الأصول الكلية في تحريم العنصرية
د. محمد نور حمدان
عضو الأمانة العامة لمنظمة متحدون ضد التعصب الطائفي
يعد داء العنصرية من أقدم الأمراض الموجودة في المجتمعات وأخطرها واليوم أصبحت العنصرية وسيلة للتفريق بين الشعوب، وكسب الأصوات السياسية على حساب اللاجئين. وتعد الشريعة الإسلامية سبّاقة في محاربة العنصرية حيث جاء الإسلام وكان أول شعار له أن الناس متساوون في أصل الخلق، فقد ساوى بين السيد والعبد، وبين الغني والفقير، وبين الرجل والمرأة، وأعلن أنه لا فضل لأحد على أحد إلا بما يقدم الفرد من أعمال صالحة مفيدة، وقد طبقت هذه المساواة بشكل عملي في مجتمع المدينة المنورة حيث أصبح بلال الحبشي، وسلمان الفارسي، وزيد بن حارثة، وغيرهم من العبيد والموالي سادة من سادات المدينة المنورة يُرجع لهم، ويؤخذ برأيهم، ولا فرق بينهم وبين عمر بن الخطاب، وأبي بكر الصديق، وعثمان بن عفان، وطبقت المساواة بين المهاجرين الذين هاجروا إلى المدينة المنورة، والأنصار حيث قاسمهم الأنصار أموالهم وبلادهم وأرضهم، فقدموا أروع مثال في المساواة ومحاربة العنصرية،
وقد وردت مجموعة من الأصول القطعية التي تؤكد على محاربة العنصرية، وسأبين في هذا المقال الأصول القطعية الأربعة التي جاءت بها الشريعة الإسلامية لمحاربة العنصرية والتمييز العنصري
أولاً- تقرير مبدأ المساواة في الإسلام
يقول تعالى: يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقۡنَٰكُم مِّن ذَكَر وَأُنثَىٰ وَجَعَلۡنَٰكُمۡ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْۚ إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَىٰكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِير. فقد قررت الشريعة الإسلامية مبدأ المساواة بين البشر؛ فالناس كلهم متساوون بطبيعتهم البشرية التي خلقهم الله عليها، ولا فضل لأحد على أحد؛ فجميع البشر عباد الله تعالى، والعبودية لله تعالى تقرر مبدأ المساواة إذ لو كانت العبودية لملك أو سلطان لكان هناك مزية ومنّة لهذا السلطان وسلالته على جميع البشر، لذلك كانت دعوة الأنبياء والرسل تركز على ترك عبادة العباد، وعبادة رب العباد، وتحريرهم من ظلم الملوك والأكاسرة إلى عدل الإسلام حتى لا يكون هناك فضل لأحد من العباد على غيرهم، فالخالق والرازق والشافي والنافع والضار هو الله تعالى، ولا يملك أحد من البشر هذه الأمور، ثم قررت الشريعة أن مبدأ التفاضل بين البشر هو تقوى الله عزوجل، والخوف منه وعبادته، وليس اللون (أبيض/أسود/أحمر)، أو الجنس (ذكر/أنثى)، أو العرق (عربي/تركي/ كردي)، أو اللسان (عربي/أعجمي) وهذه المبادئ القرآنية جاء بها الإسلام منذ أربعة عشر قرناً حرر بها العباد من كافة أشكال وألوان التمييز العنصري، وهذا كان سبباً رئيساً لامتناع زعماء قريش عن دعوة الإسلام.
وقد أكد ذلك صلى الله عليه وسلم في خطبته عن أبي نضرة، حدثني من سمع خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في وسط أيام التشريق فقال: ” يا أيها الناس، ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا أحمر على أسود، ولا أسود على أحمر، إلا بالتقوى أبلغت “، قالوا: بلغ رسول الله، ثم قال: ” أي يوم هذا؟ “، قالوا: يوم حرام، ثم قال: ” أي شهر هذا؟ “، قالوا: شهر حرام، قال: ثم قال: ” أي بلد هذا؟ “، قالوا بلد حرام، قال: ” فإن الله قد حرم بينكم دماءكم وأموالكم ” ـ قال: ولا أدري قال: أو أعراضكم، أم لا ـ كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا أبلغت “، قالوا: بلغ رسول الله، قال: ” ليبلغ الشاهد الغائب “.
فقد قرر الرسول صلى الله عليه وسلم مجموعة من مبادئ حقوق الإنسان في هذه الخطبة وهذه المبادئ كفيلة بالقضاء على التمييز العنصري وهي:
- تقرير مبدأ العبودية لله وحده، ولا عبودية لأحد على أحد من البشر.
- التأكيد على المساواة بين الأعراق بين العرب وغيرهم حتى لا يتوهم أحد أن العرب أفضل من غيرهم على اعتبار أن القرآن نزل بلغتهم.
- التأكيد على المساواة بين الألوان حتى لا يتوهم أحد أن الأبيض أفضل من الأسود.
ثانياً- تقرير مبدأ العدل
مبدأ العدل يقتضي تقرير الحقوق والواجبات لجميع الناس بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية والعرقية والقبلية والجنسية واللونية، فجميع البشر لهم حقوق وعليهم واجبات، ومن يعتدِ على غيره يُقدم للمحاسبة وينال جزاءه، وهذا ما قررته الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وأعمال الخلفاء الراشدين.
يقول تعالى: يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّٰمِينَ لِلَّهِ شُهَدَآءَ بِٱلۡقِسۡطِۖ وَلَا يَجۡرِمَنَّكُمۡ شَنَـَٔانُ قَوۡمٍ عَلَىٰٓ أَلَّا تَعۡدِلُواْۚ ٱعۡدِلُواْ هُوَ أَقۡرَبُ لِلتَّقۡوَىٰۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرُۢ بِمَا تَعۡمَلُونَ. فقد أمر الله تعالى بالعدل حتى مع الأعداء يقول البيضاوي:” والمعنى لا يحملنكم شدة بغضكم للمشركين على ترك العدل فيهم فتعتدوا عليهم بارتكاب ما لا يحل، كمُثلة وقذف وقتل نساء وصبية، ونقض عهد تشفياً مما في قلوبكم. اعدلوا هو أقرب للتقوى أي العدل أقرب للتقوى صرح لهم بالأمر بالعدل، وبيّن أنه بمكان من التقوى بعد ما نهاهم عن الجور وبيّن أنه مقتضى الهوى، وإذا كان هذا للعدل مع الكفار فما ظنك بالعدل مع المؤمنين”.
والعدل يقتضي إيقاع العقوبة على جميع المخالفين دون استثناء، أو محاباة أو تمييز عنصري، وقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم ذلك عن عائشة رضي الله عنها أن قريشاً أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت؛ فقالوا: ومن يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد، حب رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه أسامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” أتشفع في حد من حدود الله، ثم قام فاختطب، ثم قال: إنما أهلك الذين قبلكم، أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها “.
وهذا ما أكد عليه الخلفاء الراشدون في تطبيق العدل على جميع الناس دون تمييز في دبن، أو حسب، أو نسب، أو عرق كما في القصة المشهورة بين المصري وفي بعض الروايات القبطي، وأمير مصر عمرو بن العاص عن أنس رضي الله عنه أن رجلاً من أهل مصر أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: يا أمير المؤمنين عائذ بك من الظلم. قال: عذتَ معَاذاً. قال: سابقت ابن عمرو بن العاص فسبقته، فجعل يضربني بالسوط ويقول: أنا ابن الأكرمين. فكتب عمر إلى عمرو – رضي الله عنهما – يأمره بالقدوم ويقدَم بابنه معه. فقدم فقال عمر: أين المصري؟ خذ السوط ضرب. فجعل يضربه بالسوط ويقول عمر: اضرب ابن الألأمَينْ. قال أنس: فضرب والله لقد ضربه ونحن نحب ضربه؛ فلما أقلع عنه حتى تمنينا أنه يرفع عنه. ثم قال للمصري: ضَعْ على صلعة عمرو. فقال: يا أمير المؤمنين إِنّما ابنه الذي ضربني وقد استَقَدْت منه. فقال عمر لعمرو؛ مذ كم تعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟ قال: يا أمير المؤمنين لم أعلم ولم يأتني.
فهذه الحادثة مثال في القضاء على العنصرية والتمييز العنصري، فسيدنا عمر بن الخطاب اقتص من ابن الأمير بالرغم من وجود الفوارق الدينية والعرقية، والمكانة حتى أصبح شعار (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراَ) شعاراً عالمياً لحقوق الإنسان ورمزاً للقضاء على العبودية، والتمييز العنصري في وقت كانت ترزح فيه البشرية تحت نير العبودية والرق.
ثالثاً- تقرير مبدأ الكرامة الإنسانية
لقد كرم الله جل جلاله الإنسان وميّزه عن باقي مخلوقاته فقد قال تعالى: وَلَقَدۡ كَرَّمۡنَا بَنِيٓ ءَادَمَ وَحَمَلۡنَٰهُمۡ فِي ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِ وَرَزَقۡنَٰهُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَفَضَّلۡنَٰهُمۡ عَلَىٰ كَثِير مِّمَّنۡ خَلَقۡنَا تَفۡضِيلاً. فقد كرم الله سبحانه وتعالى الإنسان بوجوه كثيره من الإكرام يقول البيضاوي: “ولقد كرمنا بني آدم بحسن الصورة، والمزاج الأعدل، واعتدال القامة، والتمييز بالعقل، والإفهام بالنطق، والإشارة والخط والتهدي، أو أسباب المعاش والمعاد والتسلط على ما في الأرض والتمكن من الصناعات، وانسياق الأسباب والمسببات العلوية والسفلية إلى ما يعود عليهم بالمنافع إلى غير ذلك مما يقف الحصر دون إحصائه، وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً بالغلبة والاستيلاء أو بالشرف والكرامة”.
وأمر الله تعالى الملائكة بالسجود لآدم تكريماً له فقال تعالى: وَلَقَدۡ خَلَقۡنَٰكُمۡ ثُمَّ صَوَّرۡنَٰكُمۡ ثُمَّ قُلۡنَا لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ ٱسۡجُدُواْ لِأٓدَمَ فَسَجَدُوٓاْ إِلَّآ إِبۡلِيسَ لَمۡ يَكُن مِّنَ ٱلسَّٰجِدِينَ .
ومن تكريم الله للإنسان أن الله نفخ فيه من روحه فقال تعالى: وإِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ إِنِّي خَٰلِقُۢ بَشَراً مِّن طِين ٧١ فَإِذَا سَوَّيۡتُهُۥ وَنَفَخۡتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُۥ سَٰجِدِينَ ٧٢ فَسَجَدَ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ كُلُّهُمۡ أَجۡمَعُونَ ٧٣ إِلَّآ إِبۡلِيسَ ٱسۡتَكۡبَرَ وَكَانَ مِنَ ٱلۡكَٰفِرِينَ.
فالإنسان مخلوق مكرم عند الله سبحانه وتعالى لأنه إنسان بغض النظر عن لونه وعرقه وجنسه وجنسيته، وبناء على تكريم الله للإنسان لا يجوز إهدار دمه وماله وعرضه، ولا يجوز إهانته والاستخفاف والاستهزاء به، ولا يجوز استعباده وإذلاله.
رابعاً- تقرير مبدأ الاختلاف الفطري بين البشر.
الاختلاف بين البشر أمر طبيعي فطر الله الخلق عليه فقد خلق الله تعالى العربي والعجمي، والأسود والأبيض، والأحمر والأصفر، والذكر والأنثى، وقد كان هذا التنوع دليلاً على قدرة الله في الخلق، وعظمته وقد أشار الله تعالى إلى ذلك في الآية الكريمة فقال تعالى: وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦ خَلۡقُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱخۡتِلَٰفُ أَلۡسِنَتِكُمۡ وَأَلۡوَٰنِكُمۡۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰت لِّلۡعَٰلِمِينَ.
يقول النسفي:” اختلاف ألسنتكم أي اللغات أو أجناس النطق وأشكاله {وألوانكم} كالسواد والبياض وغيرهما ولاختلاف ذلك وقع التعارف وإلا فلو تشاكلت واتفقت لوقع التجاهل والالتباس ولتعطلت المصالح وفي ذلك آية بينة حيث ولدوا من أب واحد وهم على الكثرة التي لا يعلمها إلا الله متفاوتون”.
وبما أن الله قد جعل الاختلاف بين البشر أمراً فطرياً وطبيعياً، فيجب على الإنسان أن يحترم هذا الاختلاف والتنوع، ولا يسعى لاحتقار أخيه الإنسان بسبب لونه أو لغته أو عرقه أو جنسه، وبثقافة الاختلاف قدّم الصحابة في المدينة المنورة نموذجاً رائعاً للتعايش بالرغم من وجود الاختلافات الدينية (مسلمون/ مشركون/ أهل كتاب)، والاختلافات القبلية (أوس/ خزرج/ قريش/ قبائل يهودية)، والاختلافات العرقية (عرب/ عجم)، والاختلافات اللونية (أبيض/ أسود) فقد كان بلال الحبشي مؤذن المدينة المنورة وقد كان أسوداً، وقال صلى الله عليه وسلم عن سلمان (سلمان منا أهل البيت) وقد كان مولى فارسياً، وقاد زيد بن حارثة المعارك وقد كان مولى، وبتلك الثقافة قدم المسلمون أروع نموذج للمجتمع الجديد، وفتحوا البلاد، ودخل كثير من العجم والفرس إلى الإسلام فقد وجدوا أن الإسلام يحمي حقوقهم دون تمييز بين العرب والعجم والفرس، وظهر منهم علماء كثيرون حافظوا على الإسلام وثقافته كالبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وأبو داود وابن ماجه والغزالي رحمهم الله جميعاً.
وبذلك نجد أن الشريعة الإسلامية من خلال تقرير هذه المبادئ استطاعت القضاء على العنصرية والتمييز العنصري في المجتمع وخير شاهد على ذلك مجتمع المدينة النورة حيث استطاع الرسول صلى الله عليه وسلم أن يوجد شكلا من أشكال الانسجام المجتمعي بالرغم من الاختلافات الكثيرة الموجودة في هذا المجتمع القائمة على النسب واللون والعشيرة والقبيلة فكان هذا المجتمع هو نواة لتأسيس أكبر حضارة في ذلك الوقت امتدت لمشارق الأرض ومغاربها واستطاعت أن تفتح البلاد ونخلص أهلها من نير العبودية والعنصرية التي عانت منه البشرية آلاف السنين.