غطرسة السكوت وعنصرية التجاهل

من شأن حيلة السكوت والتجاهل، أو الانشغال بانتهاك أدنى عن انتهاك أفظع، أن تكشف عن منطق لا تتساوى فيه حياة البشر ولا تتكافأ معه كرامتهم الإنسانية، وهي نظرة تخذل مبادئ المساواة والعدالة. يتجلى ذلك في خطابات تستبطن غطرستها وتعاليها وتستصحب عنصريتها وتحريضها بحقّ ضحايا مُحدّدين من شعوب أو مجتمعات مُعيّنة، وقد تتواطأ على سحقهم ونزْع القيمة الإنسانية عنهم ضمناً.

 

 

غطرسة السكوت وعنصرية التجاهل

حسام شاكر

لا يجرؤ قادة “الديمقراطيات” المُكلّلة بالشعارات الإنسانية والمقولات الأخلاقية على الإفصاح عن دعم إبادة جماعية أو تطهير عرقي أو فظائع جسيمة أو جرائم حرب أو انتهاكات مروِّعة تُقترف في بيئات مُعيّنة، حتى عندما يُساندون هذه التجاوزات الرهيبة حقّاً أو يتستّرون عليها. يلجأ هؤلاء بدلاً من ذلك إلى صياغات مُتحايلة لتغليف مواقفهم الآثمة، وتبرير ما يدعمونه من أهوال وانتهاكات واختلالات تتخلّل كوكبنا، وهم يتهاونون مع فظائع يُساندونها أو ينخرطون فيها، مُستعينين في ذلك بمراوغات خطابية فعّالة تتحرّى قلب الحقائق وتزييف الوقائع ولوْم الضحايا وتبرير الانتهاكات؛ لعلّ من أكثرها مراوغة حيلة السكوت والتجاهُل والإنكار.

قد يتواطأ القوْم في هذا المسعى على عدم الالتفات إلى مجزرة مروِّعة تجري تحت أنظار “القرية الكوكبية” مثلاً، أو لعلّهم يكتفون بردود فعل فاترة إزاءها، ويشيحون بوجوههم عنها نحو شواغل باردة يعدّونها – ضمناً – أجدر بالاكتراث. قد يبلغ التحايُل مبلغه عندما يُظهرون قلقهم من واقعة معيّنة تمثِّل انتهاكاً مُخففاً قياساً بجرائم كبرى من حولها لا تستوقفهم ولا تسترعي انتباههم، فهذه المراوغة يُراد منها أن تُظهِرهم في هيئة التزام أخلاقي لكنّهم يتجاهلون من خلالها ما هو أعظم وأخطر بإظهار الانشغال بما يدنوه في الأهمية والإلحاح، كأن ينشغل أحدهم بجرح يُسير في إصبع ضحية بتر المعتدون بعض أطرافها! (مثل استنكار “عنف المستوطنين” في الضفة الغربية وصرف النظر عن الإبادة الجماعية الرهيبة التي يقترفها جيش الاحتلال بدعم غربي في قطاع غزة!).

من شأن حيلة السكوت والتجاهل، أو الانشغال بانتهاك أدنى عن انتهاك أفظع، أن تكشف عن منطق لا تتساوى فيه حياة البشر ولا تتكافأ معه كرامتهم الإنسانية، وهي نظرة تخذل مبادئ المساواة والعدالة. وعندما يجري الاكتراث بالضحايا الأبرياء في أبرز منصّات السياسة والإعلام والثقافة بصفة انتقائية؛ فإنّ ذلك يشي بوضع بعض البشر فوق بعض في المرتبة والحقوق والاهتمام. ومن ذرّ الرماد في العيون أن يُمارس هذا التحايُل بطرائق شتّى منها الانشغال بانتهاكات موضعية محدودة بصفة متلازمة مع الإعراض عن انتهاكات جسيمة للغاية في البيئة ذاتها أحياناً.

وكما أنّ “الساكت عن الحقّ شيطان أخرس”؛ يبدو هذا النمط من المواقف والخطابات مُلائماً تماماً لدعم فظائع مُروِّعة وانتهاكات جسيمة في عصر مُسيّج بالمواثيق ومُكّلل بالقيَم ومحفوف بالشعارات النبيلة، فهي خطابات تستبطن غطرستها وتعاليها وتستصحب عنصريتها وتحريضها بحقّ ضحايا مُحدّدين من شعوب أو مجتمعات مُعيّنة في الأسرة الإنسانية المتنوِّعة؛ وقد تتواطأ على سحقهم ونزْع القيمة الإنسانية عنهم ضمناً.

لا عجب أن تسعى بعض السياسات جاهدةً في حشْد العالم ضدّ انتهاكات وممارسات معيّنة، باسم القيم الإنسانية، ثم تباشر حشْد العالم لدعم انتهاكات وممارسات أعلى جرماً وأكثر فظاعة ترى مصلحة في اقترافها في أقاليم أخرى، مُعبِّرة في ذلك عن تحيُّز جارف وغطرسة فاقعة وتجاهُل فظّ يمضي إلى حدّ إنكار الواقع واحتكار الحقيقة، فلا تُعدّ الإبادة الجماعية إبادةً إن مسّت قوماً بعينهم وإن ارتفعت مؤشِّرات ضحاياها الأبرياء إلى مستويات قياسية، ولا يُسمّى التطهير العرقي باسمه وإن مورس عبر البثّ المباشر، ولا تُصنّف جرائم الحرب المشهودة على حقيقتها هذه بل يُخفّف وصفُها وقد تُلتمَس لها الأعذار والمسوِّغات.

يتعيّن التنقيب عن هذه الحبكة المتحايلة في المسكوت عنه تحديداً، فمن الصمت أو السكوت ما ينهض بحياله بمقام القوْل، وقد يكون في هذا أبلغ من قوْل القائلين ونصّ الكاتبين، أمّا إن جاء سكوتاً على ما يستوجب الإنكار ويقتضي التعقيب؛ فإنّه قد يحمل شبهة ضلوع أو يشي بانعقاد تواطؤ.

على مفهوم الخطاب أن يتّسع كي يوافق الواقع، فهو يشمل النصّ بتمظهراته المكتوبة والمنطوقة، والصورة والتشكيل والألوان والأصوات وغيرها من المؤثِّرات، كما يستوعب البناءَ والتجسيد والترميز بأنواعه، ووجوهَ التصرّف بالهيئة والجسد بحركاته وسكناته. فهذه جميعاً، وما لفّ لفّها، تبقى وسائط تعبير تحمل رسائلها وإن لم تكن محبوكة بحرص دوماً، وقد تشحنُ هذه المؤثِّراتُ المُصاحِبة معنى ظاهراً من النصَّ المجرّد بدلالاتٍ معيّنة قد تزحزحه عن مواضعه أو قد تقلبه رأساً على عقب. فإنْ جاء استنكار لفظي لواقعتيْن متماثلتيْن تقريباً قد تحظى إحداها بمنسوب زائد عن الأخرى في انتقاء الألفاظ وكيفية التعليق والشّحنة الانفعالية المُصاحِبة، على نحو يرفع واحدة فوق الأخرى ويمنح ضحاياها اهتماماً زائداً لا تخطئه العيْن قياسا بأقرانهم. جرّب بعض التلاميذ شيئاً من هذا عندما أوجعهم ميْل المعلِّم أو المعلِّمة إلى إظهار شحنة تعاطف مع أحدهم أكثر من زميله وإن تساوى التعبير المنطوق في قالبه المجرّد، ولا يبتعد هذا عمّا دأب عليه مُتحايِلو السياسة والإعلام والثقافة في خطاباتهم ومواقفهم.

على أنّ الخطاب لا يقتصر على الظاهر منه أو الحاضر فيه، فهو يشمل الغائب فيه أو المغيّب منه أيضاً، أو المسكوت عنه بالأحرى أو المُتجاهَل والمستبعَد منه بالتالي. فيكون بعض السكوت من الخطاب، وعدم الاكتراث أيضاً، وكذلك الإعراض، كالإشاحة بالوجه بعيداً، ذلك أنّ الخطاب لا يقتصر على ما يُقال ويُصوّر ويُبثّ؛ فهو يشمل من وجوه معيّنة: ما لا يُقال ولا يُبثّ ولا يُصوّر أيضاً، وهذه الأخيرة قد تُسدِّد رسائلها بعناية على نحو مُراوِغ. فمن ينصرف عن انتهاك مُروِّع يجده في طريقه يمنح الانطباع بأنّ ما يجري لا يستحقّ التوقّف عنده ولا يستأهل الالتفات إليه ولا يستوجب الاكتراث به، وقد يشي ذلك باستساغة التجاوُز أو بنظرة احتقار إلى الضحية أو بشبهة تواطؤ مع الفاعل.

لا يتوقّف الأمر عند هذا الحدّ، فمَن يستنكر فظاعةً اقتُرِفَت قد يُحسَب هذا عليه، بحقّ، تهاوُناً معها إن بدا أنّه لم يُشدِّد النكير عليها، ومن يُشدِّد النكير عليها قد يُعَدَّ مِن المتقاعسين إن ظُنّ به الاقتدار على دفعها وردْع مثيلاتها واقتصر على حيلة القول السهْل دون أولوية العمل المُتاح.

لا تقتصر مراوغات السكوت والتجاهل والإنكار على الأوساط السياسية، فقد تتجلّى الحالة أيضاً في الفضاء العامّ والانشغالات الثقافية والإعلامية والمدنية عموماً. يحصل ذلك باستبعاد موضوعات معيّنة من أولويّات التداول إلى حدّ إخراجها من النقاشات العامّة أحياناً أو إقصاء مُعبِّرين عن آراء ومواقف لا تتوافق مع الوجهة المعتمدة فتُدفع إلى الهامش. وإن حضرت هذه الموضوعات حقّاً قد تتدخّل تقاليد معهودة في دفع التداول إلى مسارات مُتحيِّزة، كما تفعل وسائل إعلام ومنابر ثقافية ومنصّات مدنية عندما تنتقي ضيوفها وفق معايير معيّنة أو تحتكم مصطلحاتها إلى دليل مرجعي يُحدِّد قواعد التحيّز، أو عندما تفرض أولويّات معيّنة في التناول وتمارس التحكّم المُفرِط في التعبيرات. لا عجب أن تتكثّف بعض الاعتراضات المُحقّة في هوامش لا يكاد يعترف بها المركز، وأن لا تجد وفرة من المظاهرات والاعتصامات والمدوّنات الشخصية والمضامين الشبكية والتقارير الحقوقية والعرائض والبيانات حظوظاً تُنصِفها في وسائل الإعلام المركزية والمنصّات الثقافية الأساسية، وقد يطالها التشويه والتحريض والوَصْم عند التطرّق إليها.

وإنْ تعلّق الأمر ببعض القضايا والملفّات ذات الصِّلة بوقائع عالمنا قد نعثر حتى في بعض الأمم “الديمقراطية الحرّة” على “قبّة حديدية” تسهر على حجب أيّ اختراق نقدي للسردية المُعتمدة في مطابخ السياسة وصناعة الإعلام ومنصّات الثقافة، إلى درجة تبقى معها وجهة بعض السياسات الخارجية موكولة لراسمي الاستراتيجيات وقادة الحكومات دون اعتراض داخلي جوهري أو مناقشة شعبية جادّة؛ خاصّة عندما ينعقد التواطؤ على دعم إبادة جماعية أو تطهير عرقي أو فظائع مروِّعة أو جرائم حرب أو انتهاكات جسيمة. فلا غنى للسياسات المنحرفة عن طيّ صفحة النقاش الجادّ بشأنها وقطع الطريق عليه أو تسخيره لإنتاج مشهد نقاش مُزيّف خاضع لتحيّزات صارمة وأحكام مُسبقة، وقد تُطلق قنابل دخانية في الأجواء لحجب الأنظار عن الواقع وتضليل الجماهير بشأن التواطؤات القائمة.

يُمارَس الإقصاء بطرق غير ملحوظة أحياناً، مثلاً من خلال انتقاء متحدِّثين معيّنين وفرض أولويّات معيّنة في التناول والتحكّم المفرط في التعبيرات الواردة على نحو ما تنصّ عليه كرّاسات توجيهية داخلية في وسائل الإعلام تحت عنوان “السياسات التحريرية” مثلاً.

تتعدّد الحيَل المُستعملة في تعطيل النقاش بشأن الضلوع المباشر أو غير المباشر في دعم فظائع مروِّعة وانتهاكات جسيمة، فثمّة مُراوغات تُتيح إخراج مسائل معيّنة من النقاش أو تهميشها واستبعادها من أولويّات التناول، مثلاً من خلال تصنيفات ذميمة معيّنة تنزع أحقية أطراف الموضوع في التناول المتوازن، أو عبر ردع أصحاب الآراء والضمائر من الإفصاح عن قناعاتهم ومواقفهم بهراوة الوصم والترهيب من عواقب دمغهم بهذه التصنيفات. وحتى إن امتلأت الميادين بمظاهرات مُعترضة في بيئات ديمقراطية؛ فإنّ ذلك وحده ليس كفيلاً بمنحها فرصة حضور عادلة في المنصّات الإعلامية والثقافية المحسوبة على الوسط العريض “مين سْتريم” بل قد يحفِّز ذلك تشويه المعترضين والتحريض ضدّهم.

إنّ المسلك الانتقائي في الاكتراث بالانتهاكات يقوم على السكوت والتجاهل والإعراض بشأن بعضها والعناية الواضحة ببعضها الآخر. وممّا يترتّب على ذلك أنْ تُستدعى القيَم والمبادئ والمواثيق أو تُعطّل بصفة انتقائية سافرة حسب أولويّات السياسة واتجاهات المصالح، وأن تُستغلّ بعض القيَم والمبادئ بشكل سافر لتبرير الإجهاز البشع على الأبرياء.

يُمثِّل السكوت والتجاهل والإعراض تغليفاً مثالياً لنزعات غطرسة وتوجّهات عنصرية تنزع أهلية شعوب وأقوام ومجتمعات ومكوِّنات بالاكتراث اللائق بها أسوة بغيرها. وما يسري على الحاضر يُمارَس مع ملفّات الماضي الثقيلة أيضاً؛ مثل إعفاء سياسات وممارسات أمعنت في الإبادة والاستغلال والجرائم البشعة خلال العهد الاستعماري المديد من المحاكمة التاريخية والأخلاقية والمبدئية، والامتناع عن تمحيص بواعثها والتنقيب عن محفِّزاتها ومراجعة ذرائعها؛ التي يُعاد إنتاج بعضها بصيغ متجدِّدة في الاجتماع الإنساني الحديث والسياسات الدولية القائمة. تعمل هذه الانتقائية في كيفية فتح ملفّات الماضي ومراجعة أوزاره، فقد يتجلّى السكوت والتجاهل والإعراض مقابل إظهار اكتراث جزئي أو اهتمام موضعي على نحو يوافق تحيّزات مُعيّنة.

مِن الخلاصات المؤلمة التي استنتجتها شعوب وجماهير حول العالم أنّ قيمة الحياة الإنسانية والكرامة البشرية لا يُنظَر إليها على قدم المساواة، وأنّ الاكتراث بالضحايا الأبرياء ما زال يجري في أبرز منصّات السياسة والإعلام والثقافة بصفة انتقائية لا يمكن سترها، وأنّ بعض البشر ما زالوا يُوضَعون فوق بعض في المرتبة والحقوق والاهتمام. إنّ تقاليد السكوت والتجاهل والإعراض تعمل بفعالية لدعم سياسات ومواقف وتواطؤات ذات أثر قاتل ومدمِّر على بعض البشر.

إنّ عالماً يُحدِّد موْقفه من الفظائع طبقاً لهُويّة الجاني وهُويّة الضحية، ويمارس انتقائية فاضحة في التعامل مع الانتهاكات؛ هو عالم لا أمان فيه ولا حقوق ولا عدالة، ولن تتورّع دوله وجيوشه عن الفتك ببعض البشر لتمكين بعض السياسات التي تُقدِّم مصالحها على التزاماتها المُعلنة؛ وستظلّ الشعارات النبيلة مُسخرّة على هذا المنوال في خدمة القهْر والبطش والقتل والإبادة؛ وسيتواصل قَلْب الحقائق وتزييف الوقائع وتغييب الوعي بما يجري، مع التشهير بمن ينبرون إلى قوْل الحقّ وإنصاف المظلومين، خشية تداعي جدران الصمت وافتضاح تواطؤات التجاهل.

*جميع المقالات المذكورة في الموقع تعبر عن رأي أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي المنظمة