حسام شاكر
يبدو الاقتدار على فرض الأسئلة المعروضة للنقاش في الفضاء العالمي من أوضح مظاهر العلوّ الحضاري أو حتى الغطرسة الثقافية. يتّضح هذا في واقع عالمنا المتنوِّع الذي لا ينعم بتكافؤ فرص الحضور والتأثير بين مكوِّناته. إنّ الاقتدار على النقاش في فضاء إنساني متنوِّع هو أحد مؤشِّرات النهوض الحضاري والفاعلية الثقافية لأيّ أمّة، وهو مؤشِّر صحِّي أيضاً على وجود عالم متنوِّع بحقّ في أطروحاته ومضامينه؛ وليس في ألوانه وأشكاله وألسنه وأقاليمه وحسب.
لا جديد في الاستنتاج بأنّ ما يُسمّى على نحو تعميمي “الغرب” يستأثر بطرح الأسئلة على العالم، بينما اعتاد القابعون في بيئات الأرض الأخرى موقع التلمذة الحضارية أو التشبّث بمقاعد الإجابة على الأسئلة، ولم تكن ثمّة فرص لطرح أسئلة حقيقية بشكل عكسي.
فمن بوسعه أن يُسائل عالَمَه ثقافياً وحضارياً من خارج البيئات الأوروبية – الغربية المعهودة؟ تسبّب سطوع المرجعية/ المرجعيات الثقافية الغربية خلال حقبة الاستعمار وما بعده في إيجاد واقع غير متكافئ طمَس فرص تنوير كان يمكن توقّعها من أمم وثقافات وشعوب أخرى. يمكن اختبار هذه الفرضية بخيارات يسيرة، مثلاً عبر الطلب من أيّ أكاديمي أو “مثقّف” بأن يقترح أسماء بعض المفكِّرين الذين يعرفهم من قارّة بحيالها مثل أفريقيا، أو من شبه القارّة الهندية، أو من دول جنوب شرق آسيا مثلاً. هل بوسع أحدهم أن يجود بمقترحات وافية من تلقائه دون أن يستنفر ذهنه ويعتصر حافظته وقد لا يخرج لنا بحصيلة مُعتبرة في نهاية المطاف كما يحصُل غالباً؟ قد نصل إلى استنتاج أعمق عندما نكتشف أنّ الأسماء التي اقترحها صاحبنا الأكاديمي أو “المثقّف” ليست مستقلّة في منبتها ومنشئها عن سياق غربي معيّن، أو قد تكون المعرفة بها تحقّقت أساساً عبر قنطرة غربية منحته شرعية المصادقة والاعتماد والاعتراف ولم يكن ليُعرَف أحدُهم بدونها. تتيسّر المهمّة في المقابل لو سألنا أيّ شخص، ولا يُشترط أن يكون أكاديمياً أو مثقفاً، عن قائمة من أسماء فلاسفة ومفكِّرين ومثقّفين من أوروبا مثلاً.
من مظاهر المركزية الأوروبية – الغربية أنّ معرفة جماهير الأرض بعقول عالمها الفسيح وإبداعاته الوفيرة تمرّ غالباً عبر قنطرة غربية، ولهذه القنطرة مفعول المُرشِّح (فِلتر) في الانتقاء والتفضيل والإبراز والحجْب والحُكم على المحتوى وتشكيل الانطباعات والهالات بشأن الوجوه والأسماء والمضامين، ويا لها من معرفة انتقائية ومتحيِّزة ومضطربة!.
تُعزِّز هذه المؤشِّرات القناعة بافتقار عالمنا إلى فرص مشاركة ثقافية تعدّدية. لا يعني هذا ضعف هذه المشاركة وحسب؛ بل يقضي بالأحرى بأنّ فرصها محدودة وغير متكافئة أساساً في عالم واحد. فثمة اعتداد متكرِّس بالمركزية الغربية وإن لم يُفصَح عن حقيقتها أو لم يُصارح بسطوتها المعنوية التي لا ينبغي الاستهانة بمفعولها في كبح فرص المشاركة وحجْب خيارات الإبداع وتقديم المقاربات واقتراح الحلول من خارجها. تتصرّف هذه المركزية من تلقائها – بوعي من فاعليها أو بدون وعي – على أنّها مَن تمنح الاعتراف بأصوات تتخيّرها وأسماء تلتقطها من عالم متنوِّع من خلال مسالك هذا الاعتراف؛ في التشغيل والاستقطاب والنشر والحظوة والجوائز والتقريب والإقصاء والإضاءة والإعتام، ومن شأن سلوك التحكُّم والهيمنة هذا أن يُزيِّف مشهد “التنوّع” الذي نحصل عليه في نهاية المطاف.
تمارس هذه المركزية فعل المُصادقة الفكرية إزاء إسهامات محسوبين على ثقافات وبيئات أخرى، فينسج هذا المسلك مشهداً مُلفّقاً عن واقع التعدّدية الثقافية في عالمنا. من القسط الإقرار بأنّ عالمنا غارق في مظاهر التعبير الثقافي المتنوِّع المزيّفة، وبعضها يُؤتى به لغسيل المركزية الثقافية المعولمة ذات الخلفية الأحادية الغربية. تفرض هذه الحالة طقوسها على مواسم وفعاليات ثقافية وفنية، بما فيها المؤلّفات المُختارة بعناية من بيئات أخرى، والأعمال السينمائية المدعومة من صناديق أوروبية حسب أولويّات المانحين، والوجوه والأسماء التي يقع إبرازها وتكريمها والتعاقد معها دون غيرها. ومن مظاهر هذه الحالة شيوع أنماط الاستشراق الذاتي في أعمال ثقافية وإعلامية وسينمائية تستعير منظوراً أوروبياً – غربياً نمطياً في تصوير الذات وتقديمها، وهكذا أيضاً يعمل “غسيل التنوّع/ التعددية” بفعالية في هذا الشأن.
تفرض هذه المعضلة على فرص التلاقي في عالم متنوِّع أن تنطلق من تقاليد كرّستها المركزية الأوروبية – الغربية، فإن أراد العربي أن يلتقي أخاه الأفريقي جنوب الصحراء سيحتاج على الأرجح إلى قنطرة غربية مكانياً و/أو وسيط لساني أوروبي، وغالباً ما ستسطو طقوس الحديث وتقاليد الاجتماع الغربية على المشهد، ولن يقتصر الأمر على اشتراكهما في الزيّ الأوروبي غالباً المفروض بقوّة السطوة الناعمة لعلاقات الاستعمار وما بعده. من شأن ذلك أن يفرض تأثيرات ما للمركزية الأوروبية – الغربية على أجواء التلاقي والحوار والتفاهم والتثاقف حتى بين مكوِّنات عالم الجنوب التي يغمرها الاغتراب المتبادل، وقد يحدث ذلك حتى ضمن فضاء أمّة واحدة متنوِّعة المكوِّنات أحياناً.
ليست اللغة هنا لساناً وحسب؛ فبعض متحدِّثي الفرنسية في القارّة الأفريقية يستحضرون في طريقة حديثهم لغة الجسد الفرنسية النمطية وإيماءاتها التعبيرية المألوفة، ولا يبتعد هذا عن الاستنتاج الذي صاغه بعضهم بالقول إنّ الاستعمار الفرنسي خلّف من ورائه في أفريقيا شعوباً سمراء البشرة بيضاء المحتوى، علاوة على علاقات استغلالية محجوبة عن مركز الأضواء. ينسحب هذا بأقدار على الخبرة الإنجليزية والأمريكية المُستعارة وطقوسها المتجدِّدة، حتى أننا نجد أجيالاً من الكوكب تستعير لغة جسد مُفتعلة تتقمّصها من متحدِّثي المنصّات الأمريكية (في زمن ما قبل ترمب!).
يرتبط هذا المنحى ارتباطاً مباشراً، ليس فقط بالثورة العلمية الفكرية الفلسفية “التنويرية” التي تُنسَب إلى أوروبا، وبسطوع النموذج الأوروبي – الغربي في عالمنا؛ وإنما بالأحرى وتلازماً مع هذا؛ من خلال عهد الاستعمار وما تراكم فيه من خبرات ومعارف وقدرات لأمم النفوذ الدولي الأوروبية – الغربية من جانب؛ ومن هيْمنة على أرجاء العالم الأخرى، وعلاقات ما بعد الاستعمار ذات الوقْع على الجنوب العالمي أيضاً، من جانب آخر، وقد كان لهذا أثره في تمكين حقبة مديدة من المركزية الغربية المعولمة من أن تتسيّد وأن تتواصل.
أدّى هذا المنحى إلى خسران أقساط من الخصوصيّات المحلية والبيئية والثقافية الثريّة في عالم متنوِّع، واعتبار هذه الخصوصيات خروجاً عن معيار ينبغي الامتثال له والتقيّد به في “الحياة الحديثة” إلى درجة تستبطن ازدراء الذات أحياناً أو الشكّ بصلاحية حضورها الصريح تحت الشمس.
يُساهم خطاب السوق وثقافة الدعاية بأقساط مهمّة في ترويج هذا التنميط الذي يمكن اختبار مفعوله في الواقع عبر ملاحظة تحوّلات طرأت على أساليب التأثيث والتنسيق المنزلي وكيفيات الجلوس وتقاليد المائدة في خبرة أجيال الحاضر خلال نصف قرن مضى على الأقلّ. من شأن التدقيق في بعض التفاصيل أن يجود باكتشافات غير ملحوظة، مثلاً في بعض التعبيرات اللفظية التي تجري على الألسُن، والتحوُّل في أساليب التأثيث المنزلي أو في كيفية تعليق لوحات الصُّوَر والزينة على الجدران أو في أساليب التقديم والضيافة، مع الإقرار بقدرة بعض البيئات على مقاومة هذه التغييرات الجامحة.
تتجلّى الأزياء وتحوّلاتها المتسارعة في مقام التعبير الواضح عن هذا الاتجاه، وانتقلت الحالة من نموذج أوروبي – غربي مُعَوْلم إلى تحوّلات متلاحقة في أنماط اللِّباس على أساس مرجعية أوروبية – غربية تُملي مقترحات جبرية على أساس موسمي تفرض الانصياع لها ويتحدّد المعروض في السوق على أساسها؛ كما لا يُحتمَل الخروج عنها غالباً في العديد من الفضاءات العامّة.
إنّ أجيال الأرض التي اعتادت هيمنة المركزية الغربية المعولمة على مجالات الحياة المتعدِّدة، وسلّمت بها ضمناً بوعي منها أو بدون وعي؛ قد لا تجرؤ على التفكير خارج الصندوق الغربي، أو النظر إلى العالم من زوايا مختلفة، وقد تتولّد جرأة النقد والمراجعة عندما تأتي المبادرة من منصّات غربية تباشر ذلك وكأنّها من يوصد البوّابة ويفتحها. واقع الحال أنّ باب القفص مفتوح لمن أراد أن يبصره، لكنّ العصفور الذي اعتاد المكوث في جوفه لم يجرؤ بعد على التحليق في فضاء فسيح.