د.عبد الكريم بكار
لدينا إجماع على أن التنوع والاختلاف، سنة من سنن الله تعالى في الخلق، وضح ذلك القران الكريم في مواضع عدة على ما نجده في قوله -سبحانه -: ((وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ))
كما أن التنوع مصدر للغنى والثراء الثقافي حيث يتعلم الناس من التنوع العثور على حلول لمشكلاتهم، والعثور على ما هو أكثر ملاءمة لمعيشتهم. إن في كل مجتمع (مكينزمات) تدفع في اتجاه الانقسـام والتنوع، ولهذا فإنك لن تجد مجتمعاً في أي مكان من الأرض عاش حالة من التوحد والالتحام والتجانس التام، وكلما ازداد عدد السكان في قطر من الأقطار أو مدينة من المدن، زادت عوامل الانقسام. إن المشكل ليس في وجود مذاهب وأعراق وطوائف ولغات عدة في أي مجتمع، إنما المشكل في تحول (الطائفة) إلى طائفية وتحول اللغة إلى محور ومنطلق لبث التعصب والبغي على الآخرين.
إن من المهم هنا أن أؤكد على أن اختلاف أفكارنا ومعتقداتنا وأهوائنا ومصالحنا، هو معقد ابتلاء الله لنا في حياتنا الاجتماعية حتى يظهر العادل والمنصف والمحسن والصبور، ويظهر الباغي والظالم والسلبي والشحيح…. وبما أن في كل مجتمع من يحاول تحقيق مكاسب خاصة عن أي طريق ممكن، فإن من غير المستغرب أن نرى من يحاول استغلال الانقسامات الدينية والمذهبية والعرقية….. لمصالحه الشخصية مهما كلف ذلك المجتمع من أثمان.
ما الطائفية:
يمكننا القول: إن الطائفية تشوه يصيب الانتماء إلى طائفة، وذلك التشوه يتمثل في المغالاة في الانتساب للطائفة، والتعصب لكل ما يتعلق بها، فالإنسان الطائفي، يعتقد أن طائفته هي الأفضل على صعيد المعتقد، وهي الأفضل في نظرتها إلى الحياة، وفي الشمائل والأخلاق، وربما النجاح في عالم الأعمال..
وكثيرا ما تتمحور المشاعر والمقولات الطائفية حول تعرض الطائفة للظلم والانتهاك، ومن ثم فإن التعصب لها يشكل وجهاً من وجوه مناهضة الظلم، واسترداد العدالة الاجتماعية المهدورة.
الطائفية مرض اجتماعي يؤثر على نحو سلبي في رؤية الطائفة أو الجماعة لنفسها والعالم، حيث إنها تدرك ما لديها من مآثر و أوضاع ومعطيات على نحو مبالغ فيه ومجاف للواقع، وتدرك ما لدى الآخرين من مكونات المجتمع وأطيافه على نحو مناقض، لا يخلو من التبخيس الإجحاف، ومن خلال هاتين النظرتين يتم قطع الجـسور التي يمكن مدها بين الطائفيين وبين مواطنيهم من المجموعات والطوائف الأخرى.
في بعض الأحيان لا نستخدم مصطلح الطائفية، وإنما نستخدم ما يعبر عنها مثل (التعصب الطائفي) حيث إن المتعصب لشيء يستخدم معايير خاصة به غير عابئ بأي ضوابط موضوعية أو معطيات واقعية؛ فالعاطفة التي يحملها نحو طائفته تشكل ما يشبه الستار الذي يحول بين عقله ورؤية الحقائق الماثلة.
أسباب نشوء الطائفية:
1- التنشئة المبكرة:
هناك قبائل وعوائل وطوائف، تنشّئ صغارها تنشئة مفعمة بمعاني الخصوصية والاستعلاء من خلال استعراض أمجادها وسير عظمائها، ومن خلال المعارك التي خاضتها ضد ابن العم والجار والبعيد والمنافس، وهذه التنشئة تسمم عقول الصغار ونفوسهم، فيتوقعون لأنفسهم من الآخرين رضوخاً وتبعية تلقائية، ومن غير الحاجة إلى وجود أي مسوغات ملموسة، وهذا منافٍ جملة وتفصيلا للتنشئة الرشيدة التي وجهنا إليها الإسلام، والتي تقوم على اتهام النفس بالتقصير والنقد الذاتي والتواضع، وحسن الظن بالناس. هم يقولون لصغارهم: (نحن غير….) والله تعالى يقول: ((بل أنتم بشر ممن خلق))
2- ضغط المصالح:
أحيانا تكون المصالح المادية وغير المادية التي تحصل عليها طائفة أو قبيلة.. هي التي تدفعها إلى التمايز عن غيرها، وإلى ادعاء الخصوصية، ولهذا الكثير من الشواهد التاريخية، فقد حدث آن توارثت أسر بأعيانها المناصب في إمامة ورعاية المساجد الكبرى في العواصم، كما أن بعض الأسر ورث خلفها عن سلفها القضاء أو الفتيا، أو زعامة الطائفة أو القبيلة التي تنتمي اليها، ومن الطبيعي في أحوال كهذه أن يلي تلك المناصب الأكفأ وغير الأكفأ، ومن يصلح ومن لا يصلح، ومن الطبيعي أيضاً أن تكون هناك ادعاءات عائلية وقبلية بامتلاك فضائل ومؤهلات وهمية.
3- ثقافة الانعزال:
غياب ثقافة (الغيرية) وهي ثقافة تقوم على مبدأ يقول: إن الوعي بالذات فرع عن الوعي بالآخر، حيث إننا في كثير من الأحيان لا نعي أنفسنا ولا نعي محيطنا من غير الذهاب إلى مقارنة ما لدينا بما لدى غيرنا، ومن خلال تلك المقارنة سنكتشف أننا متشابهون إلى حد بعيد، وأن ما لدينا من كمالات وعيوب موجود مثله أو قريب منه لدى الآخرين، والفرق في الدرجة، وليس في النوع.
الإنسان الطائفي لا يرى في الآخر المختلف نداً أو شريكاً في الوطن، وإنما ينظر إليه على أنه عدو أو خصم أو منافس، وهذا يحول دون المقارنة التي أشرنا إليها، ودون محاولة إدراك وجوه التشابه، ومسوغات التواصل.
4- غياب الإطار السياسي الجامع:
هذا السبب هو أهم الأسباب على الإطلاق حيث إن التجربة التاريخية لكثير من الشعوب –وكذلك مدلولات الواقع المعيش- تؤكد على نحو لا لبس فيه على أن زخم التعصب للطائفية، أو الملة، أو المذهب، أو القبيلة، لا يتمتع بالاستقلال الذاتي، أي أنه لا ينشأ في فراغ، وإنما في ظل معطيات سياسية معينة، وتتجسد تلك المعطيات على نحو أساسي في غياب (دولة المواطنة) الدولة التي تقوم بتوزيع الفرص والثروات والمناصب والامتيازات في إطار شروط المواطنة بعيداً عن اعتبارات أخرى، وفي حالة كهذه تنتفي الحاجة إلى التمايز المذهبي أو العرقي او اللغوي….
إن الطائفية هي السوق السوداء الموازية لسوق السياسة الوطنية النزيهة والعادلة، وهكذا فإن سوق الطائفية تزدهر كلما فسدت سوق السياسة، والعكس صحيح.
إن الخلاصة التي ننتهي إليها في أسباب استعار نيران الطائفية، هي أن الطائفية عبارة عن مرض ينشأ عن أمراض، وهي لا تستمر في أي مجتمع دون تحريك من ظروف سيئة على الصعيد السياسي، ودون تحرك من مستثمرين في التنوع المجتمعي، ولهذا قيل:
لا طائفية من غير طائفيين، ونحن مطالبون بتسليط الأضواء على المنتفعين من انقسام المجتمع وانتشار ظاهرة التجاذب الاجتماعي والتعصب الطائفي.