ما بين فلسطين وجنوب أفريقيا.. تاريخ طويل من النضال في مواجهة الفصل العنصري

ما بين فلسطين وجنوب أفريقيا.. تاريخ طويل من النضال في مواجهة الفصل العنصري

“نحن نعلم جيدا أن حريتنا غير مكتملة بدون حرية الفلسطينيين”.

نيلسون مانديلا

في موقف تاريخي غير مسبوق قد يؤدي إلى تغيير مسار الحرب الإسرائيلية على غزة التي تدور رحاها منذ أكثر من مئة يوم، قدمت جنوب أفريقيا دعواها ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية، متهمة إياها بانتهاك التزاماتها بموجب اتفاقية الأمم المتحدة للإبادة الجماعية. وهي الحرب التي أسفرت عن استشهاد أكثر من 24 ألف فلسطيني حتى الآن معظمهم من النساء والأطفال، وسقوط أكثر من 60 ألف جريح، بالإضافة إلى نزوح ما يقرب من مليون ونصف شخص من منازلهم، وتدمير آلاف المباني والمنشآت العامة والخاصة.

تكتسب هذه القضية قدرا كبيرا من أهميتها لكونها المرة الأولى في التاريخ التي تُقاضَى فيها إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية، وطبقا لخبراء القانون الدولي، فإذا خلصت محكمة العدل الدولية في حكمها إلى مسؤولية إسرائيل المباشرة عن الإبادة الجماعية فستكون هذه هي المرة الأولى التي تُدان فيها دولة بارتكاب الإبادة الجماعية بشكل مباشر، فبينما واجهت روسيا وميانمار إجراءات مؤقتة في قضايا إبادة جماعية، وحكمت المحكمة من قبل بأن صربيا فشلت في منع الإبادة الجماعية على يد الميليشيات في سريبرينيتسا، لم تثبت المحكمة من قبل مسؤولية أي دولة عن الإبادة الجماعية بشكل مباشر (1).

ومع بدء المحاكمة فُرضت المقارنة بين طبيعة نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا والاحتلال الإسرائيلي على الساحة، وكذلك بين نضال الشعبين في جنوب أفريقيا وفلسطين، في محاولة لفهم موقف جنوب أفريقيا ودعمها للقضية الفلسطينية، واستلهام نضالها في الصراع الحالي ضد الاحتلال الإسرائيلي.

العنف الإسرائيلي في إطار الاستعمار الغربي
“لم يفز الغرب على العالم بتفوق أفكاره أو قيمه أو دينه، بل بتفوقه في تطبيق العنف المنظم. غالبا ما ينسى الغربيون هذه الحقيقة، لكن غير الغربيين لا ينسون هذا أبدا”.

صموئيل هنتنغتون

تأسست إسرائيل في المنطقة نموذجا للاستعمار الغربي الإمبريالي الذي أسس لمبدأ استخدام العنف بوصفه ضرورة للدفاع عن المستعمر الأبيض (ممثل الحضارة) ضد السكان الأصليين بوصفهم ممثلين للهمجية أو أقل تحضرا، وهو المبدأ الذي تستحضره طبيعة العنف الإسرائيلي، وخطاب العقاب الجماعي. وفي ضوء ذلك يمكن النظر إلى ظهور الأنظمة العنصرية في كلٍّ من جنوب أفريقيا ودولة الاحتلال الإسرائيلي بوصفها جزءا ممتدا ضد الاستعمار، حيث كان الهولنديون أول مَن استعمر الأراضي التي شكَّلت فيما بعد جنوب أفريقيا في القرن السابع عشر، وبدأوا في عملية نزع ملكية الأراضي من السكان الأصليين، ثم انضم إليهم البريطانيون فيما بعد، في وضع مشابه للاستعمار الصهيوني الاستيطاني في فلسطين، الذي جاء تحت مظلة الانتداب البريطاني.

وفي كلا السياقين تم تأطير الاستعمار بالمساعي الحضارية الزائفة، فبينما نظر المستعمر إلى وجوده في جنوب أفريقيا باعتباره هدية الحضارة البريطانية إلى السكان الأصليين الأقل تحضرا، فقد نظر في المقابل إلى فلسطين باعتبارها فرصة لخلق مستقبل وواقع جديد لليهود، وفرصة لجلب الحضارة الحديثة واستغلال الأراضي التي لا يجيد سكانها الأصليون استغلال مواردها، ومن هذا المنظور حاول الاحتلال الإسرائيلي أن يُضفي الشرعية على عملية التطهير العِرقي الواسعة التي قام بها (الجنس اليهودي المتفوق) ضد أكثر من 700 ألف فلسطيني من السكان الأصليين.

كل ذلك في إطار يستحضر النموذج الاستعماري التاريخي الغربي الذي كان ناجحا (عمليا) في القرنين الماضيين، لكنه يبدو الآن مفارقة تاريخية في غير زمانها، وذلك بحسب طرح المؤرخ توني جودت في مقاله (2) المنشور عام 2003 في مجلة “نيويورك ريفيو أوف بوكس” بعنوان “إسرائيل: البديل” بقوله: “المشكلة مع إسرائيل ليست أنها جيب (enclave) أوروبي في العالم العربي، بل في كونها وصلت بعد فوات الأوان، لقد استوردت مشروعا انفصاليا مميزا من أواخر القرن التاسع عشر إلى عالم مضى إلى الأمام، عالم الحقوق الفردية، والحدود المفتوحة، والقانون الدولي. إن فكرة “الدولة اليهودية” -وهي الدولة التي يتمتع فيها اليهود والديانة اليهودية بامتيازات حصرية يُستبعد منها المواطنون غير اليهود إلى الأبد- متجذرة في زمان ومكان آخر. باختصار، إسرائيل اليوم هي مفارقة تاريخية (anachronism)”.

 

إسرائيل الوجه الجديد للفصل العنصري

بدأ نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا في عام 1948، وللمصادفة التاريخية هو العام نفسه الذي وقعت فيه النكبة الفلسطينية. (شترستوك)
طبقا لنظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية عام 2002، يُعرَّف الفصل العنصري بأنه نظام من القمع والهيمنة المنهجيين يرتكب في سياق مؤسسي من قِبل مجموعة عِرقية واحدة على أي مجموعة أو مجموعات عِرقية أخرى بنية الحفاظ على هذا النظام. وقد بدأ نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا في عام 1948، وللمصادفة التاريخية هو العام نفسه الذي وقعت فيه النكبة الفلسطينية، وأُعلن فيه عن تأسيس دول الاحتلال الإسرائيلي. روجت حكومة الحزب الوطني في جنوب أفريقيا لهذا النظام في البداية باعتباره أداة من أجل تمكين التنمية المتساوية وحرية التعبير الثقافي والسماح للمجموعات بإدارة شؤونها الخاصة، لكن الواقع كان مختلفا (3).

قام نظام الفصل العنصري أو ما عُرف بـ”الأبارتايد” على ثلاث ركائز أساسية: قانون تصنيف السكان، وقانون الإسكان المنفصل، وقانون الأرض. جرى تقسيم الأفراد إلى مجموعات عِرقية والفصل بينهم، وقصر إقامة الأغلبية من السود في محميات عِرقية “بانتوستانات” خاصة بهم، تراوحت مساحتها بين 7-13% من إجمالي مساحة البلاد، وذلك بالتوازي مع فرض إجراءات تقييدية على السود؛ لضمان تفوّق الأقلية البيضاء. من بين هذه الإجراءات تخصيص حافلات ومطاعم وشبابيك تذاكر وشواطئ خاصة بالبيض، وكذلك الفصل بينهم في المستشفيات والمرافق العامة وحتى الكنائس. وبطبيعة الحال اختص السود بالمرافق الأقل جودة، فعانوا من نقص جودة التعليم والمرافق الصحية، كما مُنعوا من الاقتراع وتملك الأراضي، ووُضِعت قيود على تحركاتهم ومُنعوا من ممارسة الأعمال التجارية والمهنية خارج البانتوستانات إلا إذا كان لديهم تصاريح استثنائية (4).

 

وكثيرا ما تُطرح المقارنات بين الفصل العنصري في جنوب أفريقيا وأوضاع الفلسطينيين والعرب تحت الاحتلال الإسرائيلي، حيث يتمتع اليهود بالمزايا الكاملة للمواطنة، ولا يُمنح الفلسطينيون الذين يعيشون في الضفة الغربية المحتلة وغزة أي حقوق سياسية على الإطلاق، ويعاملون بوصفهم مواطنين من الدرجة الثانية. فوفقا لتقرير نشرته “هيومن رايتس ووتش” عام 2010 بعنوان “انفصال وعدم مساواة: معاملة إسرائيل التمييزية للفلسطينيين في الأراضي الفلسطينية المحتلة”: “يواجه الفلسطينيون تمييزا منهجيا لمجرد عِرقهم وإثنيتهم وأصلهم القومي، مما يحرمهم من الكهرباء والمياه والمدارس والوصول إلى الطرق، بينما يتمتع المستوطنون اليهود القريبون بكل هذه المزايا التي توفرها الدولة”.

ويلخص جون دوغارد، المقرر الخاص المعني بحالة حقوق الإنسان في الأراضي المحتلة، هذه الانتهاكات العامة في تقريره، مشيرا إلى أن المجتمع الدولي حدد ثلاثة أنظمة معادية لحقوق الإنسان: الاستعمار، والفصل العنصري، والاحتلال الأجنبي، وكلها تجتمع في إسرائيل. فمن الواضح أن إسرائيل تحتل الأراضي الفلسطينية عسكريا، وفي الوقت نفسه تمارس سلطة الاحتلال أشكالا من الاستعمار والفصل العنصري، وهو ما يجعل إسرائيل بحسب دوغارد تناقضا مجسدا للمبادئ المركزية لحقوق الإنسان الدولية.

 

هناك العديد من التشابهات التي تجمع بين نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا ونظام الحكم الحالي في الأراضي الفلسطينية المحتلة حتى على مستوى الممارسة العملية. مثلا، هناك ممارستان للفصل المكاني يمكننا رؤيتهما بشكل متطابق تقريبا في كلٍّ من جنوب أفريقيا وإسرائيل، الأولى هي سياسة نظام التصاريح للحد من حركة السكان، حيث استخدمت حكومة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا نظامَ مرورٍ معقدا للسيطرة على حركة السود، وبطريقة مماثلة وضعت إسرائيل نظاما معقدا لتصاريح الحركة، ونقاط التفتيش التي تصعب انتقال الفلسطينيين من منطقة إلى أخرى وتقيد حركتهم، مما يصعّب الأنشطة اليومية مثل الحصول على الرعاية الصحية أو الانتقال إلى أماكن العمل.

الممارسة الثانية هي تعمُّد إنشاء جيوب عِرقية لعزل السكان السود في جنوب أفريقيا (البانتوستانات)، وإنشاء جيوب مماثلة في فلسطين، أبرزها حالة قطاع غزة المحاصر، بما يجعله أشبه بأكبر سجن مفتوح كما وُصف دائما. كما يمكننا أن نرى مثالا فجا آخر لهذه الممارسة في المستوطنات الإسرائيلية، حيث بُني أكثر من 123 مستوطنة منذ عام 2012، وغالبا ما تقع المستوطنات حول المراكز الحضرية الفلسطينية الرئيسية، وهو ما يعزلها عن بقية الأراضي.

من الناحية القانونية أيضا استخدمت قوانين متباينة للجماعات العِرقية المختلفة في نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، وفي الأراضي الفلسطينية كذلك توجد قوانين منفصلة لكلٍّ من الفلسطينيين والإسرائيليين مما يؤدي إلى تفاوت في الحقوق القانونية، كما يواجه الفلسطينيون مجموعة من السياسات التمييزية، بما في ذلك قانون الدولة القومية، الذي يُعرِّف إسرائيل بوصفها دولة لليهود فقط، مما يجعل المواطنين الفلسطينيين عمليا في مرتبة الدرجة الثانية (5).

شهدت جنوب أفريقيا العديد من المذابح والممارسات العنيفة خلال نضالها ضد الفصل العنصري، لكنها لم تشهد مثل هذا القصف والحصار والعدد الكبير من القتلى والأسرى الذي شهده المدنيون في فلسطين. (الفرنسية)
إن الحديث عن التشابه بين التجربتين ووصف إسرائيل باعتبارها دولة فصل عنصري ليس مجرد تشبيه بلاغي، لكنه حقيقة شبه مكتملة تجعل إسرائيل نظام فصل عنصري مكتمل الأركان (6). ولكن رغم قوة الحجج القانونية لتصنيف إسرائيل بوصفها دولة فصل عنصري، يعترض البعض على المقارنة المباشرة بين الوضع في جنوب أفريقيا والأوضاع الحالية في فلسطين، ويمكن تلخيص هذه الاعتراضات في عدد من النقاط الأساسية؛ الأولى هي أن اليهود والفلسطينيين لا يمثلون مجموعات عِرقية، وأن إسرائيل لا تميز على أسس عِرقية بل على أساس المواطنة مثل غيرها من الدول القومية، وهو الاعتراض الذي يمكن الرد عليه وتفنيده ببساطة بأن الخصائص الواسعة للتصنيف ما بين اليهود والفلسطينيين تندرج تحت التعريف الواسع للعِرق بموجب القانون الدولي.
وحتى من ناحية المواطنة، فالقانون الإسرائيلي يميز بين حاملي الجنسية الإسرائيلية من العرب واليهود. يُمثِّل مَن يُعرفون بـ”عرب إسرائيل” أكثر من 20% من سكانها، وينحدرون من أكثر من 160 ألف فلسطيني بقوا داخل حدود الأراضي المحتلة بعد عام 1948، ويعانون من التمييز بين الجنسية والمواطنة، فرغم حملهم الجنسية الإسرائيلية، فإنهم يُعاملون باعتبارهم مواطنين من الدرجة الثانية، ويواجهون التمييز في مجال التوظيف والسكن، كما يعانون من مصادرة الأراضي، وكلها أمور تؤكد أن الممارسات التمييزية في إسرائيل ترتكز على العِرق لا المواطنة، مما يؤكد أنها دولة فصل عنصري (7).

 

تاريخ طويل من النضال المشترك

لا نبالغ إذن عندما نقول إن نجاح النضال ضد الفصل العنصري في جنوب أفريقيا كان مصدرا للإلهام للمقاومة الفلسطينية. فمنذ خمسينيات القرن الماضي ربطت المؤتمر الوطني الأفريقي (ANC) ومنظمة التحرير الفلسطينية علاقة وثيقة قوامها النضال المشترك، وهي العلاقة التي امتدت فيما بعد، فبعد أسبوعين فقط من إطلاق سراحه من السجن عام 1990، سافر المناضل والزعيم نيلسون مانديلا إلى زامبيا للقاء القادة الذين دعموا الكفاح ضد الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، ومن بين أبرزهم الرئيس الفلسطيني الراحل “ياسر عرفات”، كما عُرف عن الزعيم الراحل نيلسون مانديلا ارتداء الكوفية الفلسطينية في عدد من المناسبات المهمة تعبيرا عن دعمه للقضية (8).

كما وجَّه الكثير من الشخصيات البارزة والناشطين المناهضين للفصل العنصري في جنوب أفريقيا الانتقادات للاحتلال الإسرائيلي وأعلنوا عن تضامنهم مع القضية الفلسطينية، ومن بين أشهرهم: دينيس غولدبرغ الذي كان من بين أهم أعضاء الجناح المسلح في حزب المؤتمر الوطني الأفريقي، وديزموند توتو كبير أساقفة جنوب أفريقيا والفائز بجائزة نوبل للسلام.

على الجانب الآخر، ورغم الإدانة الإسرائيلية العلنية لسياسات الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، فقد تطور تحالف سياسي وعسكري بين كلٍّ من إسرائيل وحكومة الفصل العنصري بجنوب أفريقيا، وذلك خلال سبعينيات القرن الماضي، في ظل حكومة إسحاق رابين، وقد لعب شيمون بيريز وزير الدفاع في ذلك الوقت دورا أساسيا في هذه العلاقة، بوصفه مهندس البرنامج النووي الإسرائيلي عبر اجتماعات سرية عُقدت في منتصف سبعينيات القرن الماضي، وأسفرت عن عدد من الصفقات العسكرية منها عرض إسرائيل بيع رؤوس نووية لجنوب أفريقيا (9).

 

*جميع المقالات المذكورة في الموقع تعبر عن رأي أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي المنظمة