورها عامل أساسي في كبح الصراع الطائفي وبذلك فهي حلقة يصعب كسرها، وحتى في حالة الاتفاق على دولة وحكومة وقواعد اللعبة السياسية فغالبا ما يتم محاصصة المناصب والموارد والذي له آثار سلبية على استقرار وازدهار واستقلال البلاد.
وفي العموم أعتقد أن التطورات الجارية في العراق ولبنان لو تم تتبعها بالدراسة يمكن أن نصل إلى مرحلة نستنتج فيها فرضيات ونظريات قد تشكل نموذجا لحل المشكلة وتجاوز مرحلة ضياع الدولة أو فشلها إلى مرحلة تكون فيها الدولة أكثر فاعلية وازدهار.