مكافحة العنصرية والتعصب الطائفي وظيفة منزلية أيضاً

تهوي القيم والمبادئ في وادٍ سحيق عندما يُعدّ المسلك ذميماً ومُستنكَراً إنْ اقترفه “آخرون” فقط، ومشروعاً ومحبّذاً عندما نمارسه “نحن”،
وهذه علّة لم تنفكّ عن تحيّزات الاجتماع الإنساني. يتعيّن على الاستجابة لتحدِّي العنصرية والتحريض الأعمى والتعصّب الطائفي أن لا تخسر
موقفها المبدئي والتزامها القيمي عبر التحيّز والتناقض والانتقائية.

مكافحة العنصرية والتعصب الطائفي وظيفة منزلية أيضاً
حسام شاكر

يترافع بعضهم لأجل القيم والمبادئ والالتزامات فقط عندما يأتي ذلك في مواجهة “آخرين” فيجعلون جهودهم هذه مكرّسة لإدانة خصومهم؛ أو عندما نكون “نحن” ضحايا هذه النزعات السقيمة ولسنا الضالعين فيها أو المتستِّرين عليها.
يترتّب على هذا النفير الانتقائي سلوكٌ متناقض، يُعلن التصدِّي للكراهية العنصرية والتعصّب الطائفي في مواقف معيّنة، بينما ينخرط فيها أو حتى يؤجِّجها في مواقف أخرى، وقد يتحايَل بالتماس الأعذار والمسوِّغات لها، أو يُحابيها بالتجاهُل والسكوت وصرف النظر عنها عندما تطيب له.
يتجلّى هذا التناقض، مثلاً، في أوساط تستنكر ما يقع على بعض مهاجريها الذين استقرّوا في بيئات أخرى، فتتعالى الشكاوى، بحقّ، من تجاوزات عنصرية وحمّى كراهية عمياء ونزعات تحريض تستهدفهم، بينما لا تستوقف هذه الأصوات ذاتها ممارساتٌ شبيهة قد تكون أشدّ وطأة تجري من حولها بحقّ مكوِّنات محسوبة على خلفية هجرة أو فئات مهمّشة، أو لعلّها تُمارِس “هنا” بعض ما تنبذه “هناك”.
يظهر هذا الاضطراب أيضاً عند أقوام تشدِّد النكير، بحقّ، على خطابات وتعبيرات مُشبّعة بالتعصّب الأعمى والتحريض السقيم، يقوم بها “أولئك”، ثمّ نجد خطابات تعصّب وتعبيرات تحريض حاضرة في ثنايا خطابات ومواقف لدى تلك الأقوام؛ بلا خجل أحياناً.
ولا يندر أن يتداول بعضُهم نُتَفاً من نصوص منشورة أو شظايا من مقاطع مرئية يحتجّون بها على غلوّ خصمهم وتطرّفه ومدى عنصريّته وتعصّبه الطائفيّ، حسناً! .. لكنّهم يُظهرون حفاوة جليّة بنصوص ومقاطع طافحة بالتطرّف والعنصرية والتعصّب الطائفي ويتداولونها لأنّها تدغدغ رغباتهم الظاهرة وتتملّق نزعاتهم الطافحة. تلك إذاً قِسْمَةٌ ضيزى!
من الإنصاف التذكير بأنّ القيم والمبادئ تهوي في وادٍ سحيق عندما يُعدّ المسلك ذميماً ومُستنكَراً إنْ اقترفه “آخرون” فقط، ومشروعاً ومحبّذاً عندما نمارسه “نحن”، وهذه علّة لم تنفكّ عن تحيّزات الاجتماع الإنساني على أيّ حال، وقد ظلّ التنبيه إلى مزالقها حاضراً في رسالات نبوية ودعوات إصلاحية، فجاء الحضّ المتكرِّر على قوْل الحقّ والتزام القسط وتحرِّي العدل كما في قوله تعالى: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ [المائدة:8]. وقال عزّ وجلّ: ﴿وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى﴾ [الأنعام:152]. وقال تعالى أيضاً: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ۚ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا ۖ فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَىٰ أَن تَعْدِلُوا ۚ وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ [سورة النساء:135].
لا عجب أن يجري هذا المسلك الانتقائي في عالم يَذُمّ جرائم حرب وأعمال إبادة في بيئات ثمّ لا يتردّد بعضُه في دعمها عندما تقع في بيئات أخرى. بالوسع العثور على هذا التناقض الجسيم في نطاقات مصغّرة أيضاً طالما أنّ المواقف “المبدئية” و”الأخلاقية” والالتزامات “الإنسانية” و”الحقوقية” تتحدّد عند بعضهم حسب هويّة الجاني وهوية الضحية، فيقع تشغيل التعاطف الانتقائي وتحفيز النقد والذمّ على هذا الأساس.
تفاقمت الحالة مع صعود خطابات حقوق الإنسان في المشهد العالمي منذ خواتيم القرن العشرين، فقد راجت على منوالها تقاليد التراشُق الحقوقي الانتقائي، التي تُستخدم فيها منصّات ومنظّمات وتقارير مكرّسة لذمّ “آخرين” دون لوْم “الذات” أو ما يتّصل بها بسبب (حتى أنّ تقرير حقوق الإنسان الدولي الذي تصدره الخارجية الأمريكية يتعقّب الانتهاكات حول العالم ويستثني الولايات المتحدة منها). يَسهُل العثور على التوظيف الاستعمالي للخطاب الحقوقي في أروقة العمل الدولي، وتنكشف ذيول ذلك في مرافعات دؤوبة تنخرط فيها منظمات غير حكومية (بعضها حكومية في الواقع كما يعبِّر عنه المصطلح الناقد “منظمات حكومية غير حكومية” أو GNGOs اختصاراً)، كما يجري مثلاً بلا هوادة على هامش الاجتماعات الدورية التي يعقدها في جنيف “مجلس حقوق الإنسان” التابع للأمم المتحدة. ومن المفارقات أن تعلو شكوى بعض الأطراف والمنصّات من “ازدواجية المعايير” بينما هي ضالعة في هذا المسلك على نحو ظاهر أو مُستَتِر.
يجدر بذوي الألباب أن يعدّوا ما ينبذونه من خطابات ومواقف يأتي بها “آخرون” معياراً يتمثّلونه في واقعهم ويتفقّدونه من حوْلهم أيضاً، فيصير ما يستنكرونه عند غيرهم محفِّزاً للمراجعة والإصلاح في واقعهم بالأحرى إن وُجِد شيء من ذلك فيه، وهكذا يصير النفير لنصرة المبادئ والقيم التزاماً سابغاً ذا مصداقية مع الذات والآخرين بدل أن يركن إلى انتقائية متحيِّزة ومضطربة تستدعي المبادئ والقيم عندما يحلو لها وتطمسها عندما لا ترى مصلحة لها في ذلك.
يتعيّن على الاستجابة لتحدِّي العنصرية والتحريض الأعمى والتعصّب الطائفي أن لا تخسر موقفها المبدئي والتزامها القيمي عبر التحيّز والتناقض والانتقائية. وممّا يستوجب التنبيه إليه في هذا المقام أنّ مكافحة الكراهية العنصرية والتحريض الأعمى والتعصّب الطائفي هي “وظيفة منزلية” أيضاً، تستدعي تفقّد “الذات” وتحسُّس وجوه العِلَل المحتملة في واقعها، وإن كانت مهمّة ثقيلة على الأنفس غالباً، مع الحذر من الرُّكون إلى تقاليد تصيُّد ما يتورّط فيه “الآخرون” وحسب. إنّ الرضوخ لإغراء الاستدعاء القيمي والأخلاقي والمبدئي عندما يكون ذلك مُكرّساً ضدّ آخرين فقط؛ يشي بانجراف في دركات يدنو بعضها بعضاً وقد تهوي بسويّة الأمم والمجتمعات والأوساط الموبوءة بها، على أنّ مقاومة انحرافات الخطاب والمواقف هي من متطلّبات الاستقامة القيمية والارتقاء المبدئي والترشيد الذاتي واليقظة الأخلاقية.
ممّا يُعزِّز هذا التنبيه أنّ لبعض الخطابات المشبّعة بالعنصرية والتحريض الأعمى والتعصّب الطائفي متلازماتٍ نمطية تدرأ بها شبهة العنصرية والتحريض والتعصُّب عنها، كأن يُقال: “لستُ عنصرياً ولكن ..”، “لم نكن يوماً طائفيين ولكن ..”، “لسنا مع الكراهية العمياء إلاّ أنّ ..”، “موقفنا واضح ضدّ التعصّب لكنّ هذا لا يمنعنا من القول ..”! تلجأ هذه المراوغات اللفظية إلى حيلة دفاعية مألوفة تُمعِن في تنزيه “الذات” عن أيِّ اتِّهام وتمنحها امتياز الرِّفْعة فوق أيّ شبهة، بينما تستعمل سياط الذمّ والتشويه والتحريض بلا هوادة ضد “آخرين”؛ بحقّ أو بغير وجه حقّ.
من الاستجابات الواعية أو غير الواعية لتحدِّي الخطابات والمواقف العنصرية والتحريضية والطائفية؛ أن يجري تقمُّص سذاجتها ومحاكاة تهافتها من حيث لا يُدرَك القوم ذلك من أنفسهم أحياناً. فقد تنزلق الاستجابة للتحدِّي العنصري أو التعصّب الطائفي إلى اعتماد المنطق العنصري أو الطائفي ذاته أو محاكاته بدرجة ما، على نحو ما حذّر منه أبو تمّام: “إذا جارَيْتَ في خُلُقٍ دنيئاً .. فأنْتَ ومَن تُجاريه سواءُ”. فإنْ اعتدّ الخطابُ العنصري بالأصول السُّلالية والخصوصيّات الإثنية الخاصّة بقوْمه؛ قد تأتي بعض الردود عليه بخطاب مُناهِض له ظاهرياً لكنّها تدفع بالحجّة ذاتها على طريقتها الخاصّة، وهذا ما قد يقع في مواجهة خطابات التعصّب الطائفي أيضاً.
وإنْ باشَر مُنتَسبون إلى جماعة بشرية مُعيّنة شَتْم جماعة بشرية أخرى بدوافع عنصرية أو طائفية؛ فإنّ الردّ بالمثل يُفضي إلى التخندُق والتراشُق على أساس تعميمي عنصري متقابل، ما يعني تكريس العنصرية وإشاعتها وخسارة الموقف المبدئي والأخلاقي في آن، علاوة على إضعاف الجهود الجادّة التي تروم معالجة العنصرية والتفرقة وحشد المواقف والجهود المشتركة في التصدِّي لهذه الآفات.
إنّ محاولة دعم الموقف المناهض للعنصرية والتفرقة والتحريض والتشويه والتعصّب الطائفي بالتعبير عن نزعة مشابهة في الاتجاه العكسي؛ إنّما هو في جوهره تكريس للمنطق العنصري أو الطائفي أو هو رضوخ له بالأحرى. ويبقى التذكير بأنّ من عافية الأوساط والمجتمعات والأمم أن تتفقّد العِلَل المحتملة الكامنة فيها وأن تتمثّل القيم والمبادئ التي تفخر بالالتزام بها وأن لا تتواطأ مع انحراف الخطابات وانجراف المواقف.

*جميع المقالات المذكورة في الموقع تعبر عن رأي أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي المنظمة