كتب د. محمد مختار الشَنقيطي
الأتراك البيض والأتراك السود
تحدَّث الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في إفطار رسمي بالقصر الرئاسي في شهر رمضان المبارك عام 2015 إلى جمهور عريض من مواطنيه، فقال: “إن الأتراك البيض يصفونكم ويصفوننا بأننا زنوج أتراك (zenci Türk)، وأنا فخور بأني زنجي تركي”.
كما تحدث أردوغان مرة إلى الجمهور التركي قائلا: “في هذا البلد يوجد تمييز بين الأتراك البيض والأتراك السود، وأخوكم طيب (يقصد نفسه) ينتمي إلى الأتراك السود”، وكان أردوغان في بداية حكمه رئيسا لوزراء تركيا صرَّح عام 2002 بأن المسلمين المتدينين هم “سود تركيا”، ووصف نفسه في خطابات وتصريحات أخرى بأنه “تركي أسود” siyah Türk.
وربما تكون مصطلحات مثل “الأتراك البيض” و”الأتراك السود” غريبة على مسامع القراء العرب، لكنها ليست غريبة على الساحة السياسية التركية. وهي مصطلحات مهمة لإثراء الجدل الدائر حول العنصرية في تركيا هذه الأيام، وفهم العنصرية التي يعاني منها الأتراك أنفسهم في وطنهم، وهي أعمق جذوراً وأشدُّ رسوخاً من العنصرية
ضد العرب والأفغان والأفارقة وغيرهم.
وقد صدرت دراسات أكاديمية مهمة باللغة الإنجليزية عن ثنائية “الأتراك البيض” و”الأتراك السود”، منها دراسة الأكاديمية التركية صيدا دمير ألب: “الأتراك البِيض والأتراك السود:
الانشطارات العميقة وراء التناقض الإسلامي العلماني” الصادرة عام 2012، ودراسة الأكاديمي الألماني كريستوف رام: “ما وراء الأتراك السود والأتراك البِيض: رسالة النخب التركية الدائبة في تحضير مجتمع متنوع” الصادرة عام 2016، إضافة إلى دراسة المؤرخ التركي دوغان غوربينار: “المثقفون والأتراك البيض وأبناء الأرض: الحياة العقلية في الفكر التركي المحافظ” الصادرة عام 2018.
وفي هذا المقال نسعى إلى إيضاح جوانب من المعادلة الاجتماعية التركية، عسى أن يدرك القارئ العربي أن العنصرية والتعامل الاستعلائي في تركيا ليسا موجهين في الأصل ضد العرب أو غيرهم من المهاجرين، بل هما موجهان -قبل ذلك وبالدرجة الأولى- ضد القطاع المحافظ المتديِّن من المجتمع التركي، وأن لهذه الظاهرة جذورا تاريخية وبنيوية تتجاوز الأحداث السياسية العابرة.
وعسى أن يدرك المهاجر واللاجئ العربي في تركيا أن لديه حلفاء من الأتراك الذين عانوا من التهميش والتحيز من قبل، فيضع يده في أيديهم بدلا من الوقوع في مزالق التسطيح المخل، والتعميم المضر، باتهام تركيا كدولة أو الشعب التركي كله بالعنصرية.
لم يقصد أردوغان بطبيعة الحال ظاهرة التمييز على أساس اللون أو العرق حين تحدث عن “الأتراك البيض” و”الأتراك السود”، وإنما قصد بهذا التعبير المجازي نوعا آخر من العنصرية الثقافية والتمييز الاجتماعي، كثيرا ما عانى منه جمهور مواطني تركيا المعاصرة -أتراكا وأكرادا وعربا وغيرهم- على أيدي نخب علمانية متغرِّبة، تعامل مجتمعها المسلم بكثير من الازدراء والاستعلاء.
كما قصد أن يشبِّه هذه النخبة المتغرِّبة وتعاملها مع القطاع المتدين من الشعب التركي بالمعاملة العنصرية التي كان البيض الأوروبيون في الولايات المتحدة وجنوب أفريقيا يعاملون بها مواطنيهم من أصول أفريقية.
ترى الأستاذة صيدا دمير ألب أن المجتمع التركي المعاصر منشطر منذ تأسيس الجمهورية عام 1923 إلى “أتراك بيض” و”أتراك سود”. ذلك أن بعضا من النخب الحضرية المتغربة في تركيا -المعروفة بمصطلح “الأتراك البيض”- تصرُّ على الاستئثار بالسلطة والثروة، بل ترى أن ذلك هو الأمر الطبيعي الذي لا يجوز الاعتراض عليه، وتتعامل مع مجتمع العمق الأناضولي المحافظ باستعلاء واحتقار.
يسعى “الأتراك البيض” إلى التميز عن مجتمعهم المسلم العريض، في نمط الحياة والمظهر، وحتى في نبرات الحديث، و”كأنهم يعيشون في كانتون سويسري”، حسب تعبير صديقي الأستاذ كمال أوزتورك، الرئيس السابق لوكالة الأناضول للأنباء، وهم مرتبطون وجدانيا ومصلحيا بالغرب، ويكادون يخرجون من جلودهم ليصبحوا أوروبيين. ويتمسك هؤلاء بالزعم أنهم طبقة “متحضِّرة”، وأن من سواهم من أبناء المجتمع العريض همج أو أشباه همج.
تتركز نخبة “الأتراك البيض” تقليديا على سواحل الغربية للبلاد، مقابل المجتمع الأناضولي العميق في وسط البلاد الذي يشكل غالبية الشعب التركي وعمقه التاريخي، وهي تقليديا داعمة للجيش والحكم العسكري، وراضية بالتبعية الإستراتيجية للغرب.
كما أنها تستخدم سلاح التشهير والتحقير ضد مواطنيها الذين يتمسكون بهويتهم الدينية وقيمهم الاجتماعية الأصيلة.
وقد انتشرت مقالات صحفية خلال الأعوام الأولى من حكم حزب العدالة والتنمية تسخر من هؤلاء المواطنين المتدينين الذين “يلوِّثون” سواحل إسطنبول الجميلة، صحبة زوجاتهم المحجَّبات، وعاداتهم المستهجَنة في الأكل والشرب، حسب رؤية النخبة العلمانية المتغربة.
ووصفت إحدى الكاتبات بلغة عنصرية فجَّة ساحل إسطنبول بأنه “لا يشبه الجزيرة العربية فحسب، بل يشبه إثيوبيا أيضا”، وسخر نائب رئيس حزب الشعب الجمهوري المعارض من الرئيس أردوغان مرة قائلا إن أردوغان لا يحسن الرقص الأوروبي، مما يدل على سطحية النخب المتغربة الزائفة في تركيا، شأنها شأن النخب المتغربة الزائفة في العالم العربي.
لكن تطور الديمقراطية التركية خلال العقدين الأخيرين -بعد التيه السياسي والانقلابات العسكرية الموسمية التي تشبه الثورة المضادة العربية اليوم- فتح الباب للمجتمع الأناضولي العميق بقيمه الإسلامية العريقة ليزاحم النخب المتغربة على مغانم السلطة والثروة، ويرجع الفضل للرئيس أردوغان وحزب العدالة والتنمية في كسر هذا الاحتكار والاستعلاء.
فقد قاد أردوغان منذ وصوله إلى السلطة ما سمَّاه “ثورة صامتة” ضد النخب المتغربة المستعلية على مجتمعها، وفتح أبواب السلطة والثورة للجمهور العريض من المجتمع الأناضولي المحافظ العميق، وأوصل خدمات الدولة إلى كل بقعة من البلاد بعد أن كانت شبه محصورة في الحواضر الكبرى، بل في بعض أحيائها فقط.
مهما يكن من أمر، فإن حكم الرئيس أردوغان وحزب العدالة والتنمية أعاد شيئا من التوازن بين “الأتراك البيض” و”الأتراك السود”، وفتح الباب على مصراعيه للمجتمع التركي العريض لاستنقاذ دولته من أيدي النخب المتغربة العتيقة.
لكن سيطرة أردوغان وحزبه على القيادة السياسية لم يكسر شوكة “الأتراك البيض” الثقافية، وسطوتهم الإعلامية، وتمسكهم بحقهم “التاريخي” في احتكار صياغة الدولة والشعب على هواهم. والملاحَظ أنه كلما توسَّعت الديمقراطية التركية ونضجت، وشملت مزيدا من القطاعات الاجتماعية التي كانت مهمَّشة في الماضي، زادت عصبية “الأتراك البيض”، وتضاعف تعصُّبهم ضد الهوية الإسلامية والقيم الاجتماعية الإسلامية التي جلبت قطاعات اجتماعية عريضة إلى الحلبة، فزاحمتهم بالمناكب
وكسرت احتكارهم للسلطة والثروة والمكانة.
كما يُلاحظ أيضا أن نخب “الأتراك البيض” سعت في الأعوام الأخيرة إلى توسيع قاعدتها الاجتماعية بطريقة انتهازية، فتلونت بلون طائفي وعرقي، بعد هيمنة أبناء الأقليات على قيادة بعض أحزاب المعارضة الكبرى. فنشأ حلف بين “الأتراك البيض” من الكماليين التقليديين مع بعض أبناء الأقليات الدينية والقومية في تركيا، كما رأينا في الانتخابات الأخيرة، وأصبح عداء هذا الحلف للثقافة الإسلامية، واستعلاؤه على المجتمع الأناضولي التقليدي، موقفا طائفيا فجًّا، لكنه يتستر بستار القومية والعلمانية.
ويشبه الوضع التركي من هذه الزاوية بعض الظواهر في العالم العربي، حيث تكشَّفَ أن شعارات القومية والعلمانية غالبا ما تكون مجرد لُبوسٍ شفَّاف، تتستَّر وراءه الأقليات المدلَّلة، لتمتطي ظهر الأكثريات المغفَّلة.
كما يشبه أيضا تحالف النخب الزائفة المستعلية على مجتمعاتها في العالم العربي مع الاستبداد العسكري، لأنه يساعدها على تجميد الحراك في السُّلَّم الاجتماعي، واستمرار الاستئثار بالسلطة والثروة.
فإذا كان في تركيا “أتراك بيض” و”أتراك سود”، ففي الدول العربية “عرب بيض” و”عرب سود”. ولا أقصد اللون والعرق -رغم وجوده- وإنما أقصد المعنى السوسيولوجي، حيث تستأثر نخب زائفة متغربة بالسلطة والثروة في عدد من الدول العربية، وتحاصر بقية المجتمع بالفقر والقهر، بل وتعامله بازدراء واستعلاء، وتدعم الانقلابات العسكرية على الديمقراطية، وتستقوي بالقوى الخارجية لترسيخ سطوتها الداخلية.
أما عن تحوُّل النخب العلمانية المتغرِّبة في العالم العربي إلى التخندق الطائفي -كما يحدث الآن في تركيا- صيانةً لمغانمها غير الشرعية، فحدِّث ولا حرج. ويكفي إلقاء نظرة على ما يحدث في سوريا منذ نصف قرن لرؤية ذلك.
الغريب أن يتغافل بعض من كنا نحسن الظن بهم من أهل الفكر والنظر في تركيا عن مخاطر هذه الظواهر التي عانى منها جوارهم العربي مصائب وفظائع شنيعة.
فهذا الدكتور أحمد داود أوغلو -مثلاً- يصرِّح في مقابلة له مؤخرا مع مجلة “المجلة” قائلا: “دعمتُ كمال كليشدار أوغلو. هو علَوي كردي. أنا التركي السُّنِّي دعمتُه. أنا أنتمي إلى الغالبية لكنني دعمتُه، كي أقول إنني أدعم حقوق العلويين.
في العراق هناك رئيس وزراء شيعي ورئيس كردي.
في سوريا أيضا رئيس علوي”،
ولستُ أدري ما الذي وجدَه داود أوغلو جديراً بالاقتداء لدى السلطة الطائفية في العراق وسوريا اليوم؟ وهل يرضى لتركيا حال أي من البلدين الآن؟ أم أنه أصبح على كِبَرٍ معجبا بعلمانية حزب الشعب الجمهوري التي اضطهدت وهمَّشت الغالبية العظمى من الشعب التركي خلال القرن الماضي، واستقوت بالاستبداد العسكري والنفوذ الأجنبي على شعبها؟ لقد كان يكفي الدكتور داود أوغلو أن يقارن بين حال المواطن العلوي في تركيا مع حال المواطن السني في سوريا والعراق اليوم ليدرك عاقبة ما يلمِّح به.
كما أن حكم الرئيس أردوغان وحزب العدالة والتنمية صالح تركيا مع بيئتها الحضارية والتاريخية الطبيعية، بما فيها شعوب العالم العربي والإسلامي، التي طالما رسم لها “الأتراك البيض” صورة قاتمة، ونظروا إليه باستعلاء وازدراء، تماما مثلما فعلوا مع أبناء جلدتهم ووطنهم من “الأتراك السود”، أي الطبقات المتدينة والمحافظة من المجتمع التركي.
إن كل مجتمع بشري فيه مظاهر من العنصرية، لكن العنصرية تتشكَّل في كل مجتمع طبقا لمسار تاريخي خاص، وتتلون بمزاج ثقافي خاص.
فمن خصوصيات العنصرية في تركيا التي تميزها عن بعض أنماط العنصرية في الدول الغربية مثلا:
أولا: أنها عنصرية موجَّهة في الأصل إلى الداخل التركي، أقصد أنها عنصرية “الأتراك البيض” ضد “الأتراك السود”، قبل أن تكون عنصرية ضد العرب والأفغان والأفارقة وغيرهم، وليس يعني هذا أنها لا تستهدف بعض الشعوب غير التركية، لكنها في أصلها التكويني موجهة ضد الأتراك أنفسهم.
ثانيا: أن العنصرية في تركيا مظهر من مظاهر الصراع على مغانم السلطة والثروة والمكانة داخل أحشاء المجتمع التركي، كما أنها جزء من الصراع على هوية الدولة التركية ووجهتها الإستراتيجية وانتمائها الحضاري، قبل أن تكون صراعا مع العرب أو غيرهم من شعوب الجوار التركي.
ثالثا: أن المكاسب التي تحققت ضد العنصرية في تركيا خلال حكم الرئيس أردوغان وحزب العدالة والتنمية مكاسب عظيمة، فقد فتح هذا العهد أبواب السلطة والثروة أمام جمهور الشعب التركي العريض، وأعاد لتركيا انتماءها إلى الحضارة الإسلامية، بعد أن كادت تنسى تاريخ شعبها العريق تماهيًا مع الغرب.
رابعا: مع كل هذه المكاسب الداخلية والخارجية، لا تزال بعض نخب “الأتراك البيض” من النخبة المتغربة ذات سطوة في الحياة العامة، وهي متشبثة بمواقعها العتيقة. وكلما أحست هذه النخب بسحب البساط من تحت أقدامها زادت عصبيتها وردود أفعالها العنصرية المتشنجة.
خامسا: أن كون الرئيس أردوغان وفريقه يحكمون البلاد سياسيا، لا يعني أنهم متحكمون في الديناميكية الاجتماعية العميقة، أو قادرون على منع كل الحوادث العنصرية، فالديمقراطية التركية لا تزال تصارع من أجل البقاء، ولا يزال أمامها الكثير لتنجزه في هذا المضمار.
سادسا: أن القوى الطائفية الإقليمية التي هشَّمت العراق وسوريا، تسعى أيضا إلى تهشيم تركيا، من أجل كسب موطئ قدم إستراتيجي فيها، وكثير من مظاهر العنصرية في تركيا اليوم تغذِّيه قوى طائفية معروفة، تتستر وراء شعارات العلمانية والقومية وحقوق الإنسان.
سابعا: أن القوى الدولية الساعية إلى استمرار الهيمنة على المصائر الإستراتيجية في المنطقة تسعى جهدَها لتغذية التوتر الداخلي في بلدان المنطقة، وزرع البغضاء بين شعوبها، طبقا للحكمة البريطانية المشؤومة: “فرق تسد”. وهي تغذِّي كل نوازع العنصرية والشقاق في سبيل ذلك.
لا مسوغ للعنصرية تحت أي ظرف كان. ويجب رفض التمييز العنصري ضد اللغة العربية وضد العرب في تركيا، سواء كانوا مواطنين أو مهاجرين. هذا موقف أخلاقي وإنساني لا يحتاج تسويغا ولا تبريرا، والنقاش يجب أن ينحصر في الإستراتيجية المناسبة لوضعه موضع التنفيذ.
وبناء على ذلك نوصي المتابعين العرب لما يجري بتركيا بالآتي:
أولا: ينبغي الابتعاد عن لغة التعميم وانتهاك الأعراض الجماعية، مثل القول: “إن تركيا دولة عنصرية” أو “إن الشعب التركي شعب عنصري”. صحيح أنه توجد عنصرية في تركيا كما توجد في كل دول العالم، لكن الحديث عن ذلك بلغة تعميمية خطيئة أخلاقية وخطأ إستراتيجي.
ثانيا: ينتمي الرئيس أردوغان نفسه وفريقه الحكومي والحزبي إلى ذلك القطاع العريض من الشعب التركي الذي عانى سابقا من التمييز والتهميش داخل بلده، وعلى أيدي مواطنين من بني جلدته. فهم حليف أخلاقي وإستراتيجي للعرب ضد العنصرية والتمييز والتحيز.
ثالثا: إن قسما كبيرا من الشعب التركي حليف للعرب ضد العنصرية، وهؤلاء هم السواد الأعظم، والعمق الاجتماعي الذي ظل مهمَّشا طيلة القرن العشرين، ويجب مدُّ يد التعاون مع هؤلاء، بدل مساعدة العنصريين عليهم، بضمِّهم معهم في سلة واحدة، “فلا تعينوا الشيطان على أخيكم”.
رابعا: يجب ألا ننسى أن تركيا بقيادة أردوغان ضحَّت في دعم الشعوب العربية بعلاقاتها السياسية والاقتصادية مع عدة دكتاتوريات عربية لعَقْد من الزمان، واستقبلت ملايين العرب المهجَّرين من أوطانهم، فكفلت لهم العيش في أمان وحرية، بعد أن ضاقت بهم بلدانهم، واضطهدَتهم أوطانهم.
خامسا: أن تركيا بقيادة الرئيس أردوغان وقفت مع الثورة السورية ومع الثورات العربية في ساعة العُسرة، وبذلت ثمنا سياسيا واقتصاديا ودبلوماسيا باهظا، جرَّاء هذا الموقف المبدئي والإستراتيجي المنحاز لحرية الشعوب العربية وكرامتها، فلا يجوز نسيان ذلك لمجرد وجود تقصير اليوم هنا أو هناك.
سادسا: أن التقارب الأخير بين تركيا وعدد من الدول العربية مكسب إستراتيجي لمجمل الأمة يجب الحرص عليه، ومن الحكمة الفصل بين الخلاف السياسي داخل الدول ضمن سعي الشعوب للحرية والكرامة، والتناقض الإستراتيجي بين الدول، الذي هو دمار للأمة كلها، وفتح لأبوابها أمام كل عدوّ طارق.
سابعا: لا تبدو الإثارات العنصرية في تركيا مؤخرا بعيدة عن سعي بعض القوى الدولية إلى استمرار الانشطار الإستراتيجي في المنطقة، لكي تظل هذه المنطقة حزاما متصدعا مستباحا لمطامع القوى الدولية ومطامحها، كما بينتُه في دراستي الأخيرة “شروق الشرق وغروب الغرب” الصادرة مؤخرا بالعربية والتركية.
كلمة أخيرة بحق اللغة العربية: لا خوف على اللغة العربية في تركيا، فهي لغة باقية في الأناضول ما بقي فيه قارئ للقرآن، أو صادح بالأذان، فقد ظل الإسلام -وسيظل- درعا حصينة للغة العربية في تركيا وفي العالم الإسلامي كله.
وقد عبَّر عن ذلك الكاتب اللبناني الفرنسي أمين معلوف -وهو متحدِّر من أسرة مسيحية عربية تركية- في كتابه “الهويات القاتلة” فقال: “عندما نكون في آسيا الوسطى، ونصادف علَّامة عجوزا على عتبة مدرسة تيمورية، يكفي أن نتوجه إليه بالعربية ليشعر بالطمأنينة، ويتحدث من قلبه، مثلما لن يجازف أبداً بفعله بالروسية أو بالإنجليزية.”
خلاصة الأمر أن على المتابع العربي والمسلم المنفعل بحوادث العنصرية الأخيرة في تركيا ضد العرب والأفغان والأفارقة وغيرهم، أن يتسلح بفهم أدقَّ للديناميكيات الداخلية التركية، ومنها ثنائية “الأتراك البيض” و”الأتراك السود”.
من المهم جدا فهم التشكل التاريخي لظاهرة العنصرية في تركيا، ومنطقها الداخلي الموجَّه ضد السواد الأعظم من المواطنين الأتراك المسلمين أنفسهم، والتعامل معها بحاسَّة إستراتيجية واعية، والسعي إلى بناء تحالفات سياسية واجتماعية وثقافية عريضة في الداخل التركي ضد هذه العنصرية، بدلا من الانفعال والارتجال، وردود الفعل المتشنجة التي تضر ولا تنفع، وقد تزيد من تفاقم الظواهر السلبية بدل احتوائها.
المصدر : الجزيرة نت