تأصيل ثقافي وهويّاتي للتفرقة والكراهية والعنصرية
أ. حسام شاكر
يسود انطباع بأنّ أمم الحاضر تجاوزت أنماطاً عنصرية صريحة عرفتها من قبل أو لم تَعُد تحتفي بها أو لعلّها أزاحتها إلى الهوامش، في ظلّ التوافق الأممي على نبذ العنصرية وذمّ الكراهية وإعلاء مقولات المبادئ والقيَم. يُغري هذا الاستنتاج المتسرِّع بإغفال قدرة خطابات العنصرية والتشويه والتحريض والتفرقة على إعادة إنتاج ذاتها بما يراعي مُتغيِّرات من حولها، إلى حدّ التكيّف مع شعارات مبدئية سائدة وارتداء عباءة القيَم أحياناً، مع التعبير عن ذاتها من منصّات ثقافية وفكرية ترقى فوق منسوب الشكّ والاشتباه.
ولأنّ أمم الحاضر ما عادت تحتفي بالعنصرية على النحو الذي عهدته البشرية في مراحل خلت؛ فإنّ الأنظار قد تغفل عن خطابات عنصرية مُتذاكية أو عن مقدِّمات تبريرية داعمة للتفرقة والكراهية والعنصرية، تأتي في قالب هويّاتي أو ثقافي قد لا يوحي من تلقائه بنزعة ذميمة أو بتوظيف ذرائعي.
ظلّ من عادة الخطابات العنصرية أن تتذرّع بالهُويّة وبثقافة أمّتها ومجتمعها، ويُستعمَل هذا المنحى لتمرير مضامين ذات صِلَة بالتعبئة والتشويه والتحريض والاستعلاء، بصفة قد لا تكون ملحوظة أحياناً. يتعيّن الانتباه، بالتالي، إلى ما تجود به خطابات مستجدّة، ذات طابع ثقافي مُضلِّل، من دعم “تأصيلي” لنزعات عنصرية ومن مساندة تبريرية لتوجُّهات تفرقة وتحريض وتشويه.
إنّ الزعم، مثلاً، بأنّ فئة معيّنة من البشر تُمثِّل خطراً ماحقاً على هُويّة الأمّة وثقافتها؛ يبقى بحاجة إلى حُجج “فكرية” تنسجها مرافعات ينهض بها من يُعَدّون أولو خبرة ودراية يُعبِّرون عن ذلك بصِيَغ صريحة أحياناً أو بِحِيَل مُستترة أحياناً أخرى. ومن شأن هذه المرافعات التي تنتحل معاطف الخبرة وترتدي نظّارات التدقيق، أن تُحقِّق للذرائع العنصرية المتجدِّدة حضوراً أفضل في الأوساط الثقافية والإعلامية والسياسية؛ خاصّة إنْ تجنّبت التعبير عن ذاتها بصفة صارخة.
وجدت بعض هذه الخطابات في مفردة “الهُويّة” ضالّتها، فهي تتيح لها تصنيف المُكوِّنات المجتمعية على أساس “نحن” و”هُم”، والظهور في خندق الدِّفاع عن الذات الجمعية في مواجهة تهديدات ثقافية مُفترَضة تُلصَق بذلك “الآخر” الذي يُواجِه حُمّى القولبة والذمّ والتشهير والتحامُل.
تتطلّب هذه الحبكة تقديم الهُويّة الجمعية الذاتية في صورة مُنغلقة ومتحجِّرة؛ بمعزل عن طبيعتها التفاعلية وسماتها التكيّفية، فالهُوِّيّات لا تبقى في الواقع على جمود معيّن عبر الزمن وإنْ انطوَت على وجوه من الاستمرارية والثبات النسبيّ. تأسِر هذه الخطاباتُ الهُويّةَ ضمن قالبها التصوّري الرغائبي المُحدّد، غالباً، وقد يُتّخذ هذا القالب أساساً لاستراتيجيات هُويّة صارمة تتبنّاها الأنظمة، فتحاول فرضها عبر الدعاية الثقافية المُعتمدة وأنظمة التعليم المدرسية المُقرّرة، كي تتشرّب الأمّة تصوّرات وقناعات معيّنة بشأن الذات الجمعية أو ما ينبغي أن تكون عليه. لا تنفكّ المغالاة في هذا المنحى عن استدعاء “الآخر”، أو اختراعه، تصريحاً أو تلميحاً، لأنّ الوعي المُتضخِّم بالمُغايرة أو بوجود مصدر قلق أو تهديد محتمل؛ يُراد منه في هذا المقام أن يعزِّز الإحساس بالذات الجمعية وأن يعين على رسم حدود تصوّرية معيّنة لها، إذ لا غنى لقالب “نحن” عن قالب “هُم” يُقابِله.
كانت الخطابات العنصرية والداعمة للعنصرية، بشكل مباشر أو غير مباشر، تُركِّز في عهود تسيّدت فيها المشهدَ الأوروبي، أو بعضَه تحديداً، على أوهام النقاء العرقي والاستعلاء السلالي والتفوُّق الحضاري، كما تجلّى في زمن الاستعمار وتفاقَم مِن بعدُ مع صعود الحركات الفاشية والنازية والقوميّة المتطرِّفة حتى أواسط القرن العشرين. أُزيحت هذه الخطابات إلى الهامش بعد عِظات الحربيْن العالميتيْن، فسلكت بواعثُ الاستعلاء وأوهامُ التفوّق مسالكَ أخرى من بعدُ على نحو تكيّف مع صعود الخطابات القيمية والأخلاقية من حولها ويحذر من مزالق الوصم بالتطرّف والغلوّ.
من مسالك هذه الخطابات المستجدّة إسباغ سِمات قيمية وأخلاقية معيّنة على الهُويّة الذاتية ونزعها عن آخرين بصفة صريحة أو رمزية. تتيح هذه التوطئة لبعض الخطابات العنصرية أو الداعمة للعنصرية فرصة مثالية للاحتماء بالقيَم أو التذرّع بها لتسويغ مرافعاتها وتبرير مواقفها. فبدلاً من مهاجمة المسلمين بصفة صريحة في البيئات الأوروبية، مثلاً، يلجأ بعضهم إلى شنّ الحملات على تستُّر النساء والفتيات المسلمات انتقائياً ومطاردة “غطاء الشعر” الذي يُقرَن في هذا المقام بأوصاف كريهة وتأويلات ذميمة تستند إلى قوالب نمطية وأحكام مسبقة وصور ساذجة. تحصّن هؤلاء المُتحاملون بقيَم الحُرِّيّة ونبذ الاضطهاد وحقوق المرأة التي تُقدّم عادة عبر أوروبا ضمن سِمات الأمّة وثقافتها وهويتها وتُنزَع في المقابل عن أولئك الذين يُوصَمون بانتهاك هذه القيَم؛ كما يتجلّى في التأويل التشويهي للباس المسلمات المُتستِّر. استهدف هذا القصف في الواقع المجتمعات المسلمة المحلية عموماً وأوحى أحياناً بازدراء دينها ومقدّساتها وخصوصيّاتها الثقافية بأشكال متفاوتة. عبّرت المعارك التي دارت رحاها حول رؤوس المسلمات الأوروبيّات عن أنماط مستجدّة من التصنيف المجتمعي بين فسطاطيْ “نحن” و”هم”، وانتصبت شاهداً على الدفع المحموم بالخطاب الهُويّاتي والقيمي في خدمة الشحن والتعبئة والكراهية والتحريض. واستمرأ بعضهم اتخاذ حرية التعبير والحقّ في النقاش وإبداء الآراء النقدية، ذرائع استعمالية لشنّ حملات كراهية وازدراء تطارد مكوِّنات معيّنة من خلال المساس بمشاعرها الدينية وإهانة خصوصيّاتها الثقافية؛ كما جرى مع المسلمين ودينهم تحديداً.
أتاحت هذه الحِيَل فرصاً مواتية للتخندُق والاستقطاب والقصف الرمزي الذي يستهدف مكوِّنات مجتمعية معيّنة، فانتحل بعضُهم أدوار حرّاس هُويّة الأمّة وثقافتها وفرسان القيم والمبادئ في وجه أغيار يُوضَعون في بؤرة الجدل التصعيدي؛ مع الحرص على صياغة التعبيرات ونسج الحجج وانتقاء المفردات كي تبدو هذه الخطابات المُتحامِلة عقلانيةً ومبدئيةً وأخلاقيةً وكي تتملّص من وصمة العنصرية والكراهية والتحريض.
صحيح أنّ بعض هذه الخطابات المُتحامِلة لا تُعَدّ عنصريةً على نحو مُؤكّد؛ لكنّها كفيلة، على أدنى تقدير، بتغذية نزعات عنصرية معيّنة وشحن الجمهور بحمّى الكراهية واستثارة بواعث التفرقة المُوجّهة ضدّ المكوِّنات الموضوعة في بؤرتها. يتّضح في المحصِّلة أنّ هذه الخطابات تولّت تمهيد السُّبُل للعنصرية الصريحة من جانب؛ ومكّنت العنصرية المتذاكية أو المُستترة من تثيبت مواقعها في الوسط المجتمعي وفي الأنظمة والمؤسّسات من جانب آخر، إلى درجة يجوز معها الحديث عن نضوج عنصرية مؤسسية نسبية أو أنظمة تفرقة تنضح بالانتقائية والتحيُّز في بعض البيئات الأوروبية.
لجأت نزعات العنصرية وحملات التشويه والتحريض والكراهية إلى الظهور ضمن عباءة قيمية وأخلاقية فمثّلت هذه الحيلة وصفة احتماء فعّالة من افتضاح النهج وانكشاف الدوافع. ذلك أنّ التحصُّن بالقيَم المرجعية وهُويّة الأمّة وثقافتها؛ يُعين على اكتساب حماية ثقافية وإعلامية وسياسية ومجتمعية لهذا المسلك وربّما إضفاء مسوح القداسة الأخلاقية وامتياز الالتزام المبدئي على هذه المُراوَغة. لا عجب أن تتمدّد خطابات عنصرية مُستترة عبر أوساط ثقافية وفنِّيّة وأدبية وأكاديمية، وأن تصدر أعمالٌ متلاحقة في هذه الحقول يُحرِز بعضُها رواجاً هائلاً.
ثمّ إنّ ما ينبثق عن الوسط المجتمعي بصفة مُستترة أو مُتذاكية قد يُسفر عن ذاته بأشكال صريحة أو صارخة في الأوساط المتطرِّفة والهوامش المعروفة بنزعاتها المُغالية. على أنّ ما تنضح به هذه الأطراف والهوامش قد يمتدّ بصفة عكسية إلى الوسط “المعتدل” بصيغ قد لا تكون ملحوظة، خاصّة إن توفّرت له قاعدة مجتمعية متعاظمة في الديمقراطيّات. من أمثلة ذلك ما تحظى به نظريّات مؤامرة معيّنة، مثل “الاستبدال الكبير”، من رواج وقبول، مُعلَن أو غير مُعلَن، لدى أوساط كانت في الأساس من أقصى اليمين، ثمّ صار أنصار هذه النظريّات يظهرون في الوسط السياسي والثقافي والإعلامي عبر التبنِّي الضمني لمقولاتها والبناء التراكمي على استنتاجاتها، كما يُلاحظ في خطابات ساسة الصفوف الأولى في إيطاليا وفرنسا مثلاً (من قبيل جورجيا ميلوني وماتيو سالفيني وإريك زمور). يتبنّى هؤلاء، مثلاً، مقولة “الاسترداد” المُتوافقة مع نظرية المؤامرة تلك، لتُعبِّر عن نهج التصرّف الذي ينبغي الإقدام عليه بلا هوادة لكبح “خسارة الهوية الوطنية وثقافة الأمّة” بمقتضى “الاستبدال الكبير” المُفترض تحت تأثير التنوّع الثقافي والتغيّر الديمغرافي.
يكشف هذا المنحى عن كيفيّة تمظهُر خطابات عنصرية متذاكية تنتقي مُفرَدات أو تعبيرات مشحونة بحمولة عنصرية كامنة رغم أنّ ظاهرها لا يوحي بذلك غالباً. فأنْ يُعلِن أحد القادة السياسيين الأوروبيين أنّه يسعى إلى “استرداد” بلاده؛ إنّما يستحضر مع هذه المفردة غير المعزولة عن منابتها المؤدلجة وسياقاتها التأويلية دلالاتٍ عنصرية أو داعمة للعنصرية؛ مع الاحتفاظ في الوقت عيْنه بمسافة أمان عن وصمة الخطاب العنصري الصريح أو المُباشِر. لا تقف الحيلة عند هذا الحدّ؛ فقد تندفع قوى من الوسط السياسي، مثل بعض تشكيلات اليمين المحافظ وقادته، إلى التعبير عن فكرة “الاسترداد” ذاتها بحزمة اصطلاحية رديفة تتقاطع في الدلالة مع الفكرة عيْنها وإن تحاشت استعمال المفردة ذاتها. هكذا يتورّط بعض “الاعتدال” السياسي أو الإعلامي أو الثقافي في استغلال الانجراف العنصري أو يدفع به قُدُماً لأهداف شعبوية انتهازية و/أو بمقتضى منطلقات أيديولوجية كامنة. يأتي ذلك، مثلاً، من خلال استعمال مقولات “حماية الهوية” و”الحفاظ على التقاليد” كهراوات معنوية في مواجهة مكوِّنات مجتمعية من خلفية هجرة، دون أن تقوى هذه الأطراف على استدعاء مقولات التقاليد وشبيهاتها في مواجهة أجيال جديدة محسوبة على مجتمع الأغلبية رغم ما تحمله من تصوّرات مُغايرة للحياة والثقافة والسلوك والاجتماع عن أسلافها.
قد يُعبِّر المتذرِّعون بالأمّة أو المجتمع أو الهُويّة أو الثقافة عن تموضُع طبقي أو تحيُّز مناطقي أو استعلاء إثني على نحو يستأثر بالانتماءات الجامعة ويُقصي منها مُكوِّنات سُكانية معيّنة. قد يُلام ضحايا هذه الخطابات بتحميلهم المسؤولية عن نشوء “مجتمعات موازية” أو “أوساط انفصالية” أو “غيتوات ثقافية”. تتجاهل خطابات الإملاء الثقافي مسؤوليات الفضاء المجتمعي الواسع في استيعاب المتغيِّرات والتفاعل مع المستجدات واحتمال التنوّع في أطيافه، ويُعفَى من حصّته في نشوء ظواهر سلبية وتفاقمها.
ينبغي الحذر من الاستعمال الانتهازي لمقولات الهُويّة ومتلازماتها والتنبّه إلى جاهزيّتها للتوظيف في شقّ صفوف الجمهور وافتعال أزمات مُفترَضة أو مُتصوّرة أو تضخيمها فوق منسوبها في الواقع؛ مع تزييف طبيعة هذه الأزمات من خلال نسج توصيفات وتفسيرات مُتحيّزة لها. فالمعضلات والأزمات الناجمة أساساً عن اختلالات اقتصادية واجتماعية أو المنبثقة عن فجوات طبقية غير عادلة أو المتفاقمة بسبب غياب تكافؤ الفرص في العمل والتشغيل والإسكان؛ تضعها خطابات التذرّع بالهوية في قالب تأويلي ثقافي أو ديني أو إثني حصري يُعمي الأنظار عن ملابساتها الحقيقية ويخدم في المقابل منحى الشحن والتعبئة والكراهية على أساس هُويّاتي أو إثني أو طائفي مُفترض. يعني ذلك، بالتالي، أنّ هذه الخطابات تُغذِّي لدى جمهورها المُضلّل وَعياً زائفاً بشأن الواقع ومعضلاته، ولا تُعين من هذا الوجه أيضاً على الاكتراث بالتحدِّيات القائمة أو معالجتها بالأحرى.