الدكتور برهان غليون
في اعتقادي أن أحد الأسباب الكبرى التي حالت دون فهم الطائفية وتجنب آثارها هو اختلاط مفهوم الطائفية نفسه وعدم ضبطه، مما أساء أيضًا إلى فهمنا لها كظاهرة اجتماعية وسياسية وبناء تعريف واضح وصحيح لها أيضًا. فقد مال معظم الذين أثاروا مسألتها، في الأدبيات العربية القومية المعاصرة، إلى الخلط بشكل كبير بين التعددية الدينية، أي انطواء المجتمع على تنوع ديني كبير، يتسم إلى حد أو آخر من الانسجام أو الصراع، وسيطرة إحدى هذه الفرق أو الجماعات الدينية على مقاليد الأمور في السلطة أو على مواقع رئيسية منها في سبيل تأمين منافع استثنائية وخاصة لا يسمح بها القانون. أي يخلطون، إذا شئنا التبسيط قليلاً، بين الطائفية في المجتمع والطائفية في الدولة، وهما من طبيعتين مختلفتين تمامًا وليس لهما النتائج ذاتها. الأول يتعلق بطريقة اشتغال المجتمع والثاني بطريقة اشتغال الدولة الحديثة، ولا قيمة له إلا من منظور بناء هذه الدولة.
ومصدر الخلط النظري هذا نابع من أن الفكرة القومية التي انتقلت إلى الثقافة العربية من الأدبيات الغربية ذات الصبغة الأحادية، ارتبطت بقوة بفكرة التجانس الاجتماعي. ونظر القوميون العرب، كغيرهم في العالم، إلى التعددية الدينية والإتنية في المجتمع كعقبة أمام نشوء وعي قومي يتجاوز الطوائف والانتماءات الدينية الفرعية. بل اعتقدوا أن استمرار عصبيات أو انتماءات جماعية فرعية لا بد أن يغذي ولاءات غير وطنية، من داخل الدولة وخارجها، وبالتالي يضعف سيطرة الدولة على إقليمها وسكانها ويعرضها لتدخل القوى الأجنبية[1]. لكن ليس هناك أي شك في أن استمرار الولاءات الطائفية، الدينية والأقوامية معًا، في المجتمعات الوطنية، ثم نموها في مرحلة تالية إلى درجة وضعت فيها الوطنية نفسها في أزمة، يعكس المسار الذي اتخذه تشكُّل النخبة الوطنية الحديثة والصعوبات التي حالت دون تطور النسيج الوطني نفسه. وفي مقدمة ذلك ضآلة الموارد المادية واللامادية التي توفرت لهذه النخبة، وبشكل خاص غياب طبقة اجتماعية متماسكة حديثة، واضطرارها إلى الاعتماد، بشكل مباشر أو غير مباشر، في إعادة إنتاج نفسها وشروط وجودها وسيطرتها الاجتماعية، على عوامل خارجية وغالبًا على الدولة نفسها. وبسبب هذا الضعف البنيوي، الذي نجم عن تعثر عملية التحديث، أو غياب الشروط المادية والجيوسياسية له، وجدت العديد من النخب الاجتماعية الصاعدة والمعزولة، فرصًا أكثر لتوفير الموارد البشرية والسياسية والأيديولوجية التي تحتاجها تعزز موقفها في التنافس على السلطة عبر الالتصاق بالجماعات الفرعية المنتمية لها مما كانت ستجده من تماهيها مع الجماعة الوطنية العامة التي لم تكن قد تكونت بعد، وربما لم تتكون حتى الآن، من حيث هي جماعة واعية لوحدتها السياسية ولإرادتها المشتركة في العمل والانجاز ومستبطنة لقانون الوطنية، أي لمفهوم الدولة من حيث هي دولة القانون، التي هي أساس وجودها.
ومن هنا دافعت في كتابي نظام الطائفية، من الدولة إلى القبيلة[2] عن أطروحة تقول بأن الطائفية تنتمي إلى ميدان السياسة لا إلى مجال الدين والعقيدة، وأنها تشكل سوقًا موازية، أي سوداء للسياسة، أكثر مما تعكس إرادة تعميم قيم أو مباديء أو مذاهب دينية لجماعة خاصة. وتتضمن هذه النظرية أربع فرضيات رئيسية:
– الأولى أن الطائفية لا علاقة لها في الواقع بتعدد الطوائف أو الديانات. فمن الممكن تمامًا أن يكون المجتمع متعدد الطوائف الدينية أو الإتنية من دون أن يؤدي ذلك إلى نشوء دولة طائفية أو سيطرة الطائفية في الدولة، بمعنى استخدام الولاء الطائفي للالتفاف على قانون المساواة وتكافؤ الفرص الذي يشكل قاعدة الرابطة الوطنية الأولى، وبالتالي لتقديم هذا الولاء على الولاء للدولة والقانون الذي تمثله.
– والفرضية الثانية أن الطائفية لا توجد في المجتمعات التقليدية ما قبل الحديثة التي تفتقر لفكرة السياسة الوطنية والدولة الحديثة ولا تقوم إلا عبر سيطرة عصبية قبلية أو دينية رئيسية، تشكل قاعدة السلطة المركزية وضمان وحدتها واستمرارها، وبالعكس لا يصبح استخدام الولاءات الجزئية داخل الدولة خروجًا عن القاعدة والقانون إلا مع نشوء الدولة الحديثة التي تقوم على مبدأ العقد الاجتماعي بين أفراد أحرار ومستقلين تجمعهم مباديء مشتركة، ولا يحقق وحدتهم السياسية (الوطنية) إلا التزامهم جميعًا بها ووضعها فوق انتماءاتهم الخاصة على مستوى العلاقة الكلية، أي في علاقتهم مع أفراد الجماعات الأخرى. ولأنها سياسة مرتبطة باختيار عام، وليست مفروضة بقوة الاستيلاء والعصبية والشوكة، كما كان عليه الحال في الدولة القديمة، فالسياسة الوطنية تدور من حول الرأي العام، أي الرأي الذي يشكل خلاصة رأي الأفراد وليس الجماعات، والذي يتبلور في ما يشبه السوق السياسية، أي في التنافس بين النخب السياسية، ذات البرامج المتعددة والمتباينة والمتناقضة أحيانًا، التي تعكس مصالح متباينة أيضًا، على كسب تأييد الأفراد ونيل ثقتهم ببرامجها السياسية وبالتالي ضمان التصويت لها أو تأييدها في مواقفها. وكل تكتل داخل الفضاء السياسي الوطني، وداخل الدولة ومؤسساتها بشكل خاص، على أساس الولاءات العصبية، الدينية أو الأقوامية، على حساب الولاء الوطني القائم على الاختيار بين سياسات تعنى جميعها بالشأن العام وليس بالمصالح الخاصة، يخرب آلية عمل هذه السوق. ومن هنا يعتبر استخدام التضامن الطائفي أو الإتني داخل الدولة، خروجًا عن قانون الوطنية، أي عن العقد المفترض أنه قائم بين مواطنين أفراد، أو يقبلون بأن يكونوا على مستوى العلاقة في ما بينهم، خارج دائرة مصالحهم الخاصة، المجتمعية، مواطنين أفراد يستخدمون وسائل السياسة للتعبير عن آرائهم ومواقفهم. وهو ما يشكل مصدرًا لفساد السياسة الوطنية أيضًا. ذلك أن الأغلبية المنبثقة عن انتخابات تخترقها التكتلات غير السياسية والولاءات الدينية والإتنية لا يمكن أن تعبر عن أغلبية اجتماعية ولا يمكن أن تضع نفسها، والسلطة العمومية التي تسقط بين يديها، في خدمة الجماعة الوطنية العمومية أيضًا. فهي لا تحقق انتصارها على أساس معايير سياسية، أي نابعة من نوعية البرامج التي تقترحها على الشعب ككل وتطلب موافقته عليها، والتي ترتبط بتحقيق مصالح مشروعة، حتى لو كانت تخدم طبقة معينة، ولكن على أساس معايير غير سياسية، تتنافى وإعادة إنتاج الجماعة الوطنية كجماعة موحدة، أي سياسية، وهي شرط وجود الجماعة السياسية أو الأمة كعلاقة متميزة عن علاقة القبيلة والدين، ومن ورائها الدولة التي تكرس وجودها وتضمن استمراره. وكما هو الحال في السوق التجارية، تطرد العملة الفاسدة، التي هي الولاءات غير السياسية، العملة السليمة التي هي الولاءات الوطنية الجامعة التي تقبل الانقسام الأفقي من حول تحديد المصالح الاجتماعية والصراع عليه، ولا تقبل النزاع العامودي الذي يعني خراب الأمة أو الجماعة السياسية والعودة إلى أولوية العصبية الدينية أو الأقوامية. وبالعكس، إن قيام السياسة بالأساس على مبدأ الغلبة، وهو ما كان سائدًا قبل نشوء الدولة الحديثة، حتى لو احتاجت هذه الغلبة على تأييد ديني أو رمزي، وغياب مفهوم التنافس على السلطة بطرق سلمية، وفي سياقه أهمية الرأي العام في هذه العملية، لا يجعل من الطبيعي أن يتحقق تداول السلطة عن طريق القوة، ولكنه يجعل صاحب هذه القوة أو الفريق الذي يوفرها هو الأجدر والأكثر شرعية في استلامها بقدر ما يضمن استقرارًا أطول ويوفر على المجتمعات النزاعات الدموية الخطيرة التي ترافق انتقال السلطة. ولا يمكن توفير القوة الضاربة من دون العصبية كما لاحظ ابن خلدون، منظر الدولة الأكبر في القرون الوسطى العربية والإسلامية. ولذلك فإن الحكم لا ينفصل هنا عن سيطرة عصبية حاكمة وفرض قانونها وسيادتها على كامل المجتمع، أي على العصبيات الأخرى.
– والفرضية الثالثة أن الطائفية لا ترتبط بمشاعر التضامن الطبيعي بين البشر المنتمين إلى عقيدة واحدة أو رابطة قرابة طبيعية، وليست حتمية، أي أمر نابع مباشرة من الاعتقاد والانتماء والقرابة لمجرد وجودها. إنها استراتيجية سياسية، أي خطة للاستفادة من التضامن الآلي الذي تنشؤه علاقات القرابة المادية أو المعنوية والعقيدية بين الأفراد من أجل تحقيق أهداف ليس لها علاقة بأسباب القرابة ولا بغاياتها، من دون أن يعني ذلك أن تحقيق الأهداف الجديدة لا يمكن أن يؤثر على بنية هذه القرابة وحدود نفوذ الجماعة النابعة منها ومركزها. فالطائفية هي النموذج الأوضح لاستخدام الدين والعصبية القرابية في السياسة، والنظر إلى الجماعة الدينية من حيث هي جماعة مصالح خاصة، لا من حيث هي أفراد يبحثون عن نشر رسالتهم الدينية. وهي تقود إلى إفساد السياسة التي تختلط بالقرابة وتفقد طابعها المدني الشامل الذي يجعلها إطارًا مفتوحًا على جميع أصحاب العقائد الدينية، كما هو الحال في الأحزاب السياسية. كما تقود إلى إفساد الدين الذي تحول جماعته إلى مجموعة محاربة من أجل مصالح دنيوية وتضطر إلى إعادة تفسير العقيدة نفسها بما يبرر السيطرة والعدوان والسطو على مصالح الجماعات الأخرى.
– أما الفرضية الرابعة، وهي مرتبطة بالسابقة، فهي أن الطائفية استراتيجية مرتبطة بالنخب الاجتماعية المتنافسة في حقل السياسة ومن أجل السيطرة واكتساب المواقع، سواء أكان ذلك داخل الدولة أو على صعيد توزيع السلطة الاجتماعية، بالدرجة الأولى. ولا يمكن لأي ديناميكية طائفية، ومن باب أولى حرب طائفية، أن تنشأ أو تندلع من دون وجود نخب طائفية، أي من دون تبني النخب الاجتماعية، كلها أو بعضها، لاستراتيجية طائفية والتعبئة على أساسها. ومن هنا تختلف الطائفية حسب النظرية التي نطرحها عن النزاعات الدينية التي تنفجر أحيانًا بين الطبقات الشعبية لأسباب متعددة في أجواء التوتر الاقتصادي والاجتماعي والديني ويمكن أن تستوعب بسهولة من قبل الدولة، سواء أكانت هذه الدولة دولة وطنية أو دولة العصبية، بل من قبل القيادات الدينية نفسها. وهو ما يصعب تحقيقه عندما تتحول الدولة نفسها إلى مسرح لتنازع العصبيات الدينية والقبلية بدل أن تكون إطار تجاوزها في علاقة جديدة وخاصة، هي العلاقة الوطنية.
ومن هنا نعرِّف الطائفية بأنها مجموعة الظواهر التي تعبر عن استخدام العصبيات الطبيعية، أي ما قبل السياسية، الدينية منها والإتنية والزبائنية المرتبطة بظاهرة المحسوبية أو المافيا، في سبيل الالتفاف على قانون السياسة العمومية أو تحييده، وتحويل الدولة والسلطة العمومية من إطار لتوليد إرادة عامة ومصلحة كلية، إلى أداة لتحقيق مصالح خاصة وجزئية. إنها تشكل ما يشبه الاختطاف للسلطة السياسية التي هي أداة تكوين العمومية لأهداف خصوصية. وهي تنطوي لذلك على مخاطر تدمير الدولة نفسها بوصفها بنية عمومية ومنتجة للعلاقة العمومية، ومن ورائها على مخاطر زوال الأمة نفسها بوصفها جماعة موحدة سياسيًا، أو ذات قانون سياسي، يختلف نوعيًا عن قانون العصبية الدينية والإتنية ويتجاوزه معًا. فالطائفية لا تنطبق على استخدام الدين، ولكن على استخدام كل أشكال التضامنات الخاصة، ما قبل السياسية، التي تنجم عن تعبئة العصبيات الطبيعية، القائمة على القرابة المادية، كالعشيرة والعائلة والإتنية، أو المذهبية، كما تنطبق مع آليات شراء الضمائر والرشوة المعممة. فهي تلتقي جميعًا في تزوير الإرادة العامة والتلاعب بالرأي العام في سبيل تزييف اختياراته أو حرفها عن خطها الطبيعي المعبر عن مصالح الناس واختياراتهم بحرية، والالتفاف على معايير الخيارات السياسية. ونتيجتها في جميع الحالات تزييف الحياة السياسية الوطنية وتهديد الدولة ومؤسساتها بالتحول إلى أدوات لخدمة مصالح خاصة بدل أن تكون، كما يفيد مفهومها، إطار بلورة المصلحة العامة وتقديمها على جميع المصالح الأخرى الذي يشكل شرطًا لا غنى عنه لقيام الدولة واستقرار سلطة سياسية بصورة شرعية.
لذلك، بعكس ما شاع في النظرية الوطنية والقومية الشائعة، لا ترتبط الطائفية بوجود مذاهب دينية متعددة في مجتمع من المجتمعات، ولا بوجود مشاعر انتماء قوية تشد الأفراد إلى طوائفهم أو عصبياتهم القبلية، ولا حتى بوجود تضامن ديني قوي بينهم. فهذا هو الوضع السليم والطبيعي في كل المجتمعات. فالمجتمع مكون من جماعات مصالح أو انتماء أو اعتقاد. ومن الطبيعي أن يشعر كل فرد بتعاطف أكبر مع الأفراد الذين يشاركونه المصلحة أو العقيدة أو الثقافة أو الموقع الاجتماعي الذي يحتله. ومن دون التضامن والألفة الخاصة الذين يجمعان بين أفراد جماعة واحدة لن يكون هناك أي معنى ولا مضمون للحياة الاجتماعية أو للتجمعات الأهلية. ينطبق هذا على مستوى الجماعات القومية الكبرى كما ينطبق على الجماعات الفرعية داخل هذه الجماعات القومية.
إن تعزيز التكافل والتضامن داخل جماعات الانتماء للمذهب أو الدين أو العشيرة أو المؤسسة التجارية أو الاقتصادية، وبشكل عام جميع هياكل ما نسميه بالمجتمع المدني هو غاية هذه الجماعات وهدفها. إن الطائفية تنشأ عندما تنقل إحدى هذه الجماعات هذا التضامن والتكافل إلى مستوى الدولة. والسبب في ذلك أن انتقال قانون الجماعة الخاصة أو العصبية من مجال عمل المجتمع إلى مجال عمل الدولة يخرب الدولة نفسها بقدر ما يحرمها من تحقيق ماهيتها بوصفها بالتعريف إطار إنتاج العلاقة العمومية بين أفراد ينتمون إلى مذاهب وعصبيات متعددة، أي علاقة الوطنية، وضمان نجاعتها واستمرارها. ومن هنا ليست الدولة حاصل جمع العصبيات القائمة أو الجماعات الدينية المتواجدة على أرض إقليم من الأقاليم، ولكنها تجاوز لها من خلال تأسيس علاقة جديدة مختلفة تمامًا عنها، في غايتها وأهدافها ووسائل تحقيق هذه الأهداف. فغاية الدولة بناء الشأن العام فكرة وقيمًا وممارسة والحفاظ عليه، وأهدافها خدمة المصلحة العامة والمصالح العليا للجماعة الوطنية ككل، وهو ما يفترض أيضًا تحقيق التوازن بين المصالح الخاصة وإخضاعها لقواعد ومباديء شرعية ومقبولة، وهي تستخدم في ذلك أدوات عمومية تخضع في سلوكها وتحديد مهامها إلى الدولة، أي البنية العمومية المستقلة تمامًا عن البنى الخاصة، وتتلقى أوامرها وتعليماتها.
ومن هنا لم تصبح الطائفية ظاهرة سلبية، ولم نبدأ في الحديث عنها بصورة نقدية إلا بعد نشوء الدولة الحديثة، وبقدر ما أصبحنا نعتقد أنها تشكل تقويضًا عميقًا لنظام سياستها الوطني، بل ربما حالت دون ولادة هذه الدولة نفسها بوصفها دولة الحريات والحقوق الأساسية الفردية. لكن الذي يفسر وجودها واستمرارها في الدول الحديثة، العربية وغير العربية، هو من دون شك غياب نخبة سياسية وطنية، أو بالأحرى افتقار النخب الجديدة شبه الوطنية، لسبب أو آخر، للنضج السياسي، ونقص تمثلها فكرة الدولة الحديثة ومفهوم السياسة المرتبطة بها[3]. وعدم النضج والاستيعاب العميق لمفهوم الدولة والسياسة بالمعنى الحديث هو الذي يفسر نزوع هذه النخبة إلى الخلط، المقصود أو غير المقصود، بين قانون المجتمع القائم على منطق التضامن الجزئي بين الأفراد، حسب المصلحة والعقيدة والثقافة والسمات المشتركة العديدة، وهو ما نسميه ميدان المجتمع المدني بالمصطلحات الشائعة، وقانون الدولة الحديثة الذي يقوم عليه وينبع منه مفهوم المصلحة العمومية الذي يتوقف على وجوده نشوء رابطة سياسية تجمع بين أفراد الجماعات الأهلية جميعًا، وترتفع بهم وبسلوكهم نحو مستوى نسميه المستوى السياسي، يتصور فيه كل فرد نفسه مواطنًا شريك المواطن الآخر، في جماعة عليا. وأساس هذه المواطنية الخضوع لقانون واحد، يتساوى في إطاره الجميع في الحقوق والواجبات.
لا يلغي نظام القانون السياسي نظام المجتمع العرفي ولا يحل محله. إنه يتركه يعمل على مستوى الحياة المدنية، لكنه يضيف إليه مستوى آخر يلتقي فيه الأفراد من حيث هم أعضاء في جماعة سياسية. وأهمية هذا المستوى الجديد من العلاقات هو توسيع إطار التواصل والتبادل والتفاعل بين البشر. ذلك أن رابطة السياسة، التي لا تطلب من الفرد سوى الخضوع للقانون المصاغ بصورة واعية ومشتركة، تستوعب درجات من الاختلاف والتمايز الثقافي والديني بين الجماعات أكبر بكثير مما تستوعبه جماعات العصبية الطبيعية والدينية. وهي تشكل بالتالي الوسيلة الوحيدة لبناء الفضاءات الحضارية المتنوعة والمنفتحة والمنتجة. فنظام الدولة السياسي يجمع تحت سقف القانون الواحد الأفراد أنفسهم الذين تفرق بينهم، على صعيد قانون المجتمع المدني، وحسب منطقه القائم على بناء التضامنات الجزئية، المصالح والاعتقادات والثقافة. ويعني سقف القانون ضمان المعاملة الواحدة والمتساوية، التي تضمن لجميع الأفراد، بصرف النظر عن أصلهم وعقائدهم وولاءاتهم القبلية، فرصًا متكافئة، في التنافس على مواقع المسؤولية والشغل والإدارة، وبالتالي على اختيار الأطر الأصلح لقيادة الشؤون العامة. ولذلك لا يتحقق وجود الجماعة الوطنية الواحدة إلا عبر الدولة وبوجودها، من حيث هي إطار للمساواة القانونية والسياسية[4]. ولذلك أيضًا يشكل الارتقاء إلى مستوى الرابطة السياسية، التي هي في أصل نشوء الدول، مرحلة أعلى وأكثر تعقيدًا من مراحل التنظيم الجمعي. ولا يمكن ردها إلى الرابطة العصبية، أي إلى مفهوم الهوية الثقافية أو الدينية أو الأقوامية، من دون القضاء عليها وتدميرها. فمتى ما حل قانون المجتمع القائم على التضامنات الجزئية في الدولة ومؤسساتها، فقدت هذه المؤسسات سمة العمومية، وتحولت إلى مؤسسات شبيهة بمؤسسات المجتمع، أي لم يعد بإمكانها بناء المواطنية ومفهوم العمومية، وبالتالي الجمع بين أفراد ينتمون إلى جماعات ثقافية ودينية مختلفة.
وهاهنا، في هذا الخلط المقصود أو العفوي بين قانون الدولة السياسي ومنطقه وقانون المجتمع الأهلي وتركيبته الجزئية تولد الطائفية. وأول ما يقود إليه نقل منطق المجتمع التضامني الأهلي إلى ميدان الدولة هو إحلال العرف وعاطفة القرابة المادية والروحية محل منظومة الحق والقانون والتضامن الوطني العام والعلاقات المؤسساتية. ويفضي التكتل داخل المؤسسات وفي السلطة بين أعضاء عشيرة أو طائفة واحدة إلى تعطيل قواعد المساواة، والحظوظ المتكافئة، وبالتالي إلى إلغاء المنافسة النزيهة بين الأفراد على تبوء مراتب المسؤولية، ويجعل الولاء بديلاً للانتقاء على أساس الكفاءة والمعايير الموضوعية. وبدل أن تكون الدولة مركز سلطة عمومية وإنسانية تضمن وحدة المجتمع المقسم والمتنافس على صعيد الحياة الطبيعية اليومية، تتحول إلى إطار لتنظيم الدفاع عن المصالح الخاصة وتعظيم المنافع الاستثنائية.
لكن مخاطر الطائفية لا تقتصر في الواقع على تدمير قانون الدولة وتحويل أجهزتها إلى أدوات وقواتها إلى ميلشيات موضوعة في خدمة الطائفة الحاكمة فحسب، ولكنها تذهب أبعد من ذلك لتدمر المجتمع المدني نفسه. فبقدر ما تنجح قيبلة أو جماعة دينية في السيطرة على الدولة وأجهزتها وتقوم بتحييد قانون السياسة العمومية، فإنها تتملك وسائل تمكنها من إخضاع الجماعات الأخرى وفك تنظيماتها الأهلية وكسر أي مقاومة يمكن أن تبديها لهذه السيطرة، سواء أكانت ذات محتوى عصبوي تقليدي أو ذات محتوى تحرري حديث. وهكذا تتحول الدولة نفسها، التي من المفترض ان تكون إطارًا قانونيًا لضمان اشتغال قانون المواطنية، أي المساواة، وتأكيد أسبقية المصالح العامة وضمان التوازن بين المصالح الخاصة الاجتماعية، إلى أداة جبارة في يد العصبية الحاكمة لحل العصبيات الأخرى وتدميرها واستتباع أفرادها بالقوة وتسخيرهم لخدمة أهدافها الخاصة. من هنا لا تقضي الطائفية، أكثر من أي مرض آخر، على الرابطة الوطنية، ولكنها تدمر أيضًا قاعدة المجتمعات الأهلية، وتحول مؤسسات المجتمع المدني إلى خرائب لا تفي بأي حاجة اجتماعية. وبهذا فهي لا ترد المجتمع ثانية إلى مرحلة ما قبل الدولة، وإنما تحكم عليه بالخراب والفساد الشامل. فهي تجوف البنية السياسية المنتجة للفردية السياسية المكونة للرابطة الوطنية وتقضي على شروط إنتاج التضامنات الأهلية الضرورية للسير الطبيعي للحياة الجمعية.
وكما يؤدي استيعاب الدولة من قبل العصبيات الجزئية إلى دمار الرابطة الوطنية وتجفيف ينابيع الحياة السياسية، يلغي تطبيق قانون العمومية داخل المجتمع وتجمعات مصالحه الخاصة روح المجتمع المدني الإبداعية، ويجعل منه هيئة بيرقراطية ميتة، كما تبرز ذلك المنظمات النقابية التي تبنيها السلطات الفاشية والاستبدادية التي تفرض عليها قوانين الدولة في الوقت الذي تفرض على الدولة قوانين المجتمعات الأهلية التعددية.
من هنا تشكل دراسة الظاهرة الطائفية، كما أصبحت تتظاهر اليوم، مدخلاً رئيسيًا للكشف عن الأمراض التي تعاني منها الوطنيات التي ولدت من رحم الاستعمار وفي حضن الحركات الوطنية. فمن حيث هي تقديم للولاءات الفرعية على الولاء الوطني تشكل الطائفية الخطر الأول على بقاء الوطنية، بما هي رابطة جامعة تمثل تجاوز الانتماءات الفرعية، الدينية والأقوامية، وتؤسس لتضامن أشمل من التضامن الأهلي، يحفظ وحدة الجماعة الوطنية، أو يجعل منها كتلة متراصة، متضامنة ومتكافلة، قادرة على أن تكون فاعلاً مستقلاً في الفضاء الجيوسياسي العام. وفي أساس هذا البناء تكوين مفهوم المصلحة العامة بوصفها الإطار الذي يرسم حدود المصالح الخاصة ويضمن استمرارها وتفتحها على قاعدة احترام حظوظ متساوية للجميع، أو على الأقل منع بعض المصالح الخاصة من أن تتطور على حساب مصالح خاصة أخرى. وهو ما يضمن الانسجام والتفاهم والتعايش بين الجميع، وينشيء من فوضى المصالح والتنازع على الموارد والبقاء نظامًا اجتماعيًا ثابتًا ومستقرًا، ويحل التعاون والسلام محل العنف والاقتتال. وفي مقدمة هذه المصالح العامة، التي لا تتأسس مصالح خاصة اجتماعية من دون تعيينها واحترامها، الحق الذي يعني مجموع القوانين التي تضبط النظام الاجتماعي وفلسفتها معًا. فالحق مصلحة عامة كبرى، وتجاوز القوانين التي تقوم على أساسها العلاقات الاجتماعية السلمية يعني بالضرورة تهديد الكيان الجمعي وتعريضه للخطر.
والخلاصة، بعكس ما يؤكد عليه القوميون في أيامنا الحاضرة، ليست التعددية الدينية هي المسؤولة عما حصل، لا في البلاد العربية ولا في غيرها من البلدان التي عاشت، ولا تزال، الظاهرة نفسها، وإنما قصور الحركة الوطنية والقومية وعدم اكتمال الدولة أو ضعف مفهومها عند النخب والرأي العام معًا، وانعدام الثقافة السياسية. وفي اعتقادي أن الخلط النظري الذي نشأ من الربط، داخل الأدبيات القومية في البلاد العربية بين التعددية الدينية والإتنية القائمة على مستوى المجتمع المدني، والتي هي ظاهرة طبيعية، وضرورية، حتى لو لم تكن مرتبطة بمفاهيم حديثة أو بممارسات مدنية سليمة، واستخدام الولاءات الجزئية من قبل النخب الحاكمة داخل الدولة وفي سبيل ضمان السيطرة غير المشروعة عليها، قد أساء إساءة كبيرة إلى إدراك حقيقة الظاهرة ووضع اليد على الآثار الخطيرة المرتبطة بها. فقد استسلم السياسيون والمنظرون لفكرة اعتبروها بديهية، وهي غير ذلك، مفادها أن المجتمع العربي مجتمع متعدد الطوائف والمذاهب والإتنيات، فسيفسائي، وأن هذه التعددية هي المسؤولة عن اختراق الدولة بالطائفية، وبالتالي فليس هناك ما يمكن عمله لمقاومتها سوى الاشتغال على وعي المجتمع وثقافته لاقناعه بخطر التحيزات الدينية والأقوامية. وكانت نتيجة هذه السياسة سلبية على مستويين. على مستوى الوعي الجمعي الذي ما كان من الممكن أن يقتنع بسوء التضامنات الدينية والأقوامية التي يستند إليها في ضمان الحد الأدنى من التعاون والتضامن، خاصة في إطار دولة تتلاعب بها المصالح الخاصة الطائفية. فاستمر يراهن على علاقات التضامن الدينية والمدنية القديمة لكن مع شعور بالإثم يدفع به إلى إخفائها، وإظهار التمسك المبالغ فيه وأحيانًا المرضي بمباديء الوطنية المجردة وشعاراتها، أي الوطنية والقومية الفارغة من أي التزام والمفتقرة إلى أي محتوى سياسي، بل عاطفي خارج إطار ترداد الشعارات وتكثيرها. وعلى مستوى النخبة الاجتماعية نفسها، الرسمية والأهلية، التي منعها هذا الخلط بين طائفية المجتمع وطائفية الدولة من اكتشاف خصوصية الطائفية السياسية والعمل على استئصالها داخل الدولة، وهو أمر ممكن وضروري، بصرف النظر عن وعي المجتمع المدني ودرجة تمثله لقانون الدولة السياسي.
_____________________________________________________
المصدر: مجلة الآداب البيروتية، كانون الثاني 2007.
[1] تشكل اليعقوبية، التي يمكن ترجمتها بعبارة القومية المتطرفة، النموذج لهذا الموقف الذي سيطر على الفكرة القومية العربية كما سيطر على فكر القومية في الكثير من البلدان. واليعقوبية نسبة لتيار سياسي قاده
ماكسيميليان روبسبير، أحد قادة الثورة الفرنسية الذين اشتهروا بالقسوة، وزعيم نادي اليعاقبة، أحد النوادي الفكرية والسياسية النشيطة في هذه الثورة. وكانت اليعقوبية تدافع ضد الليبراليين والجمهوريين المعتدلين عن محاربة اللغات الجهوية وفرض اللغة المركزية بموازاة فرض الجمهورية والدولة الشديدة المركزية. ولذلك ارتبط اسمها بالديكتاتورية والإرهاب ورفض التعددية الثقافية والإتنية. غاستون مارتان، اليعاقبة، Gaston-Martin, «Les Jacobins».
[2] صدر عن دار المركز الثقافي العربي، بيروت الدار البيضاء، 1990.
[3] قد يأخذ علينا البعض هنا التأكيد على مسؤولية النخب الاجتماعية محتجًا بأن هذه النخب هي وليدة المجتمع وهي تمثل وعيه. وهذا ليس صحيحًا. إن ما يجعل من النخبة نخبة وطنية هو قدرتها على الارتقاء بوعيها
فوق الشرط الخاص بمصالحها الضيقة وقدرتها على تصور المصلحة العامة وتمثلها. وما يميز النخبة عن المجتمع العمومي هو أنها تمتلك وسائل ثقافة وتعلم وشروط عمل تجعلها أقدر على استيعاب التحولات الخارجية واكتساب معارف ومفاهيم جديدة وتطبيقها بشكل خلاق أيضًا في مجتمعاتها. في اختصار، ما يميزها ويجعل منها نخبة هو قدرتها على القطع مع النماذج التقليدية وبناء تجارب جديدة أو القيام بمبادرات عقلية وعملية. وإذا كان ذلك غير ممكن استحال أي تحول اجتماعي، عندنا وعند المجتمعات الأخرى.
[4] لا نستخدم هنا مصطلح وطني بالمعنى المعياري الذي يشير إلى موقف أخلاقي يركز على القيم الوطنية أو يلتزم بها وإنما بالمعنى الوصفي الذي يعبر عن وجود دولة من طبيعة سياسية حديثة، وطنية، يكون
مصدر السلطة فيها هو الشعب نفسه، الذي يشكل لذلك أيضًا صاحب السلطة الحقيقية. وهو ما يميزها عن الدولة الامبرطورية القديمة أو السلطنة التي عرفتها أكثر مجتمعات القرون الوسطى، والتي يصدر القانون فيها عن النخبة الحاكمة، سواء أكانت طبقة أرستقراطية أو تيوقراطية أو عسكرية.