الطائفية والفتنة ومعاداة السامية… ما وجه التشابه؟
أنتَ لا تحبُّ إسرائيل، أو تهاجمها، أو تقول إنّها مجرمة حرب، وكيان دخيل، وسرطان يجثم على صدرِ وطننا الكبير المحتل، واحتلال قائم بقوّة الدبابة والإف 35، لا أكثر، وتستدلُ على ذلك بصورةٍ لطفلٍ مُقطَّعِ الأوصال، ولجثةٍ مُبعثرةِ الأشلاء، ولمدينةٍ مُسوّاة كاملةً بالأرض، فيفاجئك “الرجل الأبيض”، والغربيون الفوقيون، أصحاب المعايير ومفصّلو المفاهيم، وصناع البروباغندا للمجرمِ المدلّل؛ المتستِّرون على القاتلِ المتسلسل الأشهر في التاريخ، بإشهارِ السلاح الذي يملكه ليرفعه عندما تنعدم الحجج وتُدحض البراهين “هذه معاداةٌ للسامية”!
يا سيدي أنا أصلًا ابن سام، أنا أصلًا من الساميين الأوائل، الأصليين، كيف أعاديهم، وكيف احتكرتَ “السامية” لك فضلًا على أنّها لم تُثبت عليك، ثم متى صار جانبك الذي تميل إليه، ومعسكرك، عبارة عن مفهومٍ مطاطٍ واسعٍ يسع الإنسانية كلّها، هل حين ترتكب جرائم ضدّ الإنسانية، فأقول إنّك مجرم، أكون أنا من “يعادي السامية”، ويناقض الإنسانية؟!
من هذا المنطلق كان السؤال الأكثر تكرارًا منذ السابع من أكتوبر “دو يو كوندِم خماس؟”، في إصرارٍ على أنّ البداية كانت من هنا، وتأكيد على الرواية الغربية التي تفيد بأحقيةِ الرجل الأبيض، سواء كان مستوطنًا في أوروبا، أو محتلًا في المشرق العربي، أو مستعمرًا في القارة السمراء، له الحق كلّ الحق في العربدةِ كيفما شاء، ثم حين تفكر بإيقافه عند حدِّه، سيشهر لك حُماته سلاحهم المقزّز “معاداة السامية”.
هل حين تُرتكب جرائم ضدّ الإنسانية، فأقول إنّك مجرم، أكون أنا من “يعادي السامية”، ويناقض الإنسانية؟!
ولأنّ العرف جرى عندنا أن نستنسخ من الغرب أردأَ منتوجاته الفكرية والأخلاقية والثقافية، فإنّ قومنا بالطبع لم يفُتهم استنساخ سلاح من لا حجّة له، المجرم حين يتلبّس ثوب الضحية، بتحوير “معاداة السامية” إلى تهَمٍ من العائلة البيضاء ذاتها، وعلى رأسها “الفتنة”، التي سيشهرها في وجهك كلّ من لا يعجبه رأيك، حين تنتقد نظامًا، أو تهاجم مطبعًا، أو تذكّر خائنًا لله والأرض والأخوة بخيانته!
تقول إنّ هذا النظام متواطئ في الإبادة، غارق في مسرحِ الجريمة حتى أذنيه، بصماته على وجوهِ الجثامين، والدماء نفسها على ثوبه باهظ الثمن، وصراخ الأطفال يعرف الطريق إلى أذنيه لأنّه قاتلهم من حيث لم يتوقّعوا، وتقول: ذاك النظام مجرمٌ شريكٌ في الحصار، يتحمّل وحده أكثر من نصفِ المجزرة، يموتُ الصغارُ جوعًا على بوابته، ويهلك الجرحى نزفًا خلف أسواره، ويُسجن المناصرون للقطاع قمعًا وظلمًا وراء قضبانه، وتقول: إنّ هذا القصر مطبّع ذليل، يدعم قاتل إخوته بالمال والنقاهة، ويستضيف في حمّام بيته سفاحًا عاد للتوّ من مجزرة ارتكبها بحقِّ أطفالٍ ورضّعٍ، فيجهّز له البانيو، والموسيقى، والمناشف، ليغتسل، ويتطهر من آثارِ الدماء وغبار الأرض وتوتّر السكين، وتقول، وتقول…
تتعدّد الأطراف، والأنظمة، والألسنة، واللهجات، ويتفق مطبّلو البلاط في مختلف القصور على سلاحٍ واحد، من كلمةٍ واحدة، والكلمة سلاحٌ لكنهم يفهمونه بأحقر ما في المجازِ من معنى، ويخرجون كلمتهم من غمدها، يقولون لك “فتنة”! سيخبرونك أنّ تهتم بغزّة، وأن تكتب عن فلسطين، وأن تنشر القضية، لكن لا تأتِ على ذكر قصرهم الحرام، ولا تنتقد حكومتهم، ولا تهاجم سلطتهم، حتى ولو قصموا ظهر غزّة، وشقوا وسطها، وأذلّوا أعزّتها، لأنّ تلك كما تعلم “فتنة”.
نُدين لغزّة بفضلٍ آخر لم نكن نعلمه، أنّها جمعت الأسلحة المبتذلة الثلاثة (معاداة السامية، إثارة الفتنة، الطائفية) في سلةِ قمامةٍ واحدة
ثم على السياق نفسه، نحوّر المستورَد ليناسب كلّ امرئٍ يدافع عن “إلَهه” المصنوع من ورق، فتتحوّل “معاداة السامية” شرقًا إلى “فتنة”، ثم تتحوّر “الفتنة” بينيًّا إلى “طائفية”؛ فحين تهاجم نظامًا متورّطًا في قتلِ إخوة لك، وسفكِ دمائهم، والتوغّل المقيت في عواصم عربية عدّة، بتمددٍ، ليس ثقافيًا ولا فكريًا معاذ الله، وإنّما تمددٌ على ظهرِ المسيّرات، وفوق البراميل المتفجرة، دهسًا لجثثِ الضحايا، وسفكًا لدماء الأبرياء، ومحاربةً للعزّل أو أصحاب الأرض وأهالي المدن بدعوى محاربة الشيطان الأكبر -ولا أعلم كيف يتمثّل الشيطان في وجوه الفتيات والأطفال-، يتهمونك، بالسلاح نفسه، أنّ ما يدفعك للمهاجمة، والنقد، والاستياء، ليست غيرتك على الدماء الزكيّة، ولا غضبك لأجل الضحايا، وإنّما فقط هي “الطائفية”!
وهكذا قُسّم العالم بين سحّيجة الأرض، المدافعين طوعًا عن آلهتهم من مصاصي الدماء على مختلفِ مشاربهم، فإنْ هاجمت “مجرمًا” من قومية أخرى غير قوميتك فأنت “معادٍ للسامية”، وإنْ هاجمت “مجرمًا” من مذهبٍ آخر غير مذهبك فأنت “طائفي”، وإنّ هاجمت “مجرمًا” من نفس قومك ومذهبك لكنه ينكّل بالجميع على اختلاف الأديان والأنساب والملل فإنك تثير “الفتنة”، وهكذا، من جديد نُدين لغزّة بفضلٍ آخر لم نكن نعلمه، أنّها جمعت الأسلحة المبتذلة الثلاثة في سلةِ قمامةٍ واحدة!
أ. يوسف الدموكي