الكاتب: أ.د. عمرو روابحي
تعد النزاعات ذات الخلفية الطائفية نزاعات صفرية وخيمة العواقب، لأنها تضرب أول ما تضرب مبدأ العيش المشترك بين المجموعات المتباينة ثقافيا على رقعة جغرافية واحدة، ويُسهم نشر الخوف والذعر بين الناس إلى الانكفاء على الطائفة والاحتماء بها، وهكذا تنشأ الكانتونات الطائفية داخل الوطن الواحد، وتدفع الأماكن المختلطة ثمنا باهضا نتيجة للتهجير والسعي نحو التطهير الطائفي داخل هذه الكانتونات.
وتأتي النزاعات ذات الخلفية الطائفية في صدارة أنواع النزاعات التي تخلف أكبر عدد من الضحايا وتحفر مخالبها عميقا في ذاكرة وسلوك المجموعات المتباينة طائفيا، مما يجعلها تشكل استثناءا على الدراسات التي تناولت متوسط المُدد التي تستغرقها الحروب الأهلية والتي تصل إلى 15 سنة، لتجعلها نزاعات دائرية ممتدة زمانا كلما هدأت تندلع من جديد، ويذهب السير بول كوليير (Sir Paul Collier) وهو أكاديمي بريطاني في كتابه “المليار القابع في الأسفل” إلى أن 50 % من الدول التي عاشت حروباً أهلية تكررت عندها الحروب أكثر من مرة خلال مدة وجيزة تصل إلى خمس سنوات كمتوسط، وذلك نتيجة لعدم معالجة أسباب وآثار النزاع، ومن القواعد المستخلصة في تجارب الأمم أنه لا يمكن أن تندلع ثورتين في جيل واحد، ولكن يمكن أن يشهد جيل واحد أكثر من حرب أهلية.
في كتابه الذي صدر عام 1971 والذي حمل عنوان “كل حرب ينبغي أن تنتهي”، يعبر فرد إكلي (Fred Ikle) عن ظاهرة صعوبة تقسيم الدول القطرية على أساس طائفي بسبب تداخل المجموعات الطائفية جغرافيا، فيقول: ” إن لم يكن التقسيم مآلا قابلا للتحقق بسبب استحالة إحداث فصل جغرافي بين طرفي النزاع، فيجب في هذه الحالة أن يحصل أحد الطرفين على كل شيء تقريبا، إذ لا يمكن أن يكون هناك حكومتان لدولة واحدة”، ومن الملاحظ أن العبارة الأخيرة محملة بكل معاني السحق للطرف الآخر والذي قد يصل إلى الإبادة الجماعية، وحتى في الحالات النادرة التي انشطرت فيها الدولة القطرية إلى دويلات حسب الطائفة، تحول النزاع من نزاع داخلي غير دولي إلى نزاع دولي على الحدود والموارد وبقيت الحرب تستنزف اقتصادات الدول الطائفية الناشئة حديثا.
وأمام هذه الحقائق لا مفر للدول متعددة الطوائف من التوافق على صيغة غير طائفية للحكم، تجسدها دولة المواطنة، أين تقف الدولة على مسافة متساوية من جميع الطوائف، وليست إقامة دولة المواطنة بشعارات تُرفع ومجاملات تتم، وإنما هو مسار طويل ومعقد ومنظومة تقنية متكاملة تبدأ بالإصلاح الدستوري ولا تنتهي عند رسم السياسات وتعديل السلوك المجتمعي الطائفي بتدابير طويلة الأمد.
يبدأ درب التعافي طويل الأمد للقطع مع الطائفية بالاعتراف الدستوري بالتعدد والتنوع داخل الدولة الواحدة، ويشمل الاعتراف إقرار الدولة بالأديان، المذاهب، اللغات، الأعراق، الثقافات الخاصة لجميع رعاياها، وحقهم في ممارسة خصوصياتهم بشكل علني وتدريسها لأبنائهم، وليس للدولة أن تمارس سلطانها للتدخل في تفسير الانتماءات الطائفية مستندة إلى الأنثروبولوجيا أو التاريخ أو غير ذلك، وإنما ما يحكم سلوك الدولة هو معيار الواقع، فهي ملزمة بأن تعترف للطوائف بما تعترف به هذه الطوائف لنفسها وعلى الوجه الذي توصف هي نفسها به في اللحظة الراهنة.
ولا يمكن للاعتراف الدستوري بالتعدد الثقافي أن يؤتي أكله من حيث الممارسة دون استكمال بقية متطلبات الإصلاح الدستوري الديمقراطي، كتجسيد مبدأ الفصل والتوازن بين السلطات الثلاث التشريعية، التنفيذية والقضائية، مع ضمان استقلالية السلطة القضائية، وتجارب الدول زاخرة بالآليات التي تضمن ذلك وتكون مناسبة لسياقات سياسية مختلفة، وعلى رأس هذه الآليات التشاركية بين السلطتين التنفيذية والتشريعية في تعيين كبار القضاة كما هو الحال في فرنسا، لأن استفراد سلطة من السلطتين المذكورتين بالتعيين سيكون فيه إخلال باستقلالية السلطة القضائية، أو انفراد السلطة التنفيذية بتعيين كبار القضاة مع منحهم حصانة دستورية ضد العزل من قِبل نفس السلطة، وهذا يشكل أيضا مسارا مقبولا تعتمده الولايات المتحدة على سبيل المثال.
في الدول التي عرفت نزاعات طائفية لم يكن في الإمكان فصل مسار كتابة الدستور عن ملف العدالة الانتقالية، ومقتضاها الاعتراف بالجرائم بشكل علني وطلب العفو من الضحايا، ويحصل الضحايا بالمقابل على الحق في معرفة الحقيقة كتعويض معنوي وعلى تعويضات مادية، وتلتزم الدولة في هذا المسار بمنع انخراط مرتكبي الجرائم في النشاط السياسي في المستويات القيادية وتحظر كذلك توليتهم لمناصب تنفيذية وأمنية قيادية، وبقدر ما يعتبر مسار العدالة الانتقالية مسارا مؤلما للضحايا وعائلاتهم، إلا أنه ضروري لنزع فتيل تكرر النزاع والانتهاكات.
وليس مسار العدالة الانتقالية مجديا على الدوام، ففي النزاعات التي عُرفت بارتكاب فظائع راح ضحيتها مئات الألوف من الناس وتم تهجير الملايين لاغنى عن تفعيل مسارات القضاء الدولي الجنائي إذا سنحت الظروف الدولية بذلك، أو ببناء قضاء وطني مستقل يُحاسب بصرامة القيادات السياسية والأمنية العليا المسؤولة عن ارتكاب جرائم لا تسقط بالتقادم، ويُلحق بهم التنفيذيون الذين ارتكبوا جرائم القتل والتعذيب والاغتصاب على وجه الخصوص، ولا شك أن كل ذلك مرتبط بتغير موازين القوة بين أطراف النزاع على الصعيد الميداني.
وبعد كتابة الدستور تأتي مرحلة سن القوانين والتنظيمات التي تفكك الطائفية، كحظر إجراء ونشر الإحصائيات على أساس طائفي، وحظر خطاب الكراهية والخطاب العنصري والمعاقبة عليهما، وقانون حرية الوصول إلى المعلومات، والقوانين التي تسمح بحرية إنشاء الجمعيات والأحزاب السياسية والصحف والدوريات والقنوات الإعلامية وغيرها من نصوص الحريات العامة.
ولا تكفي كتابة دستور جيد وسن نصوص قانونية جيدة في دول ما بعد النزاعات الطائفية، فدون سياسات حكومية تعتني بالذاكرة، تفقد النصوص القانونية قوة السياق الذي سُنت ضمنه بسبب تعاقب السنوات وإدبار الجيل الذي عايش المأساة، إن تخليد ذاكرة النزاع الطائفي عبر تحويل السجون والمحتشدات إلى متاحف ومكتبات، ووضع النصب التذكارية فوق المقابر الجماعية، وإدماج تعليم العيش المشترك ضمن مناهج التربية والتعليم، تعد مؤشرات حقيقية على نجاح الانتقال من دولة الطوائف إلى دولة المواطنة.
على مدار آخر مائتي عام راكمت البشرية حصيلة من التجارب جعلت من دولة المواطنة كتابا مفتوحا يحتوي حزمة تقنية واضحة من الإجراءات والآليات والتدابير التي لو نفذتها أي سلطة لتمكنت من تفكيك ألغام الدولة القطرية متعددة الطوائف ولتمكنت من تجنب سيناريوهات الدولة الفاشلة، بيد أن الدواء لا يكون دون مرض، ومن قدر كثير من الأمم أن تدفع ثمن الانتقال قبل تحقق الانتقال، وفي التجارب المعاصرة دفعت جنوب أفريقيا ورواندا والعديد من دول أمريكا اللاتينية هذا الثمن وقد تحقق الانتقال فيها بنسب متفاوتة، وما أحوجنا في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إلى الاستفادة من هذه التجارب دون تكبد تكاليف مضاعفة، وقد دفع الثمن باهضا ولا يزال في سوريا واليمن وغيرهما، وما أحوج الساسة والنخب عندنا كذلك إلى فهم إكراهات الجغرافيا، فالمنطقة برمتها تقع فيما يطلق عليه علماء الجغرافيا السياسية بمنطقة الارتطام (Crash zone) والانتقال نحو دولة المواطنة هنا يختلف عن الدول التي تقع في الأطراف.