ملاحظات في مفهوم “العنصرية” بين السياق الغربي والترجمة العربية:

ملاحظات في مفهوم “العنصرية” بين السياق الغربي والترجمة العربية:

1- يجب أن نلاحظ دوماً أننا لنفهم تعابير أدخلت إلى العربية لتقابل كلمات أوروبية، غالباً إنجليزية أو فرنسية، لا يكفي أن نعود إلى القواميس العربية القديمة، فهي لا تفيدنا إلا في تلمس السبب الذي جعل المترجم يختار هذه المادة بالذات. وضربت لذلك أمثلة في أماكن أخرى، فكلمة “مجتمع” قبل العصر الحديث كانت غير معروفة في العربية بهذا المعنى الاصطلاحي وإن كانت موجودة طبعاً تحت باب “جمع” على أنها اسم مكان أو مصدر ميمي. لكن المترجم اختارها لتقابل تعبيراً أجنبياً كان غير موجود في العربية وهو التعبير الفرنسي
société
أو الإنجليزي
society
وعلى هذا فلهذه الكلمة سياقان ثقافيان أو تاريخان إن شئت: سياق في اللغة الغربية الأصل وسياق في العربية بعد أن دخلتها، لأنها ستعاني في العربية تغيرات دلالية لأسباب مختلفة.
وبالمثل كلمة “ثقافة”: لا تفيدنا معرفة معاني مادة “ثقف” عند ابن منظور مثلاً إلا في جعلنا نفهم ما هو سر اختيار المترجم (وهو سلامة موسى) لها لجعلها مقابلاً -ترجمة- لكلمة
culture
الإنجليزية.
2- كثير جداً من المصادر الصناعية يجب أن نتوقع أنها ترجمة لمقابلات غربية، وهذا واضح في كلمات مثل “اشتراكية”، “وجودية”، ولكنك قد تضطر لخوض جدال مع من سينكر عليك قولك إن كلمات مثل “تعاونية” و”أنانية” هي أيضاً كلمات ذات أصل أجنبي.
ومن هذه الكلمات كلمة “عنصرية” أو رديفتها “عرقية”.
هذه الكلمة هي ترجمة عربية لمصطلح غربي هو بالإنجليزية racism .
سأبدأ أولاً بتلمس أسباب اختيار المترجم العربي أو المترجمين العربيين (ولا أعرف اسميهما) لمادتي “عرق” و”عنصر” في الترجمة. ولنعد إلى ابن منظور:
“عِرْقُ ڪُلِّ شَيْءٍ: أَصْلُهُ، وَالْجَمْعُ أَعْرَاقٌ وَعُرُوقٌ، وَرَجُلٌ مُعْرِقٌ فِي الْحَسَبِ وَالْكَرَمِ، وَمِنْهُ قَوْلُ قُتَيْلَةَ بِنْتِ النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ:
أَمُحَمَّدٌ وَلَأَنْتَ ضَنْءُ نَجِيبَةٍ فِي قَوْمِهَا وَالْفَحْلُ فَحْلٌ مُعْرِقُ
أَيْ: عَرِيقُ النَّسَبِ أَصِيلٌ، وَيُسْتَعْمَلُ فِي اللُّؤْمِ أَيْضًا، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: إِنَّ فُلَانًا لَمُعْرَقٌ لَهُ فِي الْكَرَمِ، وَفِي اللُّؤْمِ أَيْضًا”.
“العُنْصُر والعُنْصَر: الأَصل؛ قال:
تَمَهْجَرُوا وأَيُّما تَمَهْجُرِ،
وهم بنو العَبْد اللئيمِ العُنْصرِ
ويقال: هو لَئِيم العُنْصُر والعُنْصَر أَي الأَصل”.
3_عن مصطلح “العنصرية” في السياق العربي الحديث
كلمة racism استعملت أولاً في الإنجليزية على ما يبدو عام 1903، الكلام هنا عن الكلمة أما عن معناها الذي هو الاعتقاد بانقسام البشر بحكم الولادة (أو كما نقول الآن: بحكم الجينات الوراثية) إلى جماعات متفوقة وجماعات ذات قيمة متدنية فله تاريخ طويل في أوروبا، وقد وجدت تنظيرات واضحة مستتدة إلى علم مدعى عند الفرنسي دي غوبينو (1816-1882)
de Gobineau
في مقالة عنوانها “مقال حول عدم المساواة بين الأجناس البشرية”
Essai sur l’inégalité des races humaines
نشرها عام 1855 وقد وجدت صدى كبيراٍ وتحمس لها الأمريكان من مؤيدي نظام الرق خصوصاً فترجموا الكتاب إلى الإنجليزية ولكن حذفوا منه مقاطع يحتقر فيها الأمريكان الذين أفسدهم اختلاط الأعراق!
ويرى غوبينو أن ثمة ترتيباً طبيعياً يجعل البيض فوق السود والصفر يشغلون موقعاً وسيطاً، ولكن الآريين لهم وضع خاص متميز على الجميع.
وقد ساهم علم اللغة في وضع النظرية العنصرية عندما قسم اللغات بين آرية (هندوجرمانية) وسامية، وركبت النظرية العنصرية البيولوجية على الرؤية اللغوية لتخرج بفرضية تخلف “العرق السامي” وتفوق “العرق الآري”. وإذا كانت هذه النظرية ألصقت حصرياً بالعنصريين الألمان ففي الواقع كان الفرنسيون مبادرين و”مبتكرين” للنظرية العنصرية، والأخطر أنهم بحكم وضعهم الاستعماري طبقوا رؤيتهم على الشعوب المستعمرة، ونحن الآن لا نقرأ بما فيه الكفاية عن تأثير النظرية العنصرية على سلوك فرنسا في الجزائر مثلاً
وتجاوزت النظرية العنصرية الفرنسية الميدان السياسي إلى ميادين النقد الأدبي وكان من أكثر النقاد الأدبيين نفوذاً هيبوليت تين (1823-1893) وقد فسر الأدب بناء على نظرة جبرية يخضع إليها الأديب ويتأثر بثلاثة عوامل: البيئة والعرق والزمن.
ولا نزال إلى الآن نقرأ عرباً يكتبون عن تين باحترام دون انتباه إلى الطبيعة العنصرية الصريحة لنظريته!
ولم يكتف المثقفون العرب في النصف الأول من القرن العشرين بالمصادقة على نظريات تين بل صاروا يستخدمونها هم أنفسهم في دراساتهم للأدب العربي فوجدنا مثلاً (المازني والعقاد) اللذين قرأا شعر ابن الرومي على أرضية أصله الرومي (الآري)! وهذه الفرضية وجدتها عند معظم المثقفين المؤثرين في ذلك الزمان فقد رأيتها عند أحمد أمين وحتى مصطفى صادق الرافعي. وأعيد القارئ إلى مقال قديم لي وثقت فيه بعض هذا التأثر بعنصرية معادية للذات عند المثقفين العرب الأوائل عنوانه “مسلمات استشراقية في الثقافة العربية” وقد يذهلك أن ترى حجم الإعجاب بمستشرق مثل رينان كان يجاهر بانتقاصه من المنجزات الثقافية “للساميين” أي العرب!
لم تتحول العنصرية (أوالعرقية) الأوروبية إلى موضوع للنقد عند العرب إلا جزئياً، وبتأثير النقد الأوروبي للعنصرية خصوصاً بعد الكارثة التي جاءت بها في الحرب العالمية الثانية.
4- يبقى أن نتكلم عن وجود العنصرية (ممارسة لا مصطلحاً فقط) في السياق العربي الإسلامي:
ما من ريب في أن الإسلام، والمسيحية أيضاً ليسا منظومتين فكريتين تتقبلان في أصلهما النظرة العنصرية. والمبدأ الإسلامي الأكبر يضع مبدأ المساواة بين البشر وعدم التمييز بينهم إلا على أساس معيار التقوى. وهو ما تؤكده نصوص كثيرة.
يبقى السؤال عن التطبيق: لم تكد توحد في الثقافة الإ‘سلامية النزعة الأوروبية للتبخيس من قدر الشعوب الأخرى وعد شعوب أعلى بطبيعتها وأخرى أدنى بالخلقة والولادة،
ولكن ضمن المجتمع العربي ثمة مفاهيم في العربية تذكر بالعنصرية، قل: هي “عنصرية داخلية” إن شئت، منها ما رأيناه في المادة عن ابن منظور.
كان هناك “أناس عريقون” أو “كرام” وثمة أناس “عديمو الأصل” أو “لئام”. و “الكرم” و “اللؤم” عند العرب مقولتان تتعلقان بالنسب فثمة من هو كريم الأصل ومن هو لئيمه! وقد استمرت هذه النظرة في الثقافة الشعبية فهناك “ابن أصل” و “عديم الأصل” وهذا الانتماء الوراثي تنسب إليه مواصفات أخلاقية خاصة.
لم يستطع الإسلام تجاوز هذا الأصل القديم وظلت النظرة المميزة للناس على أساس أنسابهم معمولاً بها، بل وجدت من الفقهاء من يأخذها عندما اشترطوا مثلاً مبدأ الكفاءة بالنسب عند الزواج!
بل كل التمييز بين “أشراف” (أو “سادة”) وهم المنتمون إلى ذرية فاطمة رضي الله عنها وغيرهم معمولاً به مع أن القرآن، ربما والله اعلم ليحث المسلمين على تجاوز هذه النظرة لم يذكر من معاصري النبي إلا اثنين بالاسم: واحداً بالذم هو أبو لهب عم النبي والثاني في سياق تكريم ومراعاة هو زيد العبد!

د. محمد شاويش

*جميع المقالات المذكورة في الموقع تعبر عن رأي أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي المنظمة