التوطئة الأخلاقية للتعصب والتطرف والكراهية
حسام شاكر
ما الذي حرّك الاعتداء الأرعن على لوحات شهيرة، محروسة بعناية فائقة في أروقة متحفية يقصدها الجمهور من أنحاء المعمورة؟ ثمّة تساؤلات عن دوافع غارات الإتلاف بالأصباغ التي استهدفت أعمالاً فنية باهرة لا تُقدّر بثمن بدءاً من سنة 2022، ومن شأن تمحيص هذه البواعث أن يفتح العيون على مفعول التوطئة الأخلاقية التي تتّخذها بعض مسالك التعصّب والتطرّف والكراهية.
لا مناص من الاعتراف بأنّ هذا السلوك المتطرِّف الذي تعاقب على بعض المتاحف ودور العرض انطلق من باعث يبدو نبيلاً في أصله، مفاده أنّ عبث البشر بالكوكب يدفع إلى هاوية محتومة ويهدِّد فرص الأجيال المقبلة في البقاء. ستفقد الأعمال الفنية قيمتها لا محالة إن هلك البشر في غدهم وصرنا نحن “الجيل الأخير” على ظهر البسيطة، حسب المقولات عينها، فما حاجتنا بلوحات فنية أخّاذة إن أوشكت الكارثة على الوقوع من حولنا؟ ينبغي على القوم الذين اكتشفوا المآلات العدمية المحدقة بالأرض أن يتصرّفوا قبل فوات الأوان، كما يفعل بعض من تتملّكهم نزعات اصطفائية معيّنة، فعليهم الإقدام على قرع النواقيس ومباشرة خطوات مؤلمة لتنبيه الغافلين إلى ما ينبغي أن يستشرفوه من خطر ماحق لا يُبقي ولا يذر. يتطلّب هذا المسعى إبلاغ رسالة تحذيرية صريحة وصادمة عبر تشويه لوحات شهيرة مثلاً، أو عبر قطع الطريق كل صباح بأساليب مبتكرة وتعطيل حركة السير في ذروتها، ذلك أنّ “الكوكب الميّت في الغد لن تكون فيه أعمال أساساً”. يأتي هذا كلّه بغية استدراج القوم إلى التفكير بمخاطر محدقة بعالمهم من خلال انتهاج أساليب متطرفة تبدو مبرِّرة بالنسبة لمن يرضخون لهذا المنطق.
يتجلّى الاعتداء الهمجي على التراث الفني الإنساني مثالاً نموذجياً على أنّ التعصّب والتطرّف قد ينطلقان من دوافع نبيلة في منابتها، أو لعلّها تبدو كذلك، حتى عندما يكون ضحايا هذا السلوك بشراً تُحَزّ رؤوسهم بدلاً من لوحات شهيرة يُبتغى إتلافُها. ذلك أنّ الفكرة التي تبدو نبيلة في أذهان حامليها قد تتفاعل وتتضخّم في بعض الأفهام والخطابات إلى حدّ يهدِّد بسحق ما في طريقها من قِيَم ومبادئ والتزامات واعتبارات؛ ستتقزّم في عيون من يرضخون لهذا المنحى في التفكير الجامح الذي يعطِّل عمل الوازع المبدئي السليم والضمير الأخلاقي السويّ.
تتجلّى هذه العِظة في المجالات كافّة، ومنها أنّ مسالك متطرِّفة متمركزة حول الأنثى، ضمن مدارس فيمنية (الفيمنستية) معيّنة، انطلقت في الأساس من باعث نبيل هو نبذ الإساءة إلى النساء والفتيات وتصويب مظالم واقعة عليهنّ، فتضخّمت الفكرة الوجيهة في أصلها إلى ما يُوحي بتذكير الشرّ وتأنيث الخير، أو بنبذ الرجال وشيطنتهم عموماً، ما أغرى بعضهنّ بالإقدام على أنماط متعدِّدة من السلوك المتطرِّف إلى حدّ الاستفزاز والاعتداء أحياناً؛ كما فعلت فتيات جماعة “فيمن” المتطرِّفة مثلاً لا حصراً. نشأ تقليد آخر في هذا الاتجاه، يتمثّل في الردّ على سلوك التحرّش الشائن بحقّ نساء وفتيات بسلوك متطرِّف مضادّ يتمثّل باستعراض الجسد العاري في موقف تحدٍّ واستفزاز في ميدان عام، كما جرى في وقائع معيّنة لا حاجة في هذا المقام لسردها. وجدت هذه التصرّفات الصادمة والمتطرِّفة من عكف على التنظير لها ابتداءً والتحريض عليها انتهاءً، كما وجدت أعمال بشعة وفرة من التقريرات النظرية المحبوكة أو التسويغات الدينية الملفّقة حسب مرجعية كلّ أمّة أو مجتمع أو فريق أو مرحلة.
قد تبدو فكرة تأسيسية معيّنة وجيهة حقّاً عندما تنتصب في مواجهة فكرة ذميمة أو نهج متطرِّف أو سلوك شائن، فينتهي بها الحال في بعض الأفهام والخطابات والتطببقات إلى تطرّف مقابل ونزعة كراهية مضادّة؛ مثل حال العنصرية السمراء التى تحرّكت في بعض البيئات استناداً إلى خبرات مريرة وتجارب صادمة مع عنصرية بيضاء مارست الاستعباد والاستغلال والمطاردة أحقاباً مديدة. هذا ما أدركه الحاج مالك الشبّاز، أو “مالكوم إكس”، عندما باشر نهجاً تصحيحياً في بيئته الأمريكية تجرّد معه من التعصّب السابق للبشرة السمراء بعد أن خاض تجربة معايشة فريدة بين البشر المتآخين على اختلاف ألسنتهم وألوانهم أتاحتها له رحلة الحجّ إلى مكّة المكرّمة.
ومن واقع الحال أنّ بعض التعصّب القومي أو السلالي إنّما تحرّك تحت وطأة الإحساس بالحيْف والاستغلال من تعصّب قومي أو سلالي مقابل، وأنّ من عادة الكراهية الطائفية أن تبرِّر ذاتها لدى كلّ فريق بخطابات الغُلاة والمتطرِّفين من الفريق الآخر، فيتذرّع كلّ خندق بغلوّ الخندق المقابل لتسويغ غلوِّه الذاتي.
تفرض خبرات البشر هذه توخِّي الحذر، كلّ الحذر، من إطلاق العنان لفكرة تبدو نبيلة في أصلها فتنفلت من عقالها وتتضّخم في أفهام قاصرة وتهيمن على خطابات متعصِّبة وتصير في علوِّها وغلوِّها مبرِّراً لتجاوز الحدود واقتراف الموبقات.
يرشدنا واقع الاجتماع الإنساني إلى أنّ الانحراف الفردي قد يتّخذ له عند الوالغين فيه مبرِّرات شريفة في ظاهرها، حتى عندما يبلغ حدّ الإجهاز على الحياة أو ارتكاب جرائم بشعة، فلسان أحدهم في هذا المقام هو: “جعلوني مُجرماً”، التي تُحَمِّل آخرين مسؤولية عمّا اقترفته يداه. يتّخذ هذا المنحى أبعاداً أكبر في مسالك الجماعات والأمم والأنظمة والدول، عبر تسويغ الكراهية والتعصّب والعنصرية والبغي بمبرِّرات قد تبدو صائبة في عيون أصحابها وهي لا تعدو أن تكون مراوغة خطابية لا أكثر في واقع الاستعمال السياسي مثلاً، كأن تلجأ إلى لوْم الضحايا أو البحث عن مشجب جاهز لتعليق معضلات الواقع عليه. فمن عادة البشر أن يتّخذوا من قيم نبيلة ومبادئ سامية وأحكام مُستساغة ذرائع لاقتراف تجاوزات وانتهاكات وتعدِّيات؛ قد تبلغ حدّ مباشرة العدوان وشنّ الحرب وارتكاب الفظائع، وهكذا يفعلون.
للتوطئة المبدئية والقيمية والأخلاقية وظائف تتحرّاها بعض الخطابات في شحن الجمهور وترويج الكراهية واستمراء التعصّب. لا تقتصر هذه الخطابات على اجتذاب مرضى النفوس، فالحيلة المألوفة تستقطب بعض أصحاب الدوافع النبيلة والنوايا الحسنة ابتداءً، عبر استدراج أذهانهم واستمالة وجدانهم وتعطيل روح التمحيص والحسّ النقدي لديهم.
لا تزهد بعض هذه المسالك بفنون غسيل الأدمغة التي تستدعي مبرِّراً يبدو وجبهاً أو فكرة تُعَدّ صائبة، ثم تباشر تضخيم ذلك بلا هوادة في إدراك ضحية ترضخ لهذا التلاعب الفجّ دون دراية منها بما يُستعمَل معها أو دون استشراف الهاوية التي يُمسَك بخطامها نحوها. لا عجب، بالتالي، في أنّ أشهر واقعة انتحار جماعي في العصر الحديث نشأت في بواكيرها مع خطابات إنسانية وأخلاقية، عندما برز المتحدث البارع جيم جونز وشكّل طائفته المهووسة “معبد الشعوب”، ثمّ انتهت الفرقة إلى خضوع أتباعه من الرجال والنساء له بشكل مطلق، إلى أن رضح أكثر من تسعمائة شخص طوعاً لأمره الصارم بالانتحار الجماعي في واقعة شهيرة هزّت العالم سنة 1978.
ومن سمات التفكير المتطرِّف، أن يعزل إدراك الجزئيات عن تشابكاتها وملابساتها، فيقوده انشغاله بها إلى إغفال ما لا يصحّ تجاهله، فتتضخّم بعض المعطيات والأبعاد، التي قد تكون صائبة في أصلها، بصفة تفوق الحدّ، وقد يتجلّى أثرها من بعد في سلوك جامح انعقدت له هذه المقدِّمات. تُذكي بعض الخطابات التجزيئية هذا المنحى عندما تتقدّم باهتمامات معيّنة، قد تكون صائبة في أصلها، إلى مصافّ الأولويات المتصدِّرة التي تزيح ما عداها بغير وجه حقّ، فتؤدِّي بأصحابها إلى اختلال في النظر واضطراب في التقدير.
وقد تنعقد الحبكة المتطرِّفة حول خبرة ذاتية مخصوصة، قد تكون مؤلمة أو صادمة بحقّ، فتتفاقم المرارة في وجدان صاحبها أو في وسطها المجتمعي أو في نطاق أمّتها، فتحرِّض هؤلاء وهؤلاء على رؤية الواقع عموماً من ثقب إبرة موضعية يعجزون عن إبصار العالم أو تفسير الأحداث بمعزل عنها. هذا ما تفعله عقدة المحنة أو المظلومية ببعض من تستبدّ بهم، وقد تستدرج بعض أولئك المكلومين أو من يتذرّعون بالانتساب إليهم؛ إلى اقتراف مظالم جسيمة يرون الإقدام عليها خياراً مشروعاً أو جزاءً وفاقاً.
غاية القول أنّ بعض الانحراف يبدأ بحسن نيّة، وأنّ بعض الانجراف محفوف بسلامة مقصد، وإن على سبيل الادعاء الزائف والمراوغة الخطابية، ثمّ نكتشف مع بلوغ المآلات الجسيمة أنّ تشويه عمل فنيّ شهير في قاعة متحفية يبقى خسارة هيِّنة للغاية قياساً بما تجرّه بعض المسالك المتطرِّفة على هذا المنوال من خسائر كبرى في واقع المجتمعات ودنيا الأمم.