تشريح العنصرية الانتقائية وحمّى التفرقة
حسام شاكر
لا تهبط الانتهاكات العنصرية وتجاوزات التفرقة من كوكب آخر، فهي نتاج تفاعلات في الواقع لها مقدِّماتها وبواكيرها وأطوارها، التي تتحرّك ابتداءً في الأذهان وتجري على الألسن قبل أن تتمكّن من فرض منطقها واستثارة استجابات عملية. فكيف تعمل العنصرية الانتقائية، أي التي تستهدف مكوِّنات أو فئات معيّنة دون غيرها، وكيف يتشكّل واقع تفرقة يستفرد بهذه المكوِّنات أو الفئات؟
يبدأ الأمر من إسقاط تصوّر ذميم على مكوِّن مجتمعي مُعيّن أو فئة إنسانية محدّدة، وغالباً ما يترافق هذا التصوّر مع تمجيد صريح أو ضمني للذّات بمنطق “نحن” (الأخيار) و”هُم” (الأشرار)؛ وإن لم يُصرّح بذلك بوضوح أحياناً. قد يتنزّل التصوُّر على المكوِّن المستهدف عموماً أو على بعض خصوصيّاته أو شيء مما يُحسَب عليه تحديداً، بصفة استثنائية دون غيرها من المكوِّنات.
تبدأ المعضلة في هذا الطوْر تحديداً، أي عندما يُنظَر إلى ذلك المكوِّن المجتمعي أو تلك الفئة الإنسانية بصفة استثنائية عن المجتمع عموماً أو الإنسانية ككلّ، أو أن تُنتقَى شواهد مُعيّنة بصفة استثنائية أيضاً على هذا النحو. ورغم أنّ هذا الطوْر ابتدائي كما يبدو؛ إلاّ أنّه يتغذّى من خلفيات ثقافية معيّنة؛ منها موقف تمجيد الذّات ونظرة التعالي التقليدية على مُكوِّنات مجتمعية وفئات إنسانية أخرى، وكذلك يكون للقوالب النمطية والأحكام المُسبقة العابرة للأجيال أثرها. فللقوالب النمطية المستقرّة في الوعي الجمعي للمجتمعات مفعولها المؤكّد في هذا الشأن، فعنها تنبثق تفسيرات مُضلِّلة، تأخذ شكل أحكام مُسبقة، فيُختَصر المسار التراكمي اللازم لتطوّر حالة عنصرية انتقائية أو تمييز انتقائي، خاصّة مع وجود أجواء مُحفِّزة على ذلك؛ من قبيل الشحن السِّياسي والتعبئة الإعلامية والهواجس الثقافية والتهديدات الأمنية والأزمات الاقتصادية. من شأن هذا أن يساهم في تفسير سرعة انقلاب مجتمع معيّن من حالة انفتاح ظاهرة وترحيب مبدئي بالتنوّع؛ إلى موقف انغلاق وتشنُّج وترصُّد ضد مكوِّن مُعيّن.
إنّ النظرة الذميمة التي ترى مُكوِّناً أو فئة كاستثناء دون عموم المكوِّنات أو الفئات؛ تُسفِر عن ذاتها في الطابع الانتقائي لهذه النظرة وفي منطقها التمييزي الذي يشغِّل معاييره وأحكامه على ذلك المكوِّن أو تلك الفئة دون الأنساق المجتمعية والإنسانية الجامعة.
يفرض المنطق الانتقائي النظر إلى مجموعةً بشرية مُعيّنة كما لو أنها استثناء عن المجتمع عموماً أو الإنسانية ككلّ؛ ومن شواهد ذلك أن لا يُعَدّ دينها كغيره من الأديان، أو دور عبادتها كغيرها من دور العبادة، وأن تُستثنى خصوصيّاتها الظاهرة في اللِّباس من حقّ البشر في اختيار ملابسهم المتنوِّعة، وأن يُتعامَل مع جرائم يقترفها أفراد منها بمنطق مُتحامِل يربطها بأبعاد ثقافية مُتجاوزة لشخص الجاني ما يُسقط حمولة اتهامية رمزية على المجموعة البشرية عموماً، بصفة مقصودة أو غير مقصودة، بينما تُعزَل ممارسات شبيهة في نطاق الفاعل الفرد إن كان “مجتمع الأغلبية” مثلاً.
إنّ التهاون مع هذا الطور الأوّل الذي يقوم على أساس انتقائي واستثنائي سيكون له ما بعده في تفاقم الحالة إن لم يُواجِه مقاومة جادّة في بيئته، فهو يستفرد بمُكوِّن مُحدّد أو فئة معيّنة دوناً عن الآخرين؛ عبر انتزاع حالات أو مظاهر أو موضوعات من سياقاتها، دون أن يُمارس هذا المسلك الانتقائي مع مكوِّنات أخرى، وهذا من تجلِّيات الاستثناء.
قد يتجلّى التصوّر الذميم الذي يُسقَط على المكوِّن أو الفئة في افتعال تأويلي مُتحيِّز أو تدخُّل تفسيري مُتحامِل إزاء واقع وسلوكيّات وظواهر معيّنة تُحسَب على ذلك المكوِّن أو تلك الفئة. قد يتعلّق الأمر بمظاهر ثقافية أو سمات إثنية أو مسلكيّات مُعيّنة أو أحداث وتطوّرات من أيِّ نوع، فتُساق تفسيرات مُتحاملة أو مُشوّهة لها وتُعزََل عن سياقها المجتمعي أو الإنساني العامّ كي تُحسَب بشكل كريه على المُكوِّن أو الفئة بصفة تلقائية أو محبوكة.
صحيح أنّ تفسيرات الظواهر والموضوعات والأحداث تتعدّد في العادة وتنفتح على تأويلات شتّى قد تكون صحيحة أو خاطئة أو يختلط فيها الخطأ مع الصواب؛ لكنّ منطق العنصرية الانتقائية وحمّى التفرقة يقوم في هذا الصدد على التعامل مع المُكوِّن أو الفئة بصفة انتقائية واستثنائية من خلال تركيز التأويلات المُتحاملة وتسليط التفسيرات الذميمة على ذلك المكوِّن أو تلك الفئة دون أن تشمل عموم المكوِّنات أو الفئات الأخرى خاصّة إن كانت من “مجتمع الأغلبية”.
تكتسب الجريمة اهتماماً خاصّاً في هذا المسعى؛ وتُسقَط عليها تأويلات وتفسيرات معيّنة إن أقدم عليها محسوبون على مكوِّن مجتمعي معيّن، بخلاف ما يجري مع جرائم شبيهة أو أكثر فظاعة تقع من منتسبين إلى مُكوِّنات أخرى أو إلى “مجتمع الأغلبية” بالأحرى. من المألوف حسب هذا المنطق الانتقائي أن يُنظَر إلى هذا الحدث بصفة استثنائية قياساً بأحداث شبيهة؛ تبعاً لهُوية الجاني أساساً. يعمل التفسير الاستثنائي بطرق مُتعدِّدة، منها نسج تأويلات ثقافية أو دينية أو إثنية لوقائع معيّنة دون غيرها، أو أن يُنسَب مرتكبُ الجريمة إلى هُويّته الإثنية، أمّا إن كان من “مجتمع الأغلبية” فقد تُعزَل الجريمة عن أيّ سياقات ثقافية أو مجتمعية ويُحال الأمر إلى سلوك فرديّ أو انحراف تُؤَوّل بواعثه من خلال الفاعل حصراً.
من شواهد هذا المنحى تلك النظرة الانتقائية إلى بُرج مُحدّد من أبراج دور العبادة المتنوِّعة على أنه استثناء، كما جرى تحديداً مع مآذن المساجد في بعض البلدان الأوروبية التي شهدت حملات مُضادّة لتشييدها، أو أن لا يتمّ اعتبار المسجد داراً للعبادة مثل غيره من الدور الخاصّة بالطوائف الدينية الأخرى. استدعت هذه النظرة الانتقائية تأويلاتٍ مُتحاملة وتفسيراتٍ مُشوّهة، منحت المئذنة رمزية سيادية أو دلالة عسكرية، بصفة صريحة أو إيحائية، وجاءت هذه التأويلات والتفسيرات في خدمة مسعى التقييد والحظر، الذي هو سلوك تفرقة يحاول الاستفراد بالمكوِّن المجتمعي المُسلِم دون سواه.
جرى في حالات أخرى انتقاء قطع ملابس معيّنة دون غيرها وتقديم تأويلات ذميمة لها. جرى التعامل مع القماش الخاصّ بستر شعور المُسلمات على أنّها استثناء من قطع القماش الأخرى أو الملابس بشكل عام، فلم تَعُد هذه قطعَ قماشٍ كما تبدو عليه، وكانت هذه توطئة مثالية لمباشرة التضييق والحظر على المستوى التشريعي أو اقتراف أعمال عدوانية في الميدان.
تأسيساً على الطوْر الأوّل، الذي يتمثّل في النظرة الانتقائية والتأويل الاستثنائي؛ تنطلق حمّى التشويه والتحريض لتشكِّل الطوْر الثاني في هذه التفاعلات التراكمية. وقد تبلغ المزايدات التحريضية حدّ الشيْطنة ونزع الصِّفة الإنسانية عن ذلك المكوِّن المجتمعي أو تلك الفئة الإنسانية. من شأن هذا أن يُهيِّئ الأذهان ويمهِّد السُّبُل لتسويغ استبعاد المُكوِّن أو الفئة من امتيازات وحقوق وحرُِّيات يُفترَض أن تكون مكفولة للجميع. فمن استهدفتهم السِّهام المُسدّدة نحوهم بصفة انتقائية واستُثْنوا من النسَق الجامع ستسري عليهم إجراءات أو مقاييس خاصّة، وإن وقع تغليفها وتسويقها بصفة تتملّص من شبهة التحيُّز والتحامُل والتفرقة.
يتفاعل الطوْر الثاني من خلال تحذيرات ومُزايدات ومواسم جدل تتقدّم بموضوعها في سُلّم الاهتمامات العامّة، دون أن يزهد غُلاة العنصرية الانتقائية ودعاة التفرقة بفنون التهويل والتأجيج وإثارة المشاعر. إنّ وَضْع مُكوِّن مجتمعي معيّن أو فئة إنسانية مُحدّدة في بؤرة المُلاحظة الاستثنائية المُتحاملة من شأنه أن يضخِّم الوعي بمظاهر وتطوّرات تُحسَب على ذلك المكوِّن أو تلك الفئة، فيصير البشر المحسوبون عليها في مرمى التعقُّب والتشويه والتحريض أكثر فأكثر، ما يُحفِّز استجاباتٍ عملية تتمثّل في الطوْر الثالث من هذه التفاعلات التراكمية.
يأتي الطوْر الثالث تحصيلاً لما سبق، فبعد النظرة الانتقائية والتأويل الاستثنائي للمُكوِّن أو الفئة؛ أي الطوْر الأوّل الذي فتح الباب لمزايدات التشويه والتحريض في الطوْر الثاني؛ تكون بيئة العنصرية الانتقائية وثقافة التفرقة قد تهيّأت لاستجابات عملية وإجرائية تتمثّل في الانتهاكات والتضييقات والتطبيقات التمييزية وأعمال الاعتداء على اختلافها.
ينبغي الإقرار بأنّ البيئات التي سمحت بمُقدِّمات العنصرية الانتقائية وتهاونت مع منابت التفرقة؛ مُرشّحة للتدهور إلى مزيد من التطوّرات والتداعيات التي تأخذ شكل إجراءات وتطبيقات ومُمارسات من أنواع شتى. قد تتمظهر الحالة في مجال وضع القوانين، عبر سنّ تشريعات مُوجّهة بشكل صريح أو ضمنيّ ضد المكوِّن المجتمعي المُعيّن أو الفئة الإنسانية المُحدّدة، وإنْ وقع تغليفها بعناوين عامّة تتنصّل من شبهة التفرقة، كما حصل عندما قرّر المشرِّعون الفرنسيون حرمان التلميذات المُسلمات حصراً من اختياراتهنّ الحُرّة من اللِّباس وجرى تغليف ذلك بقانون “حظر العلامات الدينية البارزة” (قانون 228-2014 الصادر يوم 15 مارس/ آذار 2004). جدير بالملاحظة أنّ المستوى التطبيقي في حالة سَتْر الشعر لم ينحصر ضمن نطاق التشريع وصناعة القرار؛ بل مضى في مسارات أخرى مُتعدِّدة مُتضافرة معه؛ منها اقتراف اعتداءات مادِّية ولفظية بحقّ نساء وفتيات مُسلمات يسترن شعورهنّ، ومن تعبيراته الجلية ذبح الأكاديمية مروة الشربيني بثماني عشرة طعنة حتى الموت يوم 1 يوليو/ تموز 2009 داخل قاعة محكمة في مدينة درسدن الألمانية، وإقدام مقترف مذبحة كرايتشيرش في نيوزيلندا على سحق رأس امرأة تستر شعرها تحت عجلات سيّارته بعد أن أفرغ أمشاط الرصاص في المصلٍّين داخل “مسجد النور” يوم 15 مارس/ آذار 2019.
قد يشهد الطوْر التطبيقي انتهاكات عملية جسيمة من قبيل اقتراف اعتداءات مادِّية أو لفظية في نطاقات فردية أو جماعية تستهدف ذلك المكوِّن المجتمعي أو تلك الفئة الإنسانية، وقد تصل إلى حدّ ارتكاب مذابح وأعمال إبادة وجرائم تطهير عرقي. ما كان لهذه الانتهاكات جميعاً أن تقع أو أن تَبلُغ هذا المستوى العمليّ (الطوْر الثالث) لولا ما سبقها من تهيئة الأذهان والوجدان وتلفيق مُسوِّغات ذرائعية عبر أحابيل التشويه والتحريض والشيْطنة (الطوْر الثاني) استناداً إلى تراكمات الاستثنناء من النسََق (الطوْر الأوّل).
جدير بالنظر أنّ الأطوار الثلاثة: الاستثناء، فالتشويه، فالاستجابة العملية؛ تقوم على علاقة تراكمية سواء في تطوّر الحالة من طوْر إلى ما يليه، أو في نشوء ظاهرة تفرقة جديدة أو قضية عنصرية انتقائية تمسّ “استثناءً” جديداً، فتشويه غطاء الرأس والتحريض ضدّه أو حظره أو تزايد الاعتداءات على من يرتدينه؛ قابل لأن ينعكس بكل حمولته الرمزية المُشوّهة وكيفيّات التعامل السلبي معه، بشكل مباشر ومُيسّر، على أيِّ قطعة قماش ذات صلة من قبيل غطاء الوجه بالأحرى أو حتى ملابس السباحة المُحتشمة كما جرى في قضية حظر أخرى شهدتها فرنسا في صيف سنة 2016 تحت عنوان “البوركيني”. وقد يمتد تقييد تشييد المآذن ليشمل قيوداً على تشييد المساجد بالكامل. فأجواء التشويه والتحريض تباشر تهيئة أذهان الجمهور لاتِّخاذ مواقف سلبية ومُتحاملة من المكوِّن المجتمعي المُستهدف أو تتحسّس من خصوصيّاته ومعالم حضوره المجتمعي.
بالوسع اختبار هذا التفاعل التراكمي من خلال شواهد متعدِّدة، كما عليه الحال لدى مؤجِّجي الدعاية العنصرية والحمّى الشعبوية ضدّ مُكوِّنات وفئات مُعيّنة، فهؤلاء ينطلقون من نظرة انتقائية تستحضر تفسيرات استثنائية لهذه المكوِّنات والفئات، ويتيح هذا الموقف المُتحامِل أرضيّةً مثالية لممارسة التشويه والتحريض والشيْطنة ضدّها، ثمّ يسعى فرسان التأجيج ومشعلو الحرائق المجتمعية إلى تغيير سياسات وسنّ تشريعات وفرض إجراءات ذات طابع تفرقة، ومن شأن ذلك أن يحرِّض أفراداً من الجمهور على ارتكاب اعتداءات وتجاوزات بحقّ تلك المكوِّنات أو الفئات أو اقتراف مُمارسات تحطّ من كرامتها الإنسانية.
عندما تشهد بيئة معيّنة انزلاقاً نحو العنصرية الانتقائية والتفرقة المُسدّدة نحو مُكوِّن مُعيّن أو فئة مُحدّدة، فإنها قد تغفل عن أنّ الخاسرين من ذلك لا ينحصرون في ذلك المكوِّن أو تلك الفئة وحسب. فما يجري ضمن هذه التفاعلات يُمثّل انتهاكاً لقيم ومبادئ والتزامات مشتركة، مثل المساواة وتكافؤ الفرص والحرية الدينية وحقوق الإنسان وكرامة البشر، وهذا يعني أنّ المجتمع الذي يرضخ لهذا الانزلاق يتضرّر من هذا التدهوُر من حيث لم يحتسب ويخسر أقساطاً من رصيده القيمي والمبدئي والأخلاقي بالأحرى، ولا يُظهِر يقظة كافية في مواجهة انجراف قد يستولي عليه ويستبدّ به ويجمح به؛ كما يحدث في المواسم الانتخابية أحياناً أو كما جرى في التجارب الفاشية مثلاً.
إنّ تشريح العنصرية الانتقائية والتفرقة المسدّدة والوعي بمقدِّمات هذا الانزلاق وبواكيره وتفاعلاته التراكمية، كما يكشفه هذا النموذج التفسيري الذي نقترحه بأطواره الثلاثة؛ له جدواه التي تتعدّى فهم الحالة إلى خيارات التعامل الأمثل معها. فالتماس المُعالَجة في الطوْر العملي هو بمثابة تدخُّل متأخِّر للغاية وغالباً ما ينشغل بالأعراض والمظاهر بدل البواعث والمُسبِّبات، فالانحراف يبدأ مع نظرة انتقائية مترصِّدة وتفسير استثنائي مُتحامل. ذلك أنّ الإقدام على انتقاء فئة من “الآخرين” وتفسير خصوصيّاتها وتأويل ممارسات محسوبة عليها على أنها استثناء دون النسق المجتمعي أو الإنساني الجامع؛ كفيل بحدِّ ذاته بأن يفتح أبواب التشويه والتحريض ثمّ الانتهاك والإقصاء على مصراعيها.
تؤسِّس النظرة الانتقائية والتفسير الاستثنائي المترتِّب عليها بيئة خصبة لحمّى التشويه ما لم تُواجَه بمقاومة جادّة أو إعاقة فعّالة. ويمكن للأجواء السائدة بين الجمهور بهذا الشأن، أن تتطوّر، ضمن شروط بعينها، إلى درجة إثارة الكراهية ونشر الأحقاد. وفي حالات كهذه يُعاد اكتشاف قوالب نمطية متقادمة واستدعاء صُوَر ساذجة كريهة استقرّت في الذاكرة الجمعية، فيتحقّق لها الإحياء والإنعاش من جديد في أشكال مُتجدِّدة مع تحويرات تُلائِم المرحلة المُستجدّة. ثمّ يتطوّر الأمر، وبشكل تلقائي أحياناً، إلى مستوى الفعل والإجراءات بكل ما يخالجه من تعسّف.
خلاصة العظة أنّ مواجهة العنصرية الانتقائية وحمّى التفرقة المسدّدة تقتضي يقظة مستمرّة، تلحظ الحالة في مُقدِّماتها وتتصدّى لها في بواكيرها، أي عندما يُنظَر إلى مكوِّنات أو فئات، أو إلى خصوصيّات ومظاهر محسوبة عليها، بصفة انتقائية مُشبّعة بتأويلات استثنائية مُتحاملة تفتح أبواب التشويه والتحريض والشيْطنة؛ التي تحُرِّض بالتالي على استجابات عملية تأتي صريحة في التعبير عن نزعة عنصرية وروح تفرقة أو مُتذاكية في تغليف ذلك وتوْريَتِه.
من القسط الاعتراف بأنّ انزلاقات العنصرية الانتقائية وحمّى التفرقة قابلة للحدوث حتى في فضاء الديمقراطية ودولة القانون، وقد تصير محطّات الاقتراع الحرّة مواسم مثالية للشحن والتحريض والشيْطنة ضدّ مكوِّنات وفئات مُستهدفة، وقد تُستعمَل أدوات دولة القانون في مواجهة تلك المكوِّنات والفئات على نحو يُوقِع انتهاكات لحقوق الإنسان ويُضيِّق على حُرِّيّات أساسية ويتجاهل قِيَماً تعلن الدولة والسلطات والأنظمة التزامَها بها.