كتب حسام شاكر – عضو هيئة عامة في منظمة متحدون:
حشود من البشر المحجوبين عن الأضواء، واكبوا “المونديال” من مخيّمات اللجوء والنزوح في أرجاء متعددة من العالم العربي، وتابعوا الكرة المتدحرجة على المستطيل الأخضر وهم يفتقرون إلى الحدّ الأدنى من مواصفات العيش الإنساني. قدّمت قنوات متلفزة إطلالات حيّة على حالات التشجيع الكروي هذه، التي تعلّقت بأضواء الملاعب الساطعة وألوانها الأخّاذة ومعزوفاتها البهيجة، بينما يقبع هؤلاء المأخوذون بالموسم الكروي في عزلة عن الحواضر الحديثة وحياتها الصاخبة. وحدها الشاشات التي يتحلّقون حولها في جوف خيام كبيرة أو في عراء لا يسترهم، كما في الشمال السوري أو مناطق معيّنة في العراق أو مخيمات بائسة في لبنان أو نظيرتها في قطاع غزة، مثلاً لا حصراً، ما يُضيء ليْلَهم ويذهب بهم بعيداً عن شحوب واقعهم.
يستحقّ “مونديال العرب” الأوّل أن يكون فرصة لإعادة اكتشاف معاناة النزوج واللجوء التي يتجرّع مراراتها ملايين البشر في هذه الرقعة من العالم التي استقطبت الأضواء في شهر المنافسة الكروية الأبرز، وملاحظة مدى التبايُن الجسيم في أحوال الناس في هذه المنطقة؛ بين حواضر حديثة تتلألأ أنوارها في الأعالي وبقاع غارقة في أوحال المواسم وشظف العيش وبؤس النزوح.
لم يفارق هؤلاء ديارهم طوْعاً، ولم تصنع مأساتهم المديدة نكبات طبيعية أو كوارث مناخية؛ فخلف الحالة المتفاقمة صراعات وحروب ووقائع احتلال تخلّلتها عمليات تهجير قسري؛ اقتُرِف بعضها بطرائق منهجية دؤوبة، اقتضت نسْج خطابات كراهية وتحريض ابتداءً لأجل تسويغ الإقدام عليها.
شهدت بلدان عربية إزاحات سكّانية قسرية، وهذا تعبير ملطّف على أيّ حال، عن وقائع التهجير التي أعملت سكينها في نسيج المنطقة، وما تخلّلته مِن وقائع جسيمة وإن لم تُدرَك بعض فظائعها أحياناً. تسعى سياسات التهجير التي تقوم بها سلطات احتلال أو حملات غزو أو أنظمة طغيان أو تشكيلات ميدانية، إلى إخلاء مناطق تشتمل على أصول عقارية ومصالح إنتاجية واقتصادية، تكون بحدّ ذاتها جاذبة لإحلال بديل قد يسعى إلى التمسّك بها وربما طمس أثر مَن سبقوا إليها، ويقتضي هذا المسعى ولوغاً في أساليب الترهيب والترويع، مع اللجوء إلى القتل الجماعي وارتكاب الفظائع إن تطلّب الموقف ذلك، وقد يقع هذا عبر التضييق المنهجي وسلب فرص الحياة الأساسية والتحصّن بأدوات قانونية “هادئة” لشرعنة الجوْر بحقّ الأهالي خطوة خطوة، سعياً إلى دفعهم بعيداً عن أرضهم وديارهم ومنعهم من الاقتراب منها لاحقاً.
لا غنى لمسعى التهجير القسري عن إنضاج ثقافة تبرير السيطرة، التي تقوم مثلاً على ادِّعاء أحقِّيّة تاريخيّة بالمكان والأملاك، مع افتعال حكايات وإحياء أساطير وتأويل التاريخ وتوظيف النصوص الثقافية والدينية على نحو يتواطأ مع هذا المسعى، كما يتجلّى في الاستيطان الصهيوني الذي يظلّ شاهداً جليّاً على هذا المنحى.
يتطلّب الأمر شحنات من العنصرية والازدراء والكراهية، التي تبلغ ذروتها في إنكار وجود شعب مُعيّن من أساسه، أو بإنكار نسبة مكوِّن سكاني إلى وطنه، وشواهد هذا حاضرة في حالات شتّى منها محنة الروهنغيا الذين تُصِرّ سلطات ميانمار، عبر دعايتها التحريضية الدؤوبة ضدّهم، على نفي انتمائهم إلى البلد أساساً. وقد يُنسَج في سبيل ذلك خطاب تاريخيّ ثأريّ على أساس إثنيّ أو طائفيّ لتبرير هذا المسلك. وقد يذهب التلفيق إلى اعتبار السيطرة على الأرض والعقارات والموارد بعد التهجير حقّاً مُكتسباً بمقتضى أحداث الصِّراع، فتُعدّ “غنيمة حرب” أو “جزاءً عادلاً” لقاء ما يُنزل على المُكوِّن السكاني المهجّر من اتِّهامات لا تُتاح فرصة ترافع ضدّها؛ من قبيل اعتبار هؤلاء المهجّرين حاضنة شعبية للخصم أو “العدوّ”. وقد يُلجَأ إلى تبرير ذلك بذريعة “اتفاقات” مُبرَمة ضمن مساعي التهدئة الميدانية، تأتي غالباً ضمن ملابسات مُجحِفة أو مشكوك بسلامتها. وقد يُعدّ التهجير القسري جزاءً وفاقاً؛ فيُجترأ على اقترافه بذرائع انتقامية لقاءَ ما عانته مكوِّنات سكانية أخرى، أو بفعل “تبادل سكانيّ” أو غير ذلك من الذرائع.
ومن أحابيل التهجير والسيطرة والإحلال نسْجُ حجج ومقولات ذات طابع تبريري؛ من قبيل الزعم بأنّ هؤلاء السكان “غادروا مناطقهم طواعية ولا يرغبون بالعودة إليها”، أو ادِّعاء أنّ المهجّرين إنّما “تنازلوا عنها”، أو افتراض أنهم “سلّموا بالأمر الواقع”، دون منحهم فرصة تعبير عن موقفهم الحقيقي بطبيعة الحال.
تُمعن خطابات تبرير التهجير والسيطرة والإحلال في إذكاء نزعة “لوْم الضحيّة”، وتتحرّى في هذا وظائف دعائية مركّبة، فهي تُحمِّل المُهجَّرين قسرياً المسؤولية عن المآسي التي نزلت بهم؛ وتتيح في المقابل طمأنة ذاتيّة للقائمين على الإخلاء القسري وللمستفيدين من عمليات الإحلال السكاني بعد التهجير كي لا ينتابهم تأنيب ضمير، ومن شأن هذا أن يخدم مسعى شرعنة المسلك واستدامة نتائجه. وقد يُلجأ إلى شرعنة هذا المسلك قانونياً من خلال حزمة قوانين ومراسيم وإجراءات، أو بإعمال أعراف تُناهز في أثرها مفعول القانون؛ على نحو يتحرّى تثبيت السيطرة الإحلاليّة على ديار المهجّرين.
من المألوف أن تجري مساعٍ لطمس الأحقِّيّة القانونيّة والتاريخيّة في الأصول والموارد، وهو جهد يقوم على نفي أحقِّيّة المُهجّرين بالمكان وأصوله وموارده. وقد يقع التهجير أساساً بناء على حزمة خطوات وإجراءات، مسبوقة بخطابات تحريض وكراهية؛ من بينها سلْب الأحقية القانونية أو سنّ قوانين تمييزية في الملكيات العقارية مثلاً، مثل قوانين التملّك الآري في العهد النازي، التي دفعت الملاّك اليهود إلى بيع عقاراتهم وشركاتهم بثمن بخس لدفعهم إلى الرحيل عن أوطانهم الأوروبية المعنيّة، وبعض “مراسيم بينيش” في تشيكوسلوفاكيا التي نزعت المواطنة والملكيات العقارية من الأقليّتين الألمانية والمجرية علاوة على من يُصنّفون بالخونة والأعداء بالنظر إلى التعامل مع الاحتلال النازي خلال الحرب العالمية الثانية. ولا تغيب عن مركز العالم العربي والإسلامي سابقة جسيمة ما زالت تتجدّد حتى اليوم؛ تتمثّل بقوانين وإجراءات متلاحقة تفرضها سلطات الاحتلال على المواطنين الفلسطينيين ابتغاء تكريس حالة “التطهير العرقي” كما في “قانون أملاك الغائبين” مثلاً الذي أصدرته دولة الاحتلال سنة 1950 بعد النكبة الفلسطينية، وكما يتجلّى في تعقيد فرص الحصول على رخص البناء لأهالي القدس الفلسطينيين منذ سنة 1967 على نحو يضطرّهم إلى بناء مساكن دون ترخيص فيقع هدمها بالتالي، بصفة من شأنها التضييق على سُبُل المقدسيين في العيش ودفعهم إلى مغادرة ديارهم المحتلّة.
لا ريْب أنّ خطابات شرعنة التهجير والإحلال، وكذلك المسوِّغات القانونية والعرفية في سبيل ذلك؛ هي من التحدِّيات الجسيمة التي تحول دون رتق النسيج المجتمعي بعد تمزيقه وإعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل التهجير. فهذه الخطابات المدفوعة غالباً بالازدراء والكراهية والعنصرية والتعصّب الطائفي، وكذلك مساعي الشرعنة والاستدامة المصاحبة لها؛ تتضافر في اتجاه يسعى إلى تثبيت واقع التهجير والإحلال ومنع الاستدراك عليه أو معالجته عكسياً.
تسعى مكوِّنات الإحلال والاستيطان البديل، خلال ذلك، إلى تكريس الحالة الاستغلالية التي تأتّت لها عبر التهجير القسري باستغلال الأصول والموارد التي تعود في أصلها للسكان المهجّرين؛ وهكذا تصير الوقائع الجديدة وشبكات المصالح التي نشأت بناء عليها، عائقاً جسيماً يحول دون إعادة الأمور إلى نصابها من جديد أو تمكين المهجّرين من استرداد حقوقهم في أرضهم وديارهم.
لا يقضي هذا كلّه بالرّضوخ لمنطق التهجير والسيطرة والإحلال، ولمسعاه في ضمان استدامة الأحوال الجائرة التي ترتّبت عليه، ومن العِظات التي لا غنى عن استحضارها على أي حال، أهمية الحذر من المقدِّمات والإرهاصات التي تستبق حملات “التطهير العرقي” والترحيل القسري وسلب الأملاك والحرمان من حقّ العودة؛ وتأتي في صدارة ذلك خطابات التحريض والكراهية والازدراء والعنصرية، التي قد يتأتى لها توجيه السياسات وشحن المواقف وتبرير الفظائع والدفع نحو شرعنة هذا كلّه بأساليب محبوكة تُمعِن في الأذى والسلب والمطاردة.