الكاتبة: سمار الترك
150ألف قتيل, 17500 مخطوف, 13 ألف مفقود, 2640 سيارة مفخخة, 2000 سيدة لقين مصرعهنّ بعد اغتصابهن. هذه هي حصيلة الحرب الأهلية في لبنان التي يوافق اليوم الذكرى الـ 47 لانطلاق شرارتها الأولى، وهي ذكرى تأتي في وقت يمرُّ فيه لبنان بمرحلة عصيبة جعلت البعض يخشى من اندلاع هذه الحرب مرة أخرى.
تثبت الأرقام أنها كانت حرباً دموية وصراعاً معقّداً استمر في لبنان ما بين عامي 1975 و1990، تعود جذورها للصراعات والتنازلات السياسية في فترة الاستعمار الفرنسي لسوريا ولبنان، الذي عاد ليثور بسبب التغيّر الديمغرافي في لبنان والنزاع الديني، الإسلامي – المسيحي، وكذلك التقارب مع سوريا وإسرائيل.
وبعد توقف قصير للمعارك عام 1976 لانعقاد القمّة العربية، عاد الصراع الأهلي ليستكمل، وعاد ليتركّز القتال في جنوب لبنان بشكل أساسي، الذي سيطرت عليه بداية منظمة التحرير الفلسطينية ثم قامت إسرائيل باحتلاله.
يختلف الكثيرون في تاريخ بدء هذه الحرب، ولكن يتفق الكثيرون أيضاً أنها بدأت في 13 نيسان 1975 حيث كان هناك محاولة فاشلة لاغتيال الزعيم الماروني بيار الجميّل، وبعدها حصلت مجزرة عين الرمانة التي هوجمت فيها إحدى الحافلات المدنية وبداخلها ركاب فلسطينيين، مما أدّى إلى مصرع 27 شخصاً.
اليوم، لمْ يبقَ من تلك الحرب الأهلية إلّا شواهد قليلة… شواهد تحكي عن أيام صعبة وقاسية عاشها اللبنانيون بين أسنان القذائف والصواريخ.. شواهد قليلة بقيت من تلك الحروب الأهلية التي لم يسلمْ منها أحد… شواهد قليلة بعد أن أسدلت عملية إعادة الإعمار الستار عن فصول هذه الحروب بين الإخوة الذين صنع كل منهم له تاريخاً منفصلاً وحاول أن يكتبه بطريقته الخاصة.
ومع ذلك يبقى هناك شهود شهداء وأحياء انخرطوا في هذه الحروب في أعمار مبكرة، فمنهم من بقي ومنهم من رحل… شهود اختلفت آراءهم وميولهم فتخندقوا على خطوط التماس وفي الأزقة والشوارع يتقاتلون ويتبادلون القصف والرصاص…
ومقاتلون وقفوا على الجهة الغربية وآخرون على الجهة الشرقية فصارت بيروت بيروتين، وصار لبنان لبنانين: غربية وشرقية.
ولم تقفْ هذه الحرب البشعة عند هذه الحدود، بل تعدّتها في مراحل لاحقة لتتحوّل الأحياء والشوارع إلى ساحات قتال في الغربية والشرقية، لتمتد الحرب الأهلية إلى داخل الطائفة أو المذهب نفسه.
الحرب انتهت، وتوقف المقاتلون عن القتل، لكن آثارها لم تزل موجودة على المباني وفي بعض النفوس، خصوصا في ظل ما نعايشه اليوم من أزمات متعددة وعلى مختلف الصعد..
لذلك، ما يأمله الجميع اليوم أن تعمم ثقافة العيش المشترك، والسلم الأهلي، والحوار والتنافس الديمقراطي، ولا سيما أننا على أبواب الانتخابات النيابية، لأن كل الآمال تتجه إلى تغيير هذه «المنظومة» لننهض بلبنان من جديد ونعيده وطنا لكل اللبنانيين ومنارة للعالم بأكمله: «سويسرا الشرق».
لكن يبقى السؤال: هل تعلّم اللبنانيون الدرس من الحرب الأهلية؟
لمعرفة الجواب التقت «اللواء» شخصيات منوّعة ومن مجالات مختلفة، فكان الآتي:
لا بارقة أمل
{أستاذ الأدب العربي نبيل خانجي اعتبر أن اللبنانيين اليوم هم شتات لمجتمعات عشائرية وطائفية ومذهبية، يقول: «كل مجموعة تحاول أن تلوذ وتحتمي بالعشيرة أو المذهب أو الطائفة، واللبنانيون حتى القادة اليوم – من هم قادة – ما تعلّموا أن لا غلبة لا لطائفة ولا لمذهب ولا لفئة على أي فئة في لبنان.
والشيعة الذين لهم الباع الطويل اليوم في تقرير مصير لبنان على جميع الأصعدة بسبب النفوذ المسلح للثنائي الشيعي وحزب الله في المقدمة، فاللبنانيون ما تعلّموا وتقديري أنهم لن يتعلّموا وأن لا بارقة أمل في بناء وطن يحمل الهوية اللبنانية، ما لم يتم القضاء جذريا على كل ما يمتّ إلى الطائفية والمذهبية والارتهان إلى الخارج.
هذا الأمر يكاد أن يكون مستحيلا في ظل وجود أبواق لا زالت تدعو إلى التفرقة بين المذاهب وتستغل ضعاف النفوس وتغذّي في عقول الأطفال لبن وحليب الشرذمة والانقسام ورفض الآخر لأنه من مذهب آخر أو سبّه وشتمه وشتم أئمته.
فما زالت النعرة الطائفية والنعرة المذهبية التي تغتذي من وجود دولة في المنطقة هي إيران تسعى إلى الهيمنة على المنطقة ومنافسة إسرائيل في هذا المجال كلاعب إقليمي يعود إليه القرار والقدرة في تحديد مسار مستقبل هذه المنطقة.
فاللبنانيون إن تأمّنت لهم الظروف المناسبة، فإن بذور الحرب لا تزال قائمة وموجودة، لكنهم أنهكوا اقتصاديا وتم محو بعضهم سياسيا وما عادت لهم القدرة المالية على أن يلجوا إلى السلاح لحلّ خلافاتهم، إضافة إلى انشغال العالم والدول صاحبة القرار في المنطقة في ساحات أخرى».
الجيل الجديد لن يتعظ
{ المحامي ماجد رمال رأى أن الجيل الذي عايش الحرب الأهلية ومعاناتها لم يعد لديه القدرة على تحمّل ويلاتها، يقول: «الجيل الجديد لن يتعظ مما سبق كونه لم يعايش تلك المرحلة الصعبة والقاسية، لذلك فهو ينجرف ودون تفكير بالعواقب إلى ما يفرضه عليه الواقع الطائفي والمذهبي، لا سيما في ظل الأحقاد الطائفية والمذهبية والضغوطات المعيشية الراهنة مدفوعا برغبة أمراء الحرب الذين ما زالوا يتربعون على عروشهم، والذين يتحركون بإيعاز خارجي الذي لم يحن وقته بعد بدليل ما حصل في الأيام الماضية من أحداث، كان آخرها أحداث عين الرمانة.
ومن هنا، يمكن القول إن الحرب الأهلية فيما لو اندلعت، سيكون وقودها الجيل الجديد بقيادة أمراء الحرب أنفسهم الذين ما زالوا يسعون وراء مصالحهم الشخصية، دون النظر إلى المصالح الوطنية».
«لا غالب ولا مغلوب»
{الإعلامي يزبك وهبي لفت إلى أنه بعد 32 سنة على انتهاء الحرب الأهلية لا بد من القول أن في لبنان فئتين: «فئة تعلّمت من دروس الحرب ولن تعيد تكرارها وتعتبر أن ما حصل كان خسارة كبيرة جدا: 100 ألف شهيد، مئات آلاف الجرحى والمشرّدين والمعوقين، مليون مهاجر… هذا عدا عن أضرار بعشرات مليارات الدولارات.
هذه الفئة اقتنعت أن الحرب يجب ألا تتكرر ويجب ألا نسمع بها مجددا وخصوصا أن مآسيها ما زالت ماثلة في بيوت كثيرة في لبنان وأضرارها كذلك.
وثمّة فئة أخرى تعتبر أن الحرب هي سبيل لنجاح أو استقواء فئة على فئة أخرى.
لذلك، على الجميع أن يدرك أن السلاح لا يؤدي إلى نتيجة وأن الحرب كما قال السياسي اللبناني صائب سلام -رحمه الله-: «لا غالب ولا مغلوب» هكذا تنتهي، وبالتالي الحروب لا تؤدّي سوى إلى المآسي، وعلى هذه الفئة أن تدرك أن الحروب والفتن والمشاكل لن تجدي نفعا وأن قدر لبنان وقدر اللبنانيين أن يعيشوا سويّا. وبالتالي علينا أن نتجه -بنظري- شيئا فشيئا من الدويلات الطائفية التي نعيش فيها إلى دولة مدنية تكون هي السبيل للحدّ من الحروب ولتجنّب الوقوع في الحرب مجدّدا».
لا يمكن لمن دمّر الدولة أن يُكلّف بإعادة بنائها
{الأخصائي في الجراحة النسائية والتوليد والصحة الجنسية الدكتور فيصل القاق، أشار أنه منذ نيسان ١٩٧٥، مرّ حوالي نصف قرن على بداية الحرب الأهلية في لبنان التي ذهبت بالبشر والبنيان والكثير من الأحلام والآمال، وبعثرت مفاهيم متعلقة بلبنان الفكرة والكيان والدولة وعلّة الوجود.
يقول: «بدأت الحرب تحت مسميات وعناوين متعددة، وبعناصر مختلفة، لكن الثابت فيها أنها لم تكن حرباً بسبب اختلاف اللبنانيين واللبنانيات، بل بسبب تناحر وتنافر قياداتهم التاريخية والمستجدة حول المسائل المحلية والإقليمية.
يعتقد الكثيرون أن الحرب ما زالت مستمرة بأدوات وشعارات مختلفة لم تُحسّن أو تغيّر شيئاً في واقع ومستقبل السكان، لا بل زادت من تشرذمهم ويأسهم وتبعيتهم وحديثا، بإفلاسهم، وسقوط الدولة الحاضنة بعدما أمعنت في إضعافها.
لكن هل تعلّم اللبناني الدرس من الحرب الأهلية؟
إنّ الذي يجب أن يتعلم الدرس هم القيادات والطبقات السياسية؛ أن تتعلم التعاطي بالسياسة النبيلة، وتمارس تداول السلطات وفصلها، وبناء الدولة وتنشئة المواطن وتربيته لأنه روح الدولة، والعبور بهما نحو الاستقرار والتنمية والمواطنة بدل التعامل مع الدولة كجمعية تبغي الربح وتقاسم مغانمها وتفتيت هياكلها ونثر الأشلاء.
لم تتعلم الطبقة السياسية أن تعتذر للبنانيين ولأهالي وعائلات الضحايا والمصابين والمفقودين، ولم تقم بالجهد اللازم لاستعادتهم الى كنف الرعاية والعناية.
لم تتعلم الطبقة السياسية ان بناء الدولة يتطلّب التنازل عن دويلاتهم، وان بناء الإنسان هو الأبقى والأسلم للجميع.
الدرس الوحيد الذي يجب على المواطن أن يتعلمه هو أنه لا يمكن لمن دمّر الدولة أن يُكلّف بإعادة بنائها. ليس الغريب أن الشعب لم «يتعلم الدرس»، بل الغريب والعجيب أن هذه الطبقة السياسية لم تدرك بعد نصف قرن أنها غير قادرة على بناء الدولة».
ماذا يقول علم النفس؟
{الأخصائية النفسية ديالا عياني تحدثت عن الجانب النفسي لهذا الموضوع، تقول: «أحيانا كثيرة نعتقد أن الشخص عندما يقع في خطأ عليه أن يتعلم منه، لكن فعليا من السهل جدا على الإنسان أن يدخل في ذات الدوامة ونفس طريقة التفكير والتصرفات.
علم النفس يقول إنه يجب أن يكون هناك وعيا وإدراكا للأمور التي حصلت، كما يجب على الشخص أن يأخذ قرارا بالتغيير، أي أن يكون هناك مرونة في التغيير.
هناك أشخاص يعيدون المشاكل نفسها لأنهم لا يعرفون غيرها فهم تربّوا عليها، وبالتالي هم يعتقدون بأنها الطريقة الوحيدة فيكون تفكيرهم محدودا مما يجعلهم يعيدون نفس الأخطاء، وذلك نتيجة عدم التفكير بحلول أخرى وأيضا نتيجة التفكير «الأوتوماتيكي» الذي اعتادوا عليه.
هناك أشخاص يعيدون الخطأ نفسه لأنهم في اللاوعي الخاص بهم منذ صغرهم يكونون تابعين لسياسات معينة كما أنهم لا يعرفون أن يقرّروا عن أنفسهم، لذلك نراهم يسيرون وراء شخص معيّن ويعتبرونه المنقذ، وهم لا يستطيعون القيام بأي شيء من دونه.
وبالتالي هؤلاء من السهل أن يدخلوا مجدّدا بنفس المشاكل وأن يعيدوا نفس الأخطاء، ولكن الشخص الذي عايش الحرب وتأذّى منها، بعد أن أدرك مدى قساوتها قرّر أن في الحياة طرق أخرى، فمنهم من سافر لدول أخرى ومنهم من قرّر أن تكون حياته مختلفة ومنهم من يبحث على طرق جديدة للابتعاد عن العادات السيئة والتخلّي عنها.
هو بات يعلم أنه يستحق ويستطيع أن يكون لديه مستقبل أفضل، فيعود له التركيز ويدرك أن هناك بديلا فيحكّم عقله ويؤمن بالتغيير وبأنه يستحق ألا يدخل أو يدخل عائلته في الحروب وألا يعيد نفس الأخطاء.
طبعا، هذه المسألة تحتاج أحيانا الكثير من العمل على الذات، بالإضافة إلى ضرورة ترك العادات والعوامل السيئة واتخاذ القرار بعيش حياة أفضل».
المصدر: جريدة اللواء الالكترونية